الغدر في السياسة… نفاق أم مناورة
“النفاق بمفهومه الاصطلاحي هو إظهار المرء خلاف ما يبطن من معتقد”…
و “الغدر خلق ذميم من أخلاق المنافقين؛ وسمة من سمات الجاهلين؛ وصفة من صفات السافلين…فهو مستبشع في الفطر السليمة؛ ومستقبح عند ذوي الأخلاق السوية؛ وتأباه النفوس الكريمة وينأى عنه ذوو المروءة الأبية…وهو محرم في جميع الشرائع ومذموم في كل الأعراف والأنظمة
.” عن أَبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ أِسْتِهِ يومَ القِيَامَةِ؛ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدَرِ غَدْرِهِ، ألا وَلا غَادِرَ أعْظَمُ غَدْراً مِنْ أمِيرِ عَامَّةٍ. رواه مسلم. و في الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “أربع من كن فيه فهو منافق خالص ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر”. أي تفسير يمكن أن يعطى ترحالا سياسيا أشبه ما يكون بالانتجاع في مرابع الكلأ، كلما نضبت في أرض مياهها وتعرت من أعشابها و حشائشها هُجرت كما لو مَنعت و لم تعط، إلى أرض أوفر ماءا وأخصب نباتا؟ لا شك أن الكثيرين من السياسيين الموريتانيين أثبتوا، في ممارستهم السياسة و تعاطيهم مع حيثياتها، انتمائهم الفطري لهذه الخلفية البدوية وقدرتهم كما أسلفنا على نكران جميل معط حين يخف عطاؤه ومحاباة أخر في أوج سخائه. والمتتبع لما يحدث في رحاب افقي الساحة السياسية “المعارض” و الموالي”، لا بد أن يلحظ هذا الترحال وراء المزن سواء كان حمال غيث أو مُبرق سرابا يحسبه الظمآن ماء و ما أكثره. وهل الظاهرة على هذا النحو صحية يمكنها أن تلبي، في حقل السياسة الواسع، أيا من متطلبات الدولة الحديثة لبناء أركانها وتقوية لحمة أهلها و نشر العدل في ربوعها و بين مكوناتها، و تحقيق استقلاليتها بالتحكم بمقدراتها الهائلة و حسن استخراجها و ترشيدها في ظل حدود آمنة وأجواء مستقرة و ديمقراطية ظليلة؟ أما والأمر على هذه الحال فإن الانتخابات المقبلة، البلدية منها و التشريعية، قد تجري في ظروف فاقدة لأي حماس شعبي و تنافس شامل نتيجة لما أقدمت عليه بعض أحزاب المعارضة التي كانت تحسب على “المعارضة الجادة” ذات الخطاب البعيد عن المجاملة والمحاباة والذي يضع الأصابع على مكامن الجراح ويرفع الصوت لتصحيح الأخطاء و تقدير الصواب، قد قاطعت هذه الاستحقاقات على خلفية أبعد ما تكون في أسبابها و مبرراتها عن جوهر الديمقراطية وأهدافها السامية. ولقد أقدمت هذه الاحزاب على مقاطعة الانتخابات دون الرجوع إلى قواعدها وباعتماد آراء زعاماتها فحسب في خطوة تشف عن “شخصنة” للأمور، و “انفرادية” في القرار و “ردة فعل” تلقائية؛ و هي أيضا المقاطعة التي كلفت أحزابها فواتير “مالحة” دفعتها من “مكانتها وشعبيتها” في الحاضر و من “مواقعها في المجالس البلدية و تحت قبتي البرلمان و الشيوخ” في المستقبل المنظور؛ كما كشفت هذه الخطوة عن الملامح الحقيقية للشخصية السياسية في هذه البلاد و عن الخطوط المميزة لها في ممارستها و تعاطيها مع هذه اللعبة النبيلة التي تتوكأ عليها الأمم الناضجة لتسلك فجاج مساراتها المتشعبة إلى مقامات التوازن و تهتدي بها إلى غايات الرفاه المادي و المعنوي. و هي بالنتيجة شخصية مزدوجة في تنافر الصفات: *”بدوية” بكل حدة و رعونة البادية و ما يفرضه عطش أهلها المزمن من مراوغات و تحايل من أجل البقاء، *و”عصرية” بكل قشور العصرنة الباهتة دون جواهرها النفيسة. إن الانتماء إلى الحزب بوصفه “إطارا تنويريا” غير مسبوق عندنا بأية إعدادات فكرية و غير مؤسس على أساس منطلقات مبدئية أو خلفيات عقائدية صحيحة أو ثوابت مرجعية راسخة. و المنتسب إليه يحمل في جلبابه الذي لا يفارقه انتماءه القبلي و حاضنته الاثنية و مرجعيته الطبقية؛ يساوم بهذه الصفات المتحدة في شخصيته و يقبض أثمانها مدفوعة بلا تأخير في انتهازية استثنائية، اضحت هي في حد ذاتها مذهبا أو بالأحرى ثقافة و ضربا من النفاق السياسي يسعى إلى اقتنائهما كل من هب و دب و سولت له نفسه ممارسة السياسية. و ثقافة الانتهازية و النفاق السياسي قد تحولت في أوساط مجتمعنا منذ الاستقلال الى “ظاهرة” تفقأ العيون بسبب تفشى و رسوخ رواسب القبلية والطائفية والطبقية و الاثنية و الجهوية التي صاحبتها منذ النشأة على حساب قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والعدل الاجتماعى وتكافؤ الفرص في أحضان الدولة الوطنية الجامعة. و القيادات السياسية في الاحزاب هى المسئولة عن تفشى هذه الظاهرة – المدمرة للشعب الذي منحهم ثقته – من أجل أن تظل مستمتعة بامتيازاتها الرهيبة فى الريادة و الوجاهة و السلطة والثروة ولو بقيت قواعدها ترزح فى تخلفها و غبنها و تأخرها. وتلك الزعامات هى المسئولة ايضا عن ثقافة الكذب والنفاق التي سرعان ما استشرت في المفاصل العليا لأحزابها و دبت في قواعدها عن طريق تنامي أعداد “المتسلقين” و”الانتهازيين” في داخلها، الذين يسعون جاهدين إلى إقصاء واستبعاد المجموعات السياسية والمثقفة الوطنية النقية والنظيفة لما يرى فيها من خطر على امتيازاتهم فى المكانة والثروة. و إن لهؤلاء لليد الطولى في انتشار “ظاهرة” الترحال و الغدر السياسي دون أن تكون مشينة و لا مخلة بالمنهج الديمقراطي السليم. وهم الأداة التنفيذية التي يستخدمها من يتلقفونهم لضرب خصومهم دون الاكتراث بما يجري جراء ذلك من تدمير للحياة السياسية الاجتماعية عن طريق: – قلب الحقائق و تبرير الممارسات اللاخلاقية و تشويه وجه الديمقراطية التي منحت فرصة التنافس بالبرامج البناءة؛ – و إقصاء الفئات الصالحة والنقية عن ممارسة دورها في بناء المجتمع؛ – و نشر قيم أو على الأصح “خسائس” الغدر و النفاق السياسى والاجتماعى فى البلاد الرازحة تحت كم من القضايا المصيرية الشائكة التي تتطلب، و بأسرع ما يكون، حلولا ناجعة. وفى ظل غياب النضج السياسي و ضعف دولة المؤسسات والقانون التي تنصف الناس وتقوم على تكافؤ الفرص وحصول المواطنين على نصيب عادل من ثروة بلادهم والمشاركة فى الحكم عن طريق التداول السلمى للسلطة، استطاعت هذه الطبقة الانتهازية ان تتحول في حلها و ترحالها و بتسليط سيف غدرها، الى خدام لأصحاب المواقع المتقدمة بشق الصفوف و بتقويض المسار الديمقراطي المنوط به استقرار هذا البلد و أمنه في ظل العدل و المساواة… و إنها للفئة من المنافقين التي يجب رصد عناصرها إعلاميا و فضح ممارساتها الشاذة و المخلة بكل قواعد اللعبة الديمقراطية. و لأن النفاق السياسي الذي تمارسه قرين ورفيق درب دائم للاستبداد السياسي الذي يكون داخل الأحزاب سواء منها الحاكمة و المعارضة، علما بأنه أين ما وُجد استبداد سياسي تولد و انتشر النفاق السياسي. و إن المنافقين لأكثر الخلق حرصا – من منطلق نهمهم الشديد و رغبتهم الجامحة في البقاء – على تحقيق أقصى ما يستطيعون من مصالح ذاتية وغنى ورفاهية و لو كان على حساب المصلحة العامة و الاستقرار والقيم الإنسانية والكرامة الشخصية. فهل يُتركون على هواهم في غدرهم و نفاقهم، ثم لا يصنفون و لا يُنعتون بالأصابع حتى تكون بداية نهايتهم و حتى لا يُرمى الجميع غيرهم بالغدر و النفاق من باب استحسانه و السكوت عليه كالمتستر على المجرم… إنما هو في نظر القانون شبيه بالمتواطئ أو المتمالئ و من المنظور الاسلامي و ذا أدهى و أمر خيانة بالغة في الدين. الولي ولد سيدي هيبه