سفارة الثقافة الشنقيطية
الزمان أنفو – لكل أمة صناعة تفتخر و تتباهى بها بين الأمم، فيها تسكن روحها و عليها تضع ميسمها زهوا.
لكن “الصناعة” ليست مادية على إطلاق الصفة،بل ترقى في بعض الأمم إلى ما يسمو بالنفوس و يصقل الأرواح من أدران المادية المتوحشة.
و قد عرف العالم و قدر قبلنا – للأسف – صناعة أوائلنا الأماجد، أبناء أرض شنقيط و سفراءها البدو الذين أذهلوا أصحاب ربطات العنق العصرية الأنيقة في المشرق العربي و في أوروبا و بلاد ما وراء النهر و شرق آسيا، و قبل ذلك سكان القارة السمراء.
لم يكن الشنقيطي ( الموريتاني ) ذا تصنع و لم يكن صاحب رياء، بل كان ذلك الإنسان الشهم،الصلب،العارف بالله و بما أنزل،المتبحر في العلوم،المواضب على واجباته الدينية و الدنيوية، الملتزم بأخلاقه الفاضلة، الوقور،المترفع عن سقط متاع الدنيا، و ذلك سر تميزه و تقديره من لدن المجتمعات التي عايشته عن قرب.
مرة كنت في مجلس للطلبة العرب و الأجانب في أحد أحياء دمشق العتيقة، و تحديدا ” حي المهاجرين” على سفح جبل قاسيون، نهاية تسعينات القرن الماضي، و بينما أتجاذب أطراف الحديث مع شقيق تشادي فاضل و شهم كان يدرس معي يدعا عيسى المختار طاهر Issa Al Moukhtar Tahir دخل علينا طالب شيشاني،يبدو أن صديقي يعرفه، بعد السلام علينا قام عيسى – حسب العادة المشرقية – بتقديمه لي و العكس، فتهلل وجه أخينا الشيشاني و أعاد السلام علي بحرارة كبيرة، و طفق يردد علي السؤال التالي : أنت من بلاد شنقيط يا أخي ؟!..أنت من بلاد شنقيط يا أخي؟! …فأجبته : نعم أنا من بلاد شنقيط المعروفة حاليا بموريتانيا….. و دون استئذان خرج صاحبنا مسرعا، و بعد لحظات عاد و معه ثلاثة طلبة شيشانيين يدرسون معه الشريعة في جامعة دمشق مقيمون معه، و أخذوا يسلمون علي بوجوه يغشى السرور و الدهشة محياها…. و بدؤوا في التغني بمناقب الشناقطة الذين عرفوهم و تربوا على ثقافتهم في جمهورية الشيشان الإسلامية من خلال مؤلفاتهم و أشرطة ” الكاسيت ” و ذكر أشعارهم و فضائلهم على ألسنة علماء تلك البلاد…… أحسست حينها بشعور لا يمكنني وصفه لكم، فهو خليط من الزهو و الفخر بالانتماء لأول أرض “مس جلدي نرابها” ، و الحزن على رحيل آباء و أمهات عظام و عظيمات، تركوا إرثا كبيرا لأجيال ستأتي بعدهم لتورثه لأجيال لاحقة.
من عاش في بلاد المشرق و الخليج العربيين، لا شك أنه صادف مواقف مماثلة و سمع روايات مشرفة لسفراء الثقافة الشنقيطية بتلك الأقطار.
فالصناعة الثقافية الشنقيطية لا تضاهيها صناعة، و هي ” ماركة ” مسجلة لسدنة الحرف في هجير الصحراء الشنقيطية القاسية، التي فجرتها علوم القرآن و الفقه و الشعر عيونا و ينابيع رقراقة حولت لظى الرمل حقولا و بساتين ظليلة.
فعلينا كموريتانيين أن نفخر ب ” صناعتنا ” الشنقيطية و أن نحميها، أمام زحف الصناعات الأجنبية المستوردة، بتطويرها و إغنائها بكل جديد،دون الانسلاخ من جوهرها الذي هو – في حقيقة الأمر – سر خلودها.