العربي ولد جدين يواجه ولد الطلبة: خريطة تتشكل وصراع من نوع جديد..
تعيش مقاطعة شنقيط التاريخية منذ شهور إرهاصات تحول عميق في خريطتها السياسية التقليدية مع بروز أقطاب و”مشاريع أقطاب” خارجة من رحم القطب التقليدي المهين، ومتمردة عليه.
فمنذ بداية المسلسل الديموقراطي؛ أجمعت القيادات التقليدية في المدينة على اتباع آلية محددة للتعاطي مع مختلف الاستحقاقات الانتخابية؛ تقوم على مبدأ تعيين جميع “منتخبي” المقاطعة من طرف مجلس محلي من الشيوخ أطلق عليه اسم “الطائفة”، على أن يتم بعد ذلك انتخاب هؤلاء “المنتخبين” انتخابا صوريا وشكليا، بعد إلزام سكان المقاطعة بالتصويت لمن اختارتهم “الطائفة” التي ظلت لعدة عقود هي “السلطة والإدارة الفعلية” في المقاطعة؛ حيث ظل أغلب الحكام والولاة والمسئولين العموميين يتعاملون معها ويخطبون ودها ويتقاسمون معها “مغانم الدولة وأموالها ومشاريعها العامة”.!! تشكلت هذه “القيادة المحلية التقليدية” من شيوخ ورموز محلية طيبة؛ لكنها لم تستطع إدراك ضرورات التطور وإكراهات بناء الدولة العصرية التي تفترض اختفاء “السلطات القبلية التقليدية”، أو تراجعها لصالح “سلطات حديثة وعصرية” مثل (سلطات الدولة، والنخب، والأحزاب، ومؤسسات المجتمع المدني، والرأي العام.. الخ). وكان من أبرز هذه القيادات: عبد الله ولد السلك، محمدو ولد محمد محمود، محمدو ولد أبنو، عبد الرحيم ولد الحنشي، محمد محمود ولد الخرشي، الولي ولد ماء العينين.. وآخرون). وقد اتفق هؤلاء الشيوخ مع تنصيب أول مجلس بلدي؛ على شخص العمدة، لكنهم واجهوا أول إخفاق عندما استطاع شيخ أم ولد أوداعه (وهو أحد الشباب المثقفين كان ضمن اللائحة البلدية) من إقصاء مرشح الشيوخ حين ترشح للمنصب فجأة وحظي بتصويت أغلبية المستشارين البلديين حينها؛ ليصبح بذلك أول عمدة لبلدية شنقيط. ومع توسيع مجال المشاركة الشعبية لتشمل النواب والشيوخ إضافة للبلديات؛ اجتمعت طائفة الشيوخ واتفقت على قسمة تقليدية قبلية محضة للمقاعد الانتخابية؛ فقررت أن يكون عمدة البلدية من قبيلة إدوعلي (حيث تولاه محمدو ولد أبنو)، وكذلك شيخ المقاطعة الذي تولاه حينها اسلمو ولد احمدان، وأن يكون النائب من قبيلة لقلال؛ حيث رشح له الشيوخ عبد الرحيم ولد الحنشي الذي فاز على مرشح الحزب الجمهوري حينها السيد محمد ولد الحيمر.. وأكملت الطائفة قسمتها القبلية التقليدية بمنح رئيس قسم الحزب الحاكم لأولاد غيلان بشكل دائم؛ حيث تولاه على التوالي كل من: أحمد ولد بلاه ولد مكي وانجاي ولد تكدي يرحمهما الله؛ ثم بعد ذلك بمبه ولد لفرك. وقد ظلت هذه الطائفة قوية ومتماسكة تفرض رأيها ومرشحيها على الجميع إلى أن حدث أول انقسام داخلها خلال الانتخابات النيابية عام 1996؛ عندما تسببت خلافات شخصية بين العمد محمدو ولد أبنو والنائب عبد الرحيم ولد الحنشي إلى ترشيح ولد أبنو نفسه مستقلا لمقعد النائب ضد ولد الحنشي الذي رشحه الحزب الجمهوري آنذاك؛ وانتهت المبارزة بفوز ولد أبنو الذي أصبح عمدة ونائبا في نفس الوقت؛ وظل كذلك إلى أن أجريت الانتخابات البلدية الموالية؛ فلم يترشح لها مكتفيا بمقعد النائب؛ ومفسحا المجال لمحمد ولد اعماره (مرشح الطائفة) كي يصبح عمدة للبلدية؛ ولتستعيد به قبيلة لقلال مقعدا انتخابيا بديلا عن مقعد النائب. لم تغفر “الطائفة” التقليدية لولد أبنو خروجه عليها وترشحه لمقعد النائب؛ وظلت تتحين الفرصة للانتقام منه إلى أن كانت الانتخابات النيابية لعام 2001؛ حيث قام الحزب الجمهوري بإعادة ترشيح ولد أبنو؛ فرشحت الطائفة ضده أحد عناصرها من الوزن الثقيل وهو رجل الأعمال ذائع الصيت حمود ولد الخرشي الذي احتل مقعد النائب تحت راية حزب التجمع من أجل الديموقراطية والوحدة، وبذلك استعادت الطائفة جانبا كبيرا من هيبتها وتماسكها وقدرتها على أخذ زمام المبادرة في المقاطعة. ورغم قوتها وإسنادها الكبير من رجال المال والأعمال إلا أن مجموعات شبابية ظلت تعارض هذه الطائفة في مختلف الاستحقاقات الانتخابية؛ غير أن المكاسب التي كانت تحققها تلك المجموعات ظلت محصورة في الحصول على بعض المستشارين البلديين المحدودين والذين ظلوا يمثلون صوت “المعارضة المحلية” داخل مختلف المجالس البلدية لشنقيط دون كبير تأثير على أداء تلك المجالس وسطوة “الطائفة” عليها. وواجهت الطائفة أكبر تحدي لها كاد يفقدها السيطرة على جميع المقاعد الانتخابية في العام 2006 عندما اضطرت قوى المعارضة الشبابية مرشحها النيابي العربي ولد جدين على خوض شوط ثان مع منافسه الشاب عبد الرحمن ولد انجيان الذي خسر هذا الشوط بسبب ضعف التنسيق بين القوى الشبابية “المعارضة”؛ رغم أن الأصوات التي حصدها المرشح النيابي الشيخ إبراهيم ولد الطلبة (الذي حل ثالثا في الشوط الأول) كانت كفيلة بتغليب كفة ولد انجيان لولا القدرة المالية الكبيرة للطائفة والتي سمحت لها بإعادة نقل جميع المسجلين المنقولين من خارج المقاطعة كي يصوتوا لها في الشوط الثاني؛ وهو ما أعيا المقدرة المادية لولد انجيان والمتحالفين معه؛ فضلا عن تراجع بمب ولد لفرك عن دعم ولد انجيان وارتمائه في أحضان الطائفة بعد أن لم تحصل اللائحة التي كان على رأسها سوى على أربعة مستشارين بلديين من أصل 15 مستشارا بلديا. لكن المفارقة الأغرب هي أن القوى الشبابية التي عجزت عن دخول المنافسة البلدية عام 2006 بلائحة موحدة؛ تمكنت رغم ذلك من الحصول على ثمانية مستشارين بلديين من خلال ثلاث لوائح: واحدة على رأسها بمب ولد لفرك (4 مستشارين)، والثانية على رأسها أحمدو ولد أبنو (3 مستشارين)، والثالثة على رأسها عبد الرحيم ولد اسويدات تغمده الله برحمته الواسعة (مستشار واحد)؛ بينما حصلت لائحة محمد ولد اعمارة (مرشح الطائفة) على سبعة مستشارين فقط وهو ما يعني (نظريا) خسارتها لمقعد العمدة الذي سيصوت عليه المستشارون؛ لكن ذلك لم يحدث؛ لأن أول من صوت لولد اعمارة هم “قادة” معارضته: بمب ولد لفرك، أحمدو ولد أبنو، وعبد الرحيم ولد اسويدات!!!!!!!!!! رغم أن هذا الأخير (للأمانة) طالب الرجلين الآخرين بأن يتفقا على واحد منهما كي يصوتوا له جمعا؛ غير أن فعل المال السياسي كان أسرع وأمضى تأثيرا من جميع محاولات ولد اسيودات يرحمه الله، ومن جميع مناشدات باقي المستشارين والقوى الداعمة لهم بأن يبتعد هؤلاء عن المتاجرة بأصوات تلك القوى وتضييعها في مهب ريح المضاربات السياسية الواطئة!!. فهل تضيع القوى الداعية للتغيير فرصة الانتخابات الحالية كما أضاعت فرصة العام 2006؟ إن كل المعطيات الظاهرة تشير إلى بداية فعلية لأفول “النجم السياسي” للطائفة التقليدية في شنقيط؛ بل لمختلف الطوائف المماثلة في أغلب أرجاء موريتانيا. لقد فقدت “طائفة شيوخ شنقيط” ركيزتين أساسيتين من ركائزها أما أحدهما فهو حمود ولد الخرشي الذي يقال إنه اعتزل الحياة السياسية وأصبح زاهدا فيها كما كان طيلة حياته زاهدا في الدنيا كلها رغم إقبالها عليه؛ وهذا يعني فقدان الطائفة لمصدر تمويلها الرئيس وداعمها الأول.. أما الركيزة الثانية فهو نائب شنقيط السابق عبد الرحيم ولد الحنشي الذي اختلف مع الطائفة لأسباب غير مفهومة واستعاد علاقته الحميمة بغريمه الأول محمدو ولد أبنو بفضل جهود الإطار الشاب الشيخ إبراهيم ولد الطلبة الذي ظل منذ العام 2006 يترشح لنائب المقاطعة مؤكدا أن لا هدف أساسي عنده من ممارسة السياسية سوى إنهاء الوجود السياسي المهيمن لطائفة الشيوخ الذين يقول إنه من الأجدر بهم التخلي عن الانخراط في السياسة والاهتمام بدل ذلك بالمجال الاجتماعي الصرف؛ وهو تصور يتقاطع فيه مع أغلب “القوى الشبابية” المعارضة للمنهج والأسلوب ولشكل الممارسة السياسية عند تلك الطائفة. وفضلا عن هذين الرجلين الوازنين؛ فقد فقدت الطائفة كثيرا من التعاطف الشعبي بسبب إصرارها على فرض مرشحين محددين تستخدمهم دائما في التنكيل بخصومها بغض النظر عن قيمة أولئك المرشحين ومستوى أدائهم لصالح المقاطعة وسكانها. وقد زادت غضبة هؤلاء السكان حين قررت الطائفة فرض ترشيح محمد السالك ولد دومه عمدة لبلدية العين الصفرة من حزب الاتحاد على حساب عمدتها الحالي إدوم ولد العالم المحبوب على نطاق واسع داخل بلديته؛ وكان مبرر الطائفة الوحيد للاعتراض عليه –رغم إنجازاته- هو أنها لم تعد متأكدة من أنه هو مستشاروه سيصوتون لصالح شيخ المقاطعة سيدينا ولد الديدي مستقبلا؛ ما جعل سكان العين الصفرة يقولون إنهم لا يفعلون شيئا بمرضاة “طائفة” لا تجد حرجا في أن تضرب عرض الحائط بمصالح بلديتهم في سبيل الحفاظ على مصالح “صديق شخصي”، هو شيخ المقاطعة. وتتضح الآن معالم قوة سياسية محلية معارضة للطائفة ومرشحيها (محمد ولد اعماره، العربي ولد جدين؛ سيدنا ولد الديدي) يتصدرها الوجيهان: عبد الرحيم ولد الحنشي ومحمدو ولد أبنو (من طائفة الشيوخ)، إضافة لعميد عمد بلدية شنقيط المفتش شيخ أم ولد أداعه، ومرشح النيابيات الماضية الإطار الشاب عبد الرحمن (اللال) ولد انجيان، ومرشح هذه القوة الجديدة لبلدية شنقيط الأستاذ المحامي عبد الله ولد تاج الدين؛ إضافة لعمدة العين الصفرة ومرشحها الحالي إدوم ولد العالم، وعدد من الشباب والناشطين السياسيين في المقاطعة. إلا أنه –رغم ذلك- فإن القوى المعارضة للطائفة التقليدية لم تتمكن بعد من الاتحاد في جبهة واحدة؛ حيث قام بعض شبابها بإيداع لائحة للمنافسة على بلدية شنقيط عن طريق حزب “الوئام” لتنضاف إلى ثلاث لوائح أخرى واحدة لحزب التحالف، والثانية للحزب الحاكم، والثالثة من حزب “حشد” قدمتها القوة الجديدة. ويمكن الجزم انطلاقا من المعطيات الحالية أن أيا من هذه اللوائح لن يتمكن من حسم الصراع في شوط واحد؛ وأن الشوط الثاني سيكون حتميا؛ حيث يرى مراقبون محليون أنه سينتهي بهزيمة مرشح الحزب الحاكم بغض النظر عن اللائحة التي ستنافسه؛ لأن مؤيدي اللائحتين الخاسرتين لن يصوتا له تحت أي ظرف. أما بالنسبة للنيابيات؛ فرغم أنه لم يتقدم لها حتى غير الشيخ إبراهيم ولد الطلبة؛ إلا أن أغلب سكان المقاطعة يتوقعون أن يكون منافسه من الحزب الحاكم هو النائب الحالي العربي ولد جدين الذي نقل عنه قوله إن رئيس الجمهورية طلب منه الترشح، ويعتقدون أن العربي سيخسر السباق بسهولة؛ وذلك لأربعة أسباب رئيسة: – السبب الأول: هو شدة المعارضة التي يلقاها ولد جدين في مدينة شنقيط – والسبب الثاني: هو انعزالية ولد جدين وعجزه (طيلة مأموريته) عن ربط أي علاقة بأي من سكان المدينة الذين ظل منكمشا عنهم؛ حيث لا يزور المدينة إلا لماما، وإن زارها لا يقبل الالتقاء بأحد من سكانها سوى أسرته أو قيادة الطائفة التي رشحته. – وأما السبب الثالث فهو معارضته من قبل إدوم ولد العالم عمدة العين الصفرة، وبالتالي تصويت أغلب سكان تلك البلدية المنتظر ضده. – ورابع الأسباب: يتعلق بشخصية منافسه الشيخ إبراهيم ولد الطلبة وما يميزها من بساطة وانفتاح على كل فئات المجتمع واختلاط بها، وقدرته العجيبة على الاستمرار في علاقته الطبيعية بالناخبين منذ ترشحه عام 2006 حتى الآن. إن هذا التحليل يقوم على فرضية أن ولد جدين هو من سيرشحه حزب الاتحاد من أجل الجمهورية؛ غير أن هناك من له رأي آخر يقول إن الحزب لن يرشح العربي ولد جدين بعد ما رشح ولد اعماره فأغضب القوى المطالبة بالتغيير؛ ثم أغضبها ثانية بإقصاء ولد العالم الذي كانت تطالب بتثبيته؛ وبالتالي فإن الحزب سيعمل على استرضاء هذه القوى بعدم ترشيح ولد جدين. هذه وجهة نظر بعض المحللين، غير أن هناك تحليلا آخر يبدو أكثر عمقا ومعقولية؛ يقول بأن حزب الاتحاد والنظام الحاكم تعمدا تجاهل بعض مطالب التغيير في بعض الدوائر الانتخابية “الهامشية” ورشحا فيها أشخاصا لا يريدان لهم أن يكسبوا السباق الانتخابي وذلك من أجل أن تكسبه أحزاب أخرى حتى لا تسفر الانتخابات القادمة عن اكتساح الحزب الحاكم لكل الدوائر الانتخابية ما يجعل بعض المراقبين (خصوصا الأجانب) يعتقدون أن هذه الانتخابات لم تكن معبرة تعبيرا جديا وحقيقيا عن تنوع المشهد السياسي الموريتاني واختلافه. ويعضض هذا الرأي الطريقة الغريبة التي تعامل بها الحزب الحاكم مع اللوائح التي قدمت له في شنقيط؛ حيث تجاهل بعضها تماما، ولم يبذل أدنى جهد للتوفيق بينها؛ كما لم يسع إلى إدخال بعض أعضاء اللوائح التي أقصاها في تشكيلة اللائحتين اللتين اعتمدهما في شنقيط والعين الصفرة، وكأنه يبالغ في أسباب إغضاب بعض الناخبين حتى يضمن عدم تصويتهم لمرشحيه فيخسرون السباق لصالح أحزاب أخرى؛ أو لأن أطرافا ما تريد التخلص من هؤلاء المرشحين بطريقة تنهي حياتهم السياسية وتحملهم وحدهم مسئولية فشلهم وفشل الحزب معهم. والله أعلم…