يوميات عاشقة الضفة – سبتمبر – أكتوبر/محفوظه زروق
سبتمبر 2023
الزمان أنفو – 12سبتمبر-
امض في سبيلك أيها السيل لا تحاول أن تهز كياني لتجرني للوراء لأني في الأصل لا أميز بين مسقط رأسي و بقية مناطق بلادي و حتى و إن تزاحمت كلماتي على موقع الوصف، لم أعد أملك وقتا للوقوف على الأطلال!
كان بودي أن أتعامل بالتساوي مع جميع مناطق أرضي بل حاولتُ أن أقلل من شأن تكانت رغم طبيعتها الجبلية و لما رأيتُ الماء يتدفق بين الجبال المطلة على الغدية العظيمة لم تتركني مشاعري و شأني فسلام يا أرض الشلالات و السيول و الينابيع و رمال كالجوهر المكنون، سلام يا رئة الأرض، إن لي مآرب بآثار أقدام تركها الغائبون على تلك البطحاء أصيك بها خيراً لا أريد أن تمحوها السيول و ذكريات تركتها في زاوية بيت عتيق لا أحب أن تكون غثاء لسيول أيلول التي أستقبلها بالزغاريد من بعيد و أنا على يقين أن الرَّكْنَه ستلبس ثوب النعيم مادامت تنشماط بيدها زمام الأمور.
آه، لو أنني أستطيع التحكم في مشاعري فأخبئ بين الصخور حبي لهذه الديار و أهلها لكن الأمر خارج عن إرادتي ” و للناس فيما يعشقون مذاهب”.
25سبتمبر 2023-
وقفتُ على ضفة نهر صنهاجة، أتأمله و بداخلي شعور بالتنافس غريب لكن أغصان أشجار الضفة الأخرى حجبت عني الأفق البعيد ربما لتجنبني الوقوع في فخ المقارنة العقيمة أو لتجبرني على المقارنة بين نفسي و نفسي.
خرجنا من نواكشوط و غيوم السماء ترسم لوحة فنية بشكل خريطة بلادي، سرنا في اتجاه جنوبها حيث ترتدي سهول البراكنه ثوبا بلون أحلامي، ترعى عليها الأنعام و الخيل المسومة و في السماء تحلق الغربان في انسجام تام مع الطيور الجارحة ليكتمل توازن الطبيعة بعد مغيب شمس البراكنة حين تخرج الأفاعي و العقارب و كل الحشرات المؤذية رغم أنه في الحقيقة لا شيء يؤذيني أكثر من رؤيتي لقطع القمامة تذروها رياح الإهمال العاتية داخل أحياء البراكنة السكنية باستثناء مدينة بُوگى .
مررنا ببوگى بعد ليلة ماطرة حيث شاهدنا في وسطها جماعة موحدة الثياب يمسكون بالمكانس لإظهار الوجه اللائق بدبانگو القديمة التي حدثتنا أزقتها النظيفة نيابة عن سكانها كأن القدر ينتقيهم دون غيرهم من المدن التي مررنا بها، حتى حبة الموز التي أخذتها من سوقها، كان لها طعماً خاصاً و الشيء يرجع في المذاق لأصله و طعم الفواكه المستوردة لم يعد يروق لي منذ بدأتُ أعود نفسي على راحة الضمير فهل تسمحولي أن أتابع ترجمة علاقتي الوجدانية بهذه الأرض؟
كل ما نفعله على سطح أرضنا هو نابع من علاقتنا بها و حين نسقط هذه المشاعر على تفاصيل حياتنا فإنني أجزم أن الشخص الذي يتبول في الأماكن العامة أو على الحيطان و عجلات السيارات لا يحب موريتانيا و الذي يغض عنه البصر مثله و من يبصق على أرض ما فهو لا يحترمها و من يرمي الأوساخ في الأماكن الغير مخصصة لها لا يحب الوطن و من تلطخت يداه بالمال العام لا تربطه بموريتانيا رباط وثيق و الحكومة التي لم تنه صلاحية أكلة المال العام و هي على يقين أنها على موعد مع الله بمفردها أستغرب من أمرها… ! و إني أسامح ألف عدو و لا أسامح من أعطيته صوتي و لم أر له آثراً في بلادي لأن أكبر غلط أن نسامح دائما الأشخاص الغلط على نفس الغلط…و قبل أن نغادر البراكنة و مراعيها التي تنتشر عليها المواشي بكثرة، فهل من مجيب على سؤال قفز الأن على ذهني، هل كان شبابنا سيهاجر عبر الجدار المكسيكي لو شُيدت قرب هذه المراعي مصانع للجلود و السماد و الصوف و الحليب و مشتاقته…؟
تابعنا السير و كل منا مشغول بالتحديق في شمامة الجميلة، بحقولها و طيورها البيضاء الأنيقة و شمسها الدافئة الحنونة التي يعكسها نهر صنهاجة العظيم و هو بدوره يتابع في مساره حتى يصب في المحيط دون أن يختلطا فسبحان من هذا ملكه، وهب لنا شمامة إن أعطيناها أعطتنا أكثر و فلاحتها عبادة فالحمد لله و الشكر له!
كل الطرق التي سلكنا لا بأس بها رغم القليل من الحفر و المطبات على امتداد كيلمرات من روصو التي تحتاج للأسف للنظافة و الصرف الصحي قبل أن يدوس ماء السماء على كرامتها و من هنا بدأت الترارزه حيث رائحة الجيفة المتناثرة على امتداد طريقنا إلى نقطة البداية.
أهل الترارزة، أنتم أهلي و أحبتي لكني في العام الماضي، خلال رحلتي إلى جوخة، ذكرتكم بضرورة دفن الجيفة و قد سبقني لذلك الغراب، لأنها حقاً لا تتماشى مع مساجدكم التي تبث المدائح و صلاة الفاتحة و لن يرضيكم أن تعكر الجيفة مزاجي كلما مررتُ بأرضكم حتى تجف عباراتي و تضيق كلماتي و أنتم على علم بحبي لكم في الله.
04أكتوبر 2023:
يقال إن أصحاب موهبة تقصي الأثر يسهل عليهم تحديد طبيعته و بيان ما إذا كان صاحبه مسرعا أم متمهلا أم يحمل أشياء ثقيلة …فيا ليت رئيس الجمهورية يتفرَّس في أثري على الرمل قبل أن تمحوه رياح تشرين!
جاء تشرين وقلبي يتسكع في بيداء الكآبة حاملة على ظهري أضعاف وزني من هموم بلد ولدتُ فيه بدون إذني لكني مسكونة بعشقه ولستُ ممن يمتهنون الحط من قيمته رغم بعض المشاهد التي ترسخ في ذهني فلا تغادره، كمجاورة من أقبلت عليهم الدنيا لمن أدبرت عنهم في أحياء تفرغ زينه و كباتها العشوائية .
ليس من الإنصاف أن أحملك مسؤولية وجود فقراء في بلد أنت تحكمه و كل بلدان العالم يسودها التفاوت الطبقي لكني أحملك و أسلافك من سكان القصر الرمادي عدم اهتمامكم بمظهر العاصمة إلا إذا كانت عندكم مبررات لوجود خمسة أكواخ عند سفح كل قصر من قصور الأحياء الراقية تسرح أغنامهم و تمرح متلفة الأشجار التي تزين بعض واجهات المنازل و أطفالهم يبولون و يتغوطون في الشوارع و تراهم في أوقات الدراسة ينبشون براميل القمامة… والأخطر من كل هذا أنهم يتفرجون على أترابهم في الجوار يركبون سيارات فاخرة و يأكلون مما لذ و طاب و هم و ذويهم يعيشون على الهامش… ألا تفكرون معي في نفسية هؤلاء الأطفال؟ ألا تفكرون في مصيرهم بعد عشرين عاماً؟
بعد عشرين عامًا سيقول ابراهيم إنهم مهمشون و يقول داوود إن ذويهم لم يرسلوهم إلى المدرسة و سأقف أنا مع داوود رغم صداقتي مع ابراهيم لأنه في نظري من فاتته فرصة التعليم همش نفسه بنفسه و تظل الزامية التعليم أهم الخطط الاستراتجية التي تساعد في الحد من الفقر المدقع كي لا يورث للأبناء ! كما أن توعية أولياء أمورهم بأهمية التعليم و النظافة صارت من الضروريات الملحة بعد ترحيلهم إلى أماكن خاصة بهم ثم مساعدتهم من طرف الحكومة و جميع المواطنين الموريتانيين بدون استثناء … ! أناشدك يا سيدي الرئيس أن تضع حداً لهذه الظاهرة التي لم أشاهدها في أي مدينة من العالم سوى نواكشوط!
لقد أنستني هموم الوطن همومي على كثرتها لكني لا أفضل ذكرها لك و أفوض أمري إلى الله و إليه أفوض أمور الوطن بما فيها رداءة خدمات موريتل و الانقطاع المتكرر للكهرباء الذي أحرق في قيظ الصيف ثلاجتي و الذباب يا سيدي الرئيس، إنه من أكثر الحشرات إزعاجًا للبشر ولم يعد له وجود في العالم الأخر و كذلك الناموس سيئ الصيت الذي اختارني من بين كل البشر …! أريد نواكشوط مدينة ممتعة يمكن العيش فيها و كذلك جميع مدن الوطن ثم تقبل فخامة الرئيس فائق احترام و تقدير المواطنة محفوظة زروق.
06أكتوبر 2023 باريس:
تهاتفني صديقتي، تسأل عن حالي مع البق الذي احتل بعض المنازل الفرنسية حسب ما ورد على لسانها و لسان قناة الجزيرة و أنا في الحقيقة استبعدتُ الأمر كثيراً لأني لم أجد أصعب من الحديث عن كائنات صغيرة في حضرة فخامة برج إيفل العظيم الذي هو أحد البراهين الساطعة على أن الناس هنا تعمل بإخلاص و جد.
أتأمل العناق الساحر بين الحضارة و الحداثة في إطلالة أيقونة الموضة و العطور التي وصلتُ إليها بعد غياب طويل غير مقصود، حتى أني من شوقي إليها، لا أدري أأمشي أولاً على الضفة اليمنى أم اليسرى لنهر السين الذي وقعتُ في حبه من النظرة الأولى في لحظات كانت تغوص أظافر الغروب في أعماقه ليتكفل باصفرار السماء بينما كان وجه الأرض في الأصل مصفراً بعدما عاثت في الحدائق يد تشرين في مشهد يأبى أن يوارى طي النسيان بل توطدت العلاقة بين ما شاهدتُ و ما انغرس في الوجدان لأن النفس السوية تميل دائماً إلى الجمال و لا شيء يقفز إلى ذهني بشكل تلقائي حين أسير على ضفافه، سوى التطور و الازدهار، أما البق و ما شابهه من الحشرات المؤذية إن كان له في هذا البلد وجود فربما مصدره شقتي.
غادرتُ فرنسا منذ 4 سنوات متوجهة إلى مهدي الموريتاني لكني من فرط الغفلة أغلقتُ الشقة على بعض آثاري الافريقية و لم أمسح بصماتي عن فناجين قهوتي لأن قلبي كان يحتاج إلى جبيرة فأواري سوأته بتوبة و أصب الهم في سجدة على رمال رخوة لعل الرياح تنفخ في جرحي الذي بدأ ينبش فيه ديكور هذا المنزل فانبشي يا أشيائي كما تشائين لأن حسي الأنثوي المرهف حد الهشاشة لم يعد كما تعلمين بل صرتُ أدمن وحدتي لحظة بلحظة و أعشق برجي العاجي و لن أعطيك أي فرصة لتعكيير مزاجي.