قصة قصيرة :رحلة موفقة ، سيدي الرئيس

جلس على مصطبة خشبية تحت الأوراق الصفراء في المنتزة المهجور ، متأملاً الوز ذي اللون المغبر ، وكلتا يدية على المقبض الفضي لعصاه، وراح يفكر بالموت . في زيارتة الأولى الى جنيف كانت البحيرة هادئة وصافية ، وكانت ثمة نوارس مروضة تتناول الطعام من أيادي الناس ، ونساء للايجار يشبهن أشباح السادسة مساءاً بثياب من الأورغندي الشفاف ومظلات باراسول من الحرير .

الآن المرأة الوحيدة الممكنة التي كان يراها هي بائعة زهور تقف على رصيف البركة المهجور . كان من الصعب علية أن يصدق كيف يمكن للزمن أن يسبب كل هذا الخراب ليس في حياتة فقط بل في العالم أيضاً. لقد كان نكرة أخرى في مدينة النكرات اللامعين . نكرة يرتدي بذلة مخططة داكنة الزرقة ، وصداراً مقصباً ، وقبعة قاض متقاعد من نوع ستيف ، نكرة يشبة فارساً من فرسان عصر النهضة ، بشاربة المتعجرف ، وشعرة الأسود الغزير الذي كان ينساب بتموجات رومانسية ، و يدان شبيهتان بيدي عازف قيثار ، مازال يحتفظ في بنصر يسراهما بخاتم الزواج حتى بعد وفاة زوجتة . كانت عيناة سعيدتان ، لكن جلدة المرهق كان الشيء الوحيد الذي يشي بحالتة الصحية المتدهورة . ورغم ذلك ، كانت أناقتة ملفتة للأنظار ،حتى بعد بلوغة الثالثة والسبعين . بيد أنة لم يكن يشعر ذلك الصباح بالغرور ، لقد ترك هذة الأمور خلف ظهرة منذ أمد بعيد ، فقد ولت سنين المجد والقوة الى الأبد ، ولم يبق لة الآن غير سنين الموت . لقد عاد الى جنيف بعد حربين عالميتين، بحثاً عن جواب محدد لألم عجز أطباء المارتينيك عن تشخيصة ، عازماً على البقاء لمدة أسبوعين لاأكثر ، لكنة أمضى الآن حوالي ستة أسابيع في فحوصات مرهقة لم تثمر عن نتائج نهائية ، ولحد الآن لايعلم أحد كيف ستكون النهاية . لقد بحثوا عن الألم في كبدة ، وفي كليتية ، وفي بنكرياسة ، وفي بروستاتة ، تتبعوة في كل بقعة من جسدة ، ولم يعثروا علية ، حتى حل ذلك الخميس المر ، الذي طلبو منة فية الحضور في التاسعة صباحاً الى الشعبة العصبية ليجد في إستقبالة طبيباً لم يكن قد تعرف عليه من قبل . كانت غرفة الطبيب أشبة بصومعة لراهب ، وكان راهبها هذا الطبيب الصغير الحجم ، الذي يبدو عليه الوقار ، والذي كان يضع جبيرة على ابهامة الأيمن المكسور . وعندما أُطفيء النور ، ظهرت الأشعة المضاءة للعمود الفقري على الشاشة ، لكنة لم يعرف إنها كانت لة إلى أن إستخدم الطبيب مؤشراً ليدلة على مفصل فقرتين تحت خصرة . ” ألمك يكمن هنا ” قال الطبيب بالنسبة لة لم يكن الأمر بهذة السهولة ، لأن ألمة كان غير محتمل ومراوغ ، ويبدو أحياناً وكأنة ينبعث من بين الضلوع في جنبة الأيسر ، وأحياناً أسفل بطنة ، وغالباً مايباغتة بطعنة في العروق . أصغى لة الطبيب دون أن يتحرك ، وسكنت حركة المؤشر على الشاشة ” هذا ماكان يروغ منا لزمن طويل ” قال الطبيب ” لكننا نعلم الآن أنة هنا ” ثم وضع سبابتة على صدغة وقال موضحاً بدقة ” رغم تحفظي ، الا اني أقول أن الألم كلة هنا ياسيدي الرئيس . ” كان أسلوبة العيادي مؤثراً جداً بحيث بدا معة حكمة النهائي مشوباً بالرحمة : على الرئيس أن أن يوافق على اجراء عملية خطرة لامفر منها . وسألة عن نسبة الخطورة ، وكان جواب الطبيب مغلفاً بالغموض عندما قال : ” لسنا متأكدين تماماً ” كان قد قال لة قبل برهة قصيرة ، بأن ثمة خشية كبيرة من حصول مضاعفات قاتلة أثناء العملية ، بالاضافة الى امكانية حصول أنواع مختلفة من الشلل بدرجات متفاوتة . لكن التقدم الطبي الذي حصل خلال الحربين ، جعل مثل هذة المخاوف شيئاً من الماضي . ” لاتقلق ” أكمل الطبيب قائلاً ” رتب أمورك وعاود الاتصال بنا . لكن لاتنسى ، خير البر عاجلة ” لم يكن ذلك الصباح مناسباً لهضم خبر سيء من هذا النوع ، ليس في الخارج على الأقل . لقد غادر الفندق في الصباح الباكر ، دون معطف لأنة شاهد شمساً رائعة من خلال النافذة ، وسار بخطى محسوبة من شارع شوما دي بو- سولي ، الذي يوجد فية المستشفى الى مخبأ العشاق السري ، حديقة زاغدان آنگليه . ومضى علية الآن هناك أكثر من ساعة ، غير قادر على التفكير بشيء غير الموت . في هذة اللحظات حل الخريف ، وهاجت البحيرة كبحر غاضب ، وأفزعت الريح المتمردة النوارس، وكنست بقايا الأوراق الصفراء . نهض الرئيس ، وبدلاً من شراء وردة اقحوان من بائعة الزهور ، التقط واحدة من ورد الحديقة ووضعها في عروة سترتة . وعندما شاهدتة بائعة الزهور يفعل ذلك قالت غاضبة ” تلك الزهور لايملكها اللة ، ياسيدي ، انها ملك المدينة ” تجاهلها وواصل السير بخطى متسارعة ، وأمسك بعصاة من المنتصف ، وراح يديرها بيدة على نحو خليع تقريباً . وفي شارع بونت دو مونت بلانك كانوا ينزلون بأسرع مايمكن أعلام الأتحاد التي اصابتها عصفة الريح المباغتة بالجنون ، وكانت حنفيات النافورة الأنيقة المتوجة بالزبد قد أغلقت في وقت أبكر من المعتاد هذا اليوم . لقد فشل الرئيس في التعرف على مقهاة المعتاد الكائنة على رصيف البحيرة ، لأنهم كانوا قد أنزلوا المظلة الخضراء المثبتة فوق المدخل ، واغلقوا مدرجات الزهور الصيفية للتو . في الداخل كانت الأنوار مضاءة رغم أنهم كانوا في رابعة النهار ، وكان رباعي الوتريات يعزف مقطوعة لموتسارت مشحونة بالترقب . التقط الرئيس صحيفة من فوق طاولة البار الطويلة من فوق كومة للصحف المخصصة للزبائن فقط ، وعلق قبعتة وعصاة على المشجب ، ولبس نظارتة ذات الاطار الذهبي وشرع يقرأ على طاولة تقع في أكثر زوايا المقهى انعزالاً ، ثم أحس بأن الخريف قد حل حقاً . بدأ بقراءة الصفحة الدولية ، التي كان يجد فيها بين الحين والآخر أخباراً نادرة من الأمريكيتين ، ثم واصل القراءة من آخر صفحة الى أول صفحة حتى جلبت لة النادلة قنينة ماء ايفيان التي يتناولها بشكل يومي . لقد أقلع عن عادة شرب القهوة قبل أكثر من ثلاثين سنة ، امتثالاً لنصيحة أطباءة ، لكنة قال ” لو كنت أعرف بأني سأموت بالتأكيد ، لكنت شربتها ثانية ” لكن ربما حان وقتها الآن . ” اجلبي لي قهوة ايضاً ” أمرها بفرنسية طليقة جداً ، موضحاً دون أن يلاحظ المعنى المزدوج ” على الطريقة الايطالية ، وقوية بحيث توقظ الموتى .” شربها دون سكر ، برشفات بطيئة ، ثم قلب الفنجان على الصحن حتى تقوم ثمالة القهوة ، بعد سنين عديدة ، بامتلاك الوقت الكاف لكتابة مصيرة . أنقذة مذاق القهوة المستعاد للحظة فقط من افكارة السوداء . وبعد دقيقة احس ، وكأن احساسة هذا كان جزءأً من هذة الشعوذة ، بأحدهم ينظر الية . قلب الصفحة بحركة عرضية ، والقى بنظرة من فوق نظارتة وشاهد ذلك الرجل الشاحب ، غير الحليق ، ذو القبعة الرياضية والسترة المخططة بجلد خروف ، والذي سرعان ما اشاح ببصرة مخافة أن تلتقي نظراتة بنظرات الرئيس . كان وجهة مالوفاً . لقد شاهدا بعضهما البعض بشكل عابر بضعة مرات في ردهة المستشفى ، وشاهدة في إحدى المرات ، وهي المرة الوحيدة ، يقود دراجة سكوتر على شارع بخوميناد دو لاك عندمل كان واقفاً هناك يتأمل الوز ، لكنة لم يشعر ابداً بأن الرجل قد عرفة ، مع ذلك ، لم يسقط من حسابة بأن مشاعرة هذة لم تكن سوى أوهام اضطهاد يخلقها المنفى . أنهى قراءة الصحيفة دون عجلة ، محلقاً مع موسيقى التشيلو لبرامز ، حتى أحس بأن المة قد أصبح أقوى من مفعول الخدر الذي كانت تجلبة لة الموسيقى ، فنظر الى ساعتة الذهبية التي يربطها بسلسلة ذهبية ويحملها في جيب صدرتة وتناول حبتان من مهدئات منتصف النهار مع جرعة من ايفيان . وقبل أن ينزع نظارتة فك رموز طالعة في ثمالة القهوة وشعر برعدة باردة : لقد رأى التشوش كامناً هناك ، فقام بدفع الحساب ، وترك بقشيشاً ضئيلاً ، وتناول عصاة وقبعتة من المشجب ، وخرج الى الشارع دون أن ينظر الى الرجل الذي كان ينظر الية . سار بمشيتة الاحتفالية موزعاً خطاة بين أصص الزهور التي دمرتها الريح ، وفكر بأنة قد تخلص من السحر . لكنة سمع بعد ذلك وقع خطى تسير خلفة ، فتوقف عندما دار حول الناصية ، والتفت قليلاً . فاضطر الرجل الى التوقف ليتفادى الاصتدام بة ، ونظر الية بعينية المفزوعتين من مسافة بوصات قليلة فقط . ” سنيور بريزيدنتي ” تمتم قائلاً . ” قل للذين يدفعون لك بأن لايتمادون كثيراً في أحلامهم ” قال الرئيس دون أن يفقد ابتسامتة أو سحر صوتة . ” صحتي كاملة ” ” لاأحد يعرف ذلك افضل مني ” قال الرجل وهو ينوء تحت ثقل كبرياء الرئيس الذي حط فوقة ” أنا أعمل في المستشفى ” كانت كلماتة وايقاع صوتة ، حتى ترددة وخوفة ، كاريبية صافية . ” لاتقل لي انك طبيب ” قال الرئيس . ” أتمنى ذلك ، سيدي الرئيس ، لست سوى سائق اسعاف ” ” آسف ” قال الرئيس ، بعد أن اقتنع بخطأة . ” أنة عمل شاق ” ” ليس بمشقة عملكم ، سنيور ” نظر الية بشكل مباشر ، وأتكأ على عصاة بكلتا يدية ، وسألة باهتمام حقيقي ” من أين أنت ؟ ” ” من الكاريبي ” ” أعرف ذلك مسبقاً ” قال الرئيس ” لكن من أي بلد ؟ ” ” نفس بلدكم ، سنيور ” قال الرجل ومد يدة . ” أسمي هوميرو راي ” قاطعة الرئيس مندهشاً ، دون أن يترك يدة . ” اللعنة ، انة أسم جميل ! ” أسترخى هوميرو . ” أنة يتحسن ” قال ” هوميرو راي دي لاكاسا – هوميرو ملك بيتة ” باغتتهما هبة شتوية باردة كنصل وسط الشارع . وأعترت الرئيس رجفة هبطت الى عظامة وعلم بأنة لن يستطيع السير دون معطف الى المطاعم الرخيصة التي أعتاد على الأكل فيها والكائنة على بعد بنايتين . ” هل تغديت ؟ ” سألة . ” أنا لاأتغدى ابداً ” قال هوميرو ” أتناول وجبة واحدة فقط في الليل في المنزل ” . ” اجعل اليوم استثناءاً ” قال مستخدماً كل سحرة . ” دعني أدعوك على الغداء ” . قادة من ذراعة الى المطعم الكائن على الرصيف المقابل من الشارع ، المكتوب أسمة بحروف ذهبية على المظلة : مطعم لوبوف كورونية . كان الداخل ضيقاً ودافئاً ، وبدت الطاولات مشغولة كلها . وبعد أن تملكت الدهشة هوميرو راي من عدم معرفة أحد للرئيس ، سار الى خلفية المطعم لطلب المساعدة . ” هل لايزال في سدة الحكم ؟” سال مالك المطعم . ” كلا ” قال هوميرو ” أنة مخلوع ” أبتسم المالك موافقاً و قال ” بالنسبة لهم ، أحتفظ دائماً بطاولة خاصة ” قادهما الى طاولة معزولة في نهاية الغرفة ، ليتمكنا من الحديث كما يريدان ، فشكرة الرئيس على ذلك . قال ” لاأحد يعرفك عندما تعيش كبرياء المنفى ” كان المطعم متخصص بشواء أضلاع لحم البقر على الفحم ، وشاهد الرئيس وضيفة حواليهما القطع الكبيرة المحمرة المدهونة بالزيت على الطاولات المجاورة . ” أنة لحم شديد الروعة ” تمتم الرئيس . ” لكني ممنوع من تناولة ” . ونظر الى هوميرو بخبث وغيّر نبرة صوتة . ” في الواقع ، أنا ممنوع من أكل اي شيء ” ” أنت ممنوع من تناول القهوة أيضاً ” قال هوميرو ” لكنك تشربها مع ذلك ” . ” عرفت ذلك أيضاً ؟ ” قال الرئيس . ” لكن ذلك كان استثناءاً في يوم استثنائي ” لم تكن القهوة الاستثناء الوحيد ذلك اليوم . لقد طلب ايضاً اضلاع بقر مشوية على الفحم وسلطة خضروات طازجة مع نفحة بسيطة من زيت الزيتون كمتبل . وطلب ضيفة نفس الشيء ، ونصف غرّافة من النبيذ الأحمر . وبينما كان ينتظران اللحم ، أخرج هوميرو حافظة خالية من النقود ومليئة بالأوراق من جيب سترتة وارى الرئيس صورة قديمة لة بالقميص فقط وقد بدى أخف وزناً ببضعة ارطال وبشعر اسود كثيف وشارب ، يحيط بة حشد من الشباب واقفين على رؤوس الاصابع لكي يظهروا في الصورة . وبنظرة واحدة تذكر المكان ، وتذكر شعارات تلك الحملة الانتخابية المقيتة ، وتذكر تاريخ ذلك اليوم البائس . ” انها فظيعة ! ” تمتم قائلاً . ” لقد قلت دوماً أن المرء يشيخ في الصور أسرع مما يشيخ في الحياة الفعلية ” واعاد الصورة بحركة حاسمة . ” أتذكر ها جيداً ” قال . ” لقد مضى عليها آلاف السنين ، في مقصورة الطيار في سان كريستوبال دي لا كاساس . ” ” تلك مدينتي ” قال هوميرو . ” لقد كنت معك طوال فترة حملة الأنتخابات الجنوبية كقائد لكتائب الجامعة ” توقع الرئيس أن يقوم بتوبيخة . ” أنا ، شخصياً ، لم الاحظ وجودك بالطبع ” قال . ” لاتهتم ابداً ، لقد كنت لطيفاً جداً ” قال هوميرو . ” لقد كان هناك الكثير منا ولايمكن للمرء أن يتذكر الجميع . ” . ” وبعد ذلك ؟ ” . ” أنتم تعرفون ذلك أفضل من الجميع ” قال هوميرو . ” معجزة أن نكون كلانا معاً هنا بعد الانقلاب العسكري ، مستعدان لالتهام نصف بقرة . ليس الجميع محظوظون مثلنا ” . في تلك اللحظة جُلب لهما الطعام ، وربط الرئيس منديلة حول رقبتة مثلما تربط مريلة برقبة طفل ، وأنتبة لأمارات الدهشة التي أكتسى بها وجة ضيفة فقال لة ” ان لم افعل ذلك فسوف أقوم باتلاف رطبة عنق كلما تناولت الطعام ” . وقبل أن يبدأ ، تذوق اللحم لفتح شهيتة ، وارتاح لطعمة بحركة تنم عن الرضا ، وعاد الى الحديث قائلاً ” مالاأستطيع فهمة هو لماذا لم تتقرب لي من قبل ، بدلاً من تعقبي مثل كلب من كلاب الصيد ” . وقال هوميرو بأنة عرفة عندما دخل المستشفى لأول مرة من خلال الباب المخصص للحالات الخاصة . لقد كان ذلك في منتصف الصيف ، وكان مرتدياً بذلة من الكتان من ثلاث قطع من منطقة الأنتيل ، مع حذاء اسود وأبيض ، واقحوانة في عروة سترتة ، وشعرة الجميل يتطاير في الهواء . وعرف هوميرو بأنة كان وحيداً في جنيف ، وليس هناك من يساعدة ، لأن الرئيس كان يعرف المدينة التي أكمل فيها دراستة للقانون . وقامت ادراة المستشفى ، بناءاً على طلبة ، وحسب لوائحها الداخلية ، بضمان مجهوليتة المطلقة . في تلك الليلة بالذات وافق هوميرو وزوجتة على الأتصال بة ، ورغم ذلك فقد تعقبة لخمسة أسابيع منتظراً اللحظة المناسبة ، وربما لم يكن قادراً على الكلام لولا مواجهة الرئيس لة . ” أنا سعيد لاني فعلت ذلك ، لكن والحق يُقال ، لايهمني البتة أن أكون وحيداً ” ” هذا غير صحيح ” . ” لماذا ؟ ” سال الرئيس بجدية . ” النصر الأعظم في حياتي هو نسيان الجميع لي ” . ” نحن نتذكرك فوق ماتتصور ” قال هوميرو ، دون أن يحاول كبح عاطفتة . ” انها لفرحة أن اراك هكذا ، شاباً ومفعماً بالصحة ” . ” ومع ذلك ” قال دون ميلودراما ” مع ذلك كل شيء يشير الى أني سأموت قريباً ” ” فرصتك بالشفاء عالية جداً ” قال هوميرو . ندت عن الرئيس صيحة دهشة لكنة لم يفقد حسة الفكاهي . ” اللعنة ! ” . صاح قائلاً ” هل أضحت السرية الطبية ملغاة في سويسرا الجميلة ؟ ” . ” ليست ثمة أسرار بالنسبة لسائق اسعاف في أي مستشفى في العالم ” . قال هوميرو . ” حسناً ، ماأعرفة ، سمعتة قبل ساعتين من فم الرجل الذي قد يكون على علم بالموضوع ” . ” على أي حال ، لن يكون موتك بلا جدوى ” قال هوميرو . ” سيعيدك شخص ما الى مكانك الطبيعي كرمز للشرف العظيم ” . وتظاهر الرئيس بدهشة مصطنعة وقال : ” شكراً على تنبيهك لي ” أكل كعادتة : دون عجلة وبترو شديد . وخلال ذلك كان ينظر الى عيون هوميرو ، وظن الرجل الشاب بأنة كان يعرف مايفكر بة الرجل العجوز . وبعد حديث طويل مشحون باستحضارت مغلفة بالحنين الى الوطن ، قال الرئيس وعلى شفتية ابتسامة ماكرة ” كنت قد قررت عدم تكدير صفوي بشأن الجثة ، لكني الآن أرى بأن علي أخذ الحيطة والحذر بشكل يليق برواية بوليسية من أجل الحفاظ على جثتي بعيدأ عن العيون ” . ” لن ينفع ذلك ” قال هوميرو بنفس المكر ” في المستشفى لاتمكث الاسرار في الخفاء أكثر من ساعة واحدة فقط ” . بعد أن انتهيا من تناول القهوة ، قرأ الرئيس قعر فنجانة ، واعترتة رعدة ثانية : كانت الرسالة هي نفسها بلا تغيير . مع ذلك لم يطرأ على تعابير وجهة أي تغيير . دفع الفاتورة نقداً بعد أن قام بالتأكد من الحساب عدة مرات بعناية فائقة ، وترك بقشيشاً بائساً لم يفز بة من النادل بغير حشرجة خفيفة تدل على الخيبة . ” لقد سعدت بلقائك ” ختم حديثة وهو يستأذن هوميرو بالانصراف . ” لم أحدد موعد العملية بعد ، ولم أقرر إجرائها من عدمة . لكن لوسارت الأمور على خير ، فسوف نلتقي ثانية ” . ” ولماذا لانلتقي قبل العملية ؟ ” . قال هوميرو . ” ان لازارا زوجتي ، تطبخ للأغنياء ، ولاأحد يستطيع طبخ أكلة المحار بالرز مثلها ، ونحب أن ندعوك الى بيتنا ذات مساء قريب ” . ” لقد منعني الطبيب من أكل المحار ، لكني ساكون سعيداً بتناولة ” . ” الخميس يوم عطلتي ” قال هوميرو . ” عظيم ” قال الرئيس ” سأزوركم يوم الخميس في السابعة ، وسيكون ذلك من دواعي سروري ” . ” سآتي لأصطحابك ” قال هوميرو . ” العنوان أوتيليري دام رقم 14 شارع غي ديلاندستغي . خلف محطة الوقود . هل يكفي هذا ؟ ” ” يكفي ” قال الرئيس ، ونهض واقفاً ، وسحر شخصيتة يزداد حضوراً . ” يبدو انك تعرف حتى قياس حذائي ، ربما ” ” بالطبع ، سنيور ” قال هوميرو مسروراً . ” قياس واحد وأربعون ” لم يذكرهوميرو راي للرئيس بأن ماكان يضمرة لة في وجدانة لم يكن بريئاً تماماً ، رغم أنة ظل يسرد ذلك لسنين طويلة لكل من لة أذان صاغية . كان قد شرع مثل أي سائق اسعاف ، باجراء بعض الترتيبات مع مكاتب الدفن وشركات التأمين التي تبيع خدماتها للمستشفى ، خصوصاً بالنسبة للأجانب ذوي الدخل المحدود ، لكن الأرباح لم تكن كافية وكان ينبغي اقتسامها مع موظفين آخرين كانوا يقومون بتداول الملفات السرية للمرضى المصابين بأمراض خطيرة ، مع ذلك كانت مثل هذة الأمور تحمل في طياتها شيء من العزاء ، خصوصاً لرجل مثلة ، يعيش في المنفى بلا مستقبل وبراتب هزيل لايكاد يكفي لإعالة أسرتة المكونة من زوجة وطفلين ، وهم لازارا دايفس ، زوجتة ، التي كانت أكثر واقعية منة ، وهي خلاسية نحيلة ، من سان خوان ، في بورتوريكو ، صغيرة الحجم ، وذات جسد صلب متماسك ، ولون كلون الكاراميل المطبوخ ، وعينان مشاكستان ، تناسبان جداً طباعها الحادة . كان قد تعرف عليها في الردهة الخيرية التابعة للمستشفى ،حيث كانت تعمل كمساعدة عامة . لقد جاءت الى جنيف للعمل كممرضة بمساعدة احد الممولين من أبناء جلدتها ، لكنة تخلى عنها واسلمها لحياة التشرد في شوارع المدينة . ثم تزوجت هوميرو على المذهب الكاثوليكي ، رغم كونها أميرة يوروبية ، وعاشت معة في شقة من غرفتين في الطابق الثامن من بناية بلا مصعد يقطنها المهاجرون الأفارقة . أما بقية أفراد العائلة فهما إبنتة باربرا ، التي تبلغ من العمر تسع سنين ، وإبنة الصغير لازارو ، البالغ من العمر سبع سنين، وكلا الطفلين تبدو علية بعض علامات التخلف العقلي . لازارا دايفس كانت ذكية وذات مزاج شرير ، لكنها كانت تتمتع بقلب مرهف . وكانت تعتبر نفسها من مواليد برج الثور دون أدنى شك في ذلك وتؤمن أيماناً ً أعمى بما يقولة الطالع . رغم ذلك لم تنجح في تحقيق حلمها في العمل كمنجمة لدى أصحاب الملايين . من جانب آخر ، كانت تقوم بين حين وآخر بتقديم مساهمات قيمة لتحسين الوضع المالي للعائلة من خلال اعداد وجبات الطعام لربات البيوت الموسرات اللواتي كن يتظاهرن أمام ضيوفهن المبهورين بأن هن أنفسهن من قام بأعداد تلك الاطباق الشهية من الطعام الأنتيلي الرائع . كان جبن هوميرو مؤلماً، ولم يكن طموحة يتجاوز القليل الذي كان يكسبة ، لكن لازارا لم تكن تتحمل الحياة بدونة ، بسبب براءة قلبة وحجم عضوة . كانت الأمور تسير بشكل حسن بالنسبة لهما ، لكن الصعوبات كانت تزداد مع السنين كلما كبر الأطفال . وفي الوقت الذي وصل فية الرئيس كانا قد شرعا بقضم مدخراتهما التي جمعاها لمدة خمس سنين ، لكن آمالهما أخذت تنتعش عندما أكتشف هوميرو راي بالصدفة ملف الرئيس وسط ملفات الاشخاص الغفل . لم يعرفا بدقة ماذا كان يتعين عليهما طلبة ، وباي حق . لقد خططا في البداية لبيعة مراسيم الدفن كاملة ، ومن ضمنها تحنيط الجثة واعادتها الى الوطن . لكنهما ادركا بالتدريج بأن موتة لم يكن يبدو وشيكاً تماماً كما كان في البداية . وفي اليوم الذي دعياة فية الى تناول الغداء كانا يشعران بالشك والحيرة ، وفي الواقع لم يكن هوميرو قائداً لكتائب الطلبة في الجامعة ، أو اي شيء آخر ، والدور الوحيد الذي لعبة في حملة الانتخابات هو مجرد وجودة في الصورة التي تمكنا من العثور عليها كما لو أن في الامر معجزة وسط ركام من الأوراق الموجودة في الخزانة ، لكن اندفاعة وحماستة كانا حقيقيين . وكان حقيقياً ايضاً اضطرارة للهروب من البلد بسبب اشتراكة في مظاهرات الشوارع التي خرجت منددة بالانقلاب ، رغم أن السبب الوحيد لاستمرارة في العيش في جنيف بعد كل هذة السنين كان يعود لفقرة الروحي . لذا فأن كذبة أخرى للفوز بحظوة لدى الرئيس لن تشكل عقبة في الطريق . المفاجاة الاولى بالنسبة لهما كانت عيش هذا المنفي اللامع في فندق من الدرجة الرابعة في حي لوغروت الحزين ، وسط المهاجرين الآسيويين وبنات الليل ، وتناولة الطعام في المطاعم الرخيصة ، في الوقت الذي تعج بة جنيف بالمساكن المناسبة للسياسيين الذين أفل نجمهم . لقد لاحظة هوميرو يعيد يوماً بعد يوم فعاليات ذلك اليوم . لقد لاحقة بعينية ، حتى من مسافات وقحة احياناً ، في جولاتة الليلية بين الجدران الكئيبة وزهور الجريس الصفراء المهلهلة في المدينة القديمة . ورآة غارقاً في بحار الفكر أمام تمثال كالفن ، لاهثاً بعطر الياسمين المتوقد ، وتبعة خطوة خطوة على السلم الحجري وهو يمارس تأملاتة لغسق المساءات الصيفية البطيئة من على قمة بورغ دو فور . وفي احدى الليالي شاهدة في اول أمطار الموسم ، دون معطف أو شمسية ، يقف مع الطلبة في طابور لحفلة من حفلات روبنشتاين . ” ” لاأدري لماذا لم يصب بالربو ” قال هوميرو لزوجتة فيما بعد . وفي يوم السبت الفائت ، عندما بدا الطقس يتغير ، شاهدة يبتاع معطفاً خريفياً بياقة منك مزيفة ، ليس من محلات شارع غي دو رون الراقية ، التي يتبضع منها الامراء الهاربون ، بل من سوق السلع المستعملة . ” ليس في وسعنا عمل شيء ! ” صاحت لازارا عندما أخبرها هوميرو بذلك . ” أنة بخيل حد اللعنة ويفضل ان يقوم المحسنون بدفنة في مقبرة للفقراء ، ولن يكون بوسعنا الحصول منة على شيء ” قال هوميرو ” ربما كان فقيراً حقاً . بعد كل هذة السنين من البطالة ” . قالت لازارا ” ياحبيبي ، أن تكون من برج الحوت وأن يكون نجمك طالعاً شيء وأن تكون أحمقاً لعيناً شيء آخر .الجميع يعلم بأنة قد هرب بذهب البلد كلة وبأنة أغنى منفي في المارتينيك “. كان هوميرو الذي يكبرها بعشر سنين ، قد نشأ متأثراً بالمقالات الأخبارية التي كانت تكتب عن الرئيس أشياء من قبيل أنة كان قد درس في جنيف وانة كان يعيل نفسة هناك من خلال العمل كعامل بناء . لكن لازارا كانت على العكس منة ، فقد تربت وسط الفضائح التي كانت تنشرها صحف المعارضة ، والتي كانت تتضخم في منزل المعارضين الذي كانت تعمل فية كمربية منذ الصغر . ونتيجة لذلك ، في الليلة التي عاد فيها هوميرو الى المنزل ، مبهور الأنفاس من الفرح لأنة كان قد تناول الغداء مع الرئيس ، لم تقتنع بأن الرئيس قد أصطحبة معة الى مطعم راق . وأكثر ما أزعجها هو عدم طلب هوميرو منة أي شيء من تلك الاشياء العديدة التي كانا يحلمان بها ، مثل الزمالات الدراسية للاطفال أو الحصول على عمل أفضل في المستشفى . وماعزز ظنونها تلك ، كما يبدو ، كان قرار الرئيس بترك جسدة للنسور بدلاً من صرف فرنكاتة على دفنة بشكل مناسب وترتيب عودتة الى أرض الوطن بشكل مشرف . لكن القشة التي قصمت ظهر البعير هي الأخبار التي ذكرها لها هوميرو في آخر المطاف ، وهي دعوتة للرئيس لكي يتناول الروبيان والرز ليلة الخميس في شقتهم . صرخت لازارا ” هذا ماكنا نحتاجة بالضبط ، أن نتركة يموت هنا ، مسموماً بالروبيان المعلب ، واستخدام مدخرات الأطفال لدفنة ” في النهاية ، قررت الإذعان أخلاصاً لحياتها الزوجية . وأضطرت الى أستلاف طقم سفرة كامل من الفضة ، وزبدية من الكريستال للسلطة من أحد الجيران ، وأبريق قهوة كهربائي من جارة آخرى، وسفرة مزخرفة وأقداح قهوة من الصيني من جارة ثالثة . وأنزلت الستائر القديمة ، وعلقت بدلها الستائر الجديدة ، التي تستخدمها في المناسبات فقط ، وأزاحت الأغطية عن الاثاث . وأمضت يوماً كاملاً في حك الأرضية ، ونفض الغبار ، وتعديل وضع الاثاث ، حتى حققت في النهاية عكس ماكانت تصبو الية ، وهو أن يقوم فقرهما النبيل بتحريك مشاعر الضيف الكبير. وفي ليلة الخميس ، عندما تمكن من التقاط أنفاسة بعد صعودة للطابق الثامن ، ظهر الرئيس عند الباب بمعطفة العتيق الذي اشتراة حديثاً ، وقبعة بطيخية الشكل كان قد اقتناها في وقت سابق ، وزهرة وحيدة للازارا . وتأثرت لازارا بوسامتة الرجولية وأخلاقة التي تليق بالأمراء ، لكنها شاهدت خلف ذلك القناع ماكانت تخشاة : لقد رأت فية رجلاً زائفاً وجشعاً . وفكرت أنة كان وقحاً كذلك ، لانها عندما طبخت الروبيان تركت الشبابيك مفتوحة لتمنع الرائحة من المكوث في البيت ، لكنة عندما دخل سحب نفساً عميقاً ، كما لو أنة كان يشعر بنشوة مفاجئة ، وقال بعينين مغمضتين ، وذراعين مفتوحين ” أة ، رائحة محيطنا ! ” وفكرت أن بخلة كان يفوق التصور لأنة جلب لها زهرة واحدة فقط ،سرقها بلا شك من الحدائق العامة . وفكرت أنة كان متغطرساً أيضاً لأنة شرع ينظر بازدراء الى قصاصات الصحف التي تمثل أمجادة الرئاسية ، والى اعلام ورايات حملتة الانتخابية التي غرسها هوميرو بصدق واخلاص على جدار غرفة المعيشة . وفكرت أنة كان قاسي القلب ، لأنة لم يحيي باربرا ولازارو ، اللذان صنعا لة هدية ، وعندم شرع بتناول الطعام أشار الى شيئين قال أنة لم يكن يطيقهما : وهما الكلاب والأطفال . لقد كرهتة . مع ذلك ، تغلب عليها حس الضيافة الكاريبي ونست تحاملها ضدة . كانت قد ارتدت ثوبها الافريقي الذي كانت ترتدية في المناسبات الخاصة ، وقلادة السانتيرا الخاصة بها وأساروها ، ولم تصدر عنها أثناء تناولهم للطعام أي ايماءة غير ضرورية ولم تتفوة باي كلمة زائدة عن الحاجة . لقد تصرفت كامراة بلا عيوب : بل كأمرأة كاملة . في الواقع لم يكن طبق الروبيان والرز واحداً من مآثر مطبخها ، لكنها أعدتة على أحسن مايكون ، وأصبح في النهاية لذيذاً جداً . تناول الرئيس صحنين ، ولم يدخر وسعاً في كيل عبارات المديح ، وكان سعيداً بسلطة شرائح نبات لسان الحمل المقلية الناضجة وثمرة الأفوكاتة ، رغم أنها لم تثر فية الحنين الى الوطن مثلهما . وأكتفت لازارا بالأستماع فقط حتى حان وقت تناول الحلوى ،حينها وقع هوميرو دون سبب واضح في شباك الزقاق غير النافذ لمسألة وجود اللة . قال الرئيس ” أنا أؤمن بأن أللة موجود ، لكن لاعلاقة لة بالبشر . أنة مشغول بقضايا أكبر ” . قالت لازارا وهي تتفحص رد فعل الرئيس ” أنا أؤمن بالنجوم فقط . في اي يوم كان ميلادك ؟ ” . ” الحادي عشر من مارس ” قالت لازارا بوثبة أنتصار صغيرة ” كنت أعرف ذلك ” ، ثم أضافت بصوت دمث ” الاترى بأن حوتين على مائدة واحدة يكونان أكثر من اللازم ؟ ” عندما ذهبت الى المطبخ لاعداد القهوة كان الرجلان يديران نقاشاً حول اللة. كانت قد رفعت السفرة ، وتمنت من قلبها أن تنتهي هذة الأمسية على خير .عند عودتها الى غرفة المعيشة بالقهوة ، سمعت ملاحظة عابرة من الرئيس ، اصابتها بالذهول . ” كن على يقين ، ياصديقي العزيز : سيكون أسوأ شيء يمكن أن يحدث لبلدنا المسكين ، لو كنت أنا الرئيس ” . شاهد هوميرو لازارا في مدخل الباب بأقداح الصيني المستعارة من الجيران وأبريق القهوة وظن أنها ستفقد الوعي . ولاحظ الرئيس ذلك ايضاً ، وقال بصوت ودي ” لاتنظري لي على هذا النحو ، ياسنيورا . أنا أتحدث من قلبي ” . ثم التفت الى هوميرو ، وأكمل ” انني فقط أدفع الثمن غالياً لحماقاتي ” . قدمت لازارا القهوة ، وأطفئت النور المعلق فوق المائدة لأن ضوءة القوي لم يكن يساعد في توصيل الحديث ، لتغمر الغرفة بعد ذلك عتمة حميمة . وشعرت للمرة الأولى بأهتمام ما بالضيف ، الذي لم يكن رغم ذكائة قادراً على أخفاء حزنة . وزاد فضول لازارا عندما رأتة ينهي قهوتة ويقلب الفنجان في الصحن الصغير لكي تنزل ثفالتة . قال لهما الرئيس بأنة كان قد أختار جزيرة المارتينيك مكاناً لمنفاة بسبب صداقتة للشاعر أيمية سيزار ، الذي كان في ذلك الوقت قد فرغ تواً من طباعة كتابة دفتر العودة لأرض الميلاد وكان قد ساعدة على فتح صفحة جديدة في حياتة. وبما تبقى لة من أرث زوجتة ، أشترى الرئيس بيتاً مصنوعاً من خشب نبيل في تلال فورت دو فرانس ، بحجابات على النوافذ ، وشرفة تطل على البحر ، مليئة بزهور بدائية ، كان يطيب لة النوم فيها على صوت الجنادب وعلى الأنسام المحملة بعبق دبس السكر وشراب الروم الهابطة علية من طواحين السكر . لقد قطن هناك مع زوجتة ، التي كانت تكبرة بأربعة عشر عاماً وأصبحت معاقة منذ ولادة طفلهما الوحيد ، محصناً نفسة ضد ضربات القدر بقراءة الآداب اللاتينية القديمة ، باللاتينية ، وباقتناعة بأنة قد وصل الى آخر فصل من فصول حياتة ، وكان علية أن يقاوم لعدة سنين غواية كل أنواع المغامرات التي كان يقترحها علية أنصارة المهزومين . قال ” لكني لم أفتح أبدأ اي رسالة أخرى . أبدأ ، واكتشفت بأن حتى أكثر الرسائل الحاحاً ، لن تكن كذلك ، بعد أن تتركها أسبوعاً واحداً ، وبعد مرور شهرين تكون قد نسيتها تماماً ونسيت كاتبها ” . نظر الى لازارا في شبة الظلام عندما قامت باشعال سيجارة ، تناولها منها بحركة شرهة من أصابعة . وبعد أن سحب منها نفساً عميقاً ، حبس الدخان في حنجرتة . جفلت لازارا ، والتقطت علبة السجائر والثقاب لكي تشعل سيجارة أخرى ، لكنة أعاد اليها السيجارة المشتعلة قائلاً ” أنت تدخنين بمتعة كبيرة أجد نفسي غير قادر على مقاومتها ” . ثم أضطر الى نفث الدخان لأنة بدأ يسعل . قال ” لقد تخليت عن عادة التدخين منذ سنين ، لكنها لم تتخل عني تماماً . وبعض الأحيان كانت تتغلب علي . مثل الآن ” هزة السعال مرتين أخريين . وعاد الألم . وتفحص الرئيس ساعة جيبة الصغيرة وتناول الحبيتين المخصصتين للمساء . ثم حدق في قعر الفنجان : لم يتغير شيء ، لكنة لم يرتجف هذة المرة . قال ” بعض من أيدوني في الماضي أصبحوا رؤوساء من بعدي ” . قال هوميرو ” ساياغو ” قال الرئيس ” ساياغو وآخرين . كلنا قمنا باغتصاب شرف منصب لم نكن نستحقة ولم نعرف كيف نشغلة . البعض يبحث فقط عن السلطة ، لكن معظم البقية يبحثون عن شيء أقل حتى من ذلك : مجرد وظيفة ” . شعرت لازارا بالغضب ، وسالتة . ” هل تعلم ماذا يقولون عنك ؟ ” وتدخل هوميرو مفزوعاً ” أنها أكاذيب ” . قال الرئيس بهدوء سماوي ” انها أكاذيب وغير أكاذيب . عندمل يتعلق الأمر برئيس دولة ، تكون أكثر الأمور خزياً حقيقية وزائفة في نفس الوقت معاً ” . كان قد عاش في المارتينيك جميع أيام غربتة ، وكان أتصالة الوحيد بالعالم الخارجي يتم عير الفقرات الاخبارية القليلة التي كان يجدها في الصحيفة الرسمية . وكان مصدر رزقة الوحيد تدريس اللغة الاسبانية واللاتينية في الليسية الحكومية ونشر ترجمات لايمية سيزار بين الحين والآخر بتكليف من الشاعر نفسة . كان قيظ آب لايطاق ، وكان يمكث داخل الارجوحة الشبكية حتى الظهر ، ليطالع على هدير المروحة في غرفة النوم . وحتى في أشد الأوقات قيظاً كانت زوجتة تعتني بالطيور التي كانت تربيها حرة في الخارج دون أقفاص ، حامية نفسها من الشمس بقبعة قش عريضة الحافة مزينة بفواكة وزهور أورغندي صناعية . ولكن عندما كانت الحرارة تنخفض ، كان يطيب لهما الجلوس في هواء الشرفة البارد ، هو بعينية المثبتتين على المحيط حتى يغمرة الظلام ، وهي في كرسيها الهزاز المصنوع من أماليد الخشب المضفورة ، مرتدية قبعتها الممزقة ، وخواتم ذات أحجار براقة في كل اصبع ، مراقبة مرور سفن العالم . كانت تقول ” تلك متجهة الى بويرتو سانتو أو تلك لاتستطيع الحركة ، لأنها محملة جداً بالموز القادم من بويرتو سانتو ” . كانت تقول ذلك لأنة لم يكن يبدو ممكناً لها أن تكون السفن العابرة من هناك قادمة من اي بلد آخر غير بلدهما . وكان هو يتظاهر بعدم سماعها ، رغم انها في النهاية تمكنت من النسيان بشكل افضل منة لأنها فقدت ذاكرتها . كانا يجلسان على هذا النحو لساعات طويلة حتى هبوط شفق المساءات الصاخب حيث كان يهرعان الى داخل المنزل ، هرباً من البعوض . وخلال واحداً من تلك الآبات العديدة ، عندما كان يقرأ الصحيفة في الشرفة ، جفل الرئيس مندهشاً . قال ” ياويلتي ! لقد مت في أستوريل ! ” . وشعرت زوجتة السابحة في نعاسها بالذعر لسماعها هذة الاخبار . كانت المقالة تتألف من ستة اسطر على الصفحة الخامسة من الصحيفة التي تٌطبع في المطبعة الكائنة خلف الناصية ، التي كان ينشر فيها ترجماتة القليلة والتي كان مديرها يزورة بين الحين والحين . والآن كانت تقول بأنة قد مات في أستوريل دي لسبوا، منتجع وملجأ التفسخ الأوربي ، الذي لم تطئة قدماة من قبل ، والذي كان المكان الوحيد في العالم ، ربما ، الذي لم يكن يحب الموت فية . كانت زوجتة قد ماتت ، في الواقع ، قبل عام ، تعذبها الذكرى الوحيدة المتبقية لها : وهي ذكرى طفلهما الوحيد ، الذي كان قد ساهم في الاطاحة بوالدة ومات رمياً بالرصاص على أيدي شركائة في الجريمة . تنهد الرئيس ، وقال ” هكذا نحن ، ولاشيء يمكن لة انقاذنا . قارة حملت بها حثالة الأرض دون لحظة واحدة من الحب : أطفال الاختطافات والاغتصابات والصفقات المريبة والخداع ، أتحاد الأعداء مع الأعداء ” . واجة عينا لازارا الأفريقيتين ، اللتان كانتا تغوصان فية بلا رحمة ، وحاول استمالتها بفصاحة سيد عريق . ” خلط الأجناس يعني خلط الدموع بالدم المراق . ماذا يمكن للمرء أن يتوقع من هكذا جرعة ؟ ” . وثبتتة لازارا في مكانة بصمت كصمت الموت . لكنها تمالكت نفسها قليلاً قبل منتصف الليل وقالت لة مع السلامة بقبلة رسمية . ورفض الرئيس السماح لهوميرو مرافقتة الى الفندق ، رغم انة لم يستطع منعة من مساعدتة على ركوب التكسي . وعندما عاد هوميرو ، كانت زوجتة تغلي من الغيظ . قالت ” ذلك واحداً من الرؤوساء القلائل في العالم ممن يستحق فعلاً الاطاحة بة . يالة من ابن زانية” . ورغم جهود هوميرو في تهدئتها ، فقد أمضيا ليلة رهيبة بلانوم . واعترفت لازارا بأنها لم تشاهد في حياتها رجلاً أكثر وسامة ، ولاأكثر قدرة على الغواية ولاأكثر فحولة منة . قالت ” كما هو الآن ، عجوزاً ومهدماً ، لابد أن يكون نمراً في الفراش ” . لكنها فكرت بانة كان قد بدد هذة المواهب الآلهية بالتظاهر . لقد عجزت عن تحمل تبجحة عندما قال بأنة كان أسوأ رئيس عرفتة البلاد ، وكرهت تظاهرة بالزهد ، في الوقت الذي كانت فية مقتنعة تمام الاقتناع بأنة كان يملك نصف مزارع السكر في المارتينيك ، و نفاقة عندما قال بأنة لايطيق السلطة ويحتقرها ، رغم انة كان بكل وضوح مستعد للتضحية بكل شيء من أجل العودة الى الرئاسة ويبقى فيها لمدة طويلة تكفي لجعل أعدائة يعضون التراب . واستنتجت قائلة ” كل ذلك من أجل أن يجعلنا نعبد قدمية ” . سال هوميرو ” أي فائدة سيجني من ذلك ؟ ” . قالت ” لاشيءء على الاطلاق . لكن حقيقة أن تكون مغرياً تعني أنك تعاني من إدمان لاعلاج لة ” . كان غضبها عارماً لدرجة أن هوميرو لم يكن قادراً على البقاء معها في السرير ، وقضى بقية الليل ملتفاً ببطانية على الأريكة في غرفة المعيشة . نهضت لازارا أيضاً عند منتصف الليل ، عارية من الرأس الى أخمص القدم – كما هي عادتها عندما تنام أو تكون في البيت – وتحدثت مع نفسها في حوار ذاتي حول موضوع واحد فقط . وبضربة واحدة مسحت من ذاكرتها الانسانية جميع آثار العشاء الكريهة . وعندما إنبلج الصبح أعادت ماكانت قد أستعارتة ، وبدلت الستائر الجديدة بالقديمة ، وأعادت الأثاث الى مكانة الاصلي حتى عاد البيت فقيراً ومحتشماً كما كان علية في الليلة السابقة . ثم مزقت قصاصات الصحف وصور وأعلام ورايات الحملة الانتخابية البغيضة ، ورمت كل شيء في الزبالة مصحوباً بصيحة أخيرة : ” بامكانك الذهاب الى الجحيم ! ” . بعد مرور أسبوع على الغداء ، وجد هوميرو الرئيس في انتظارة عند خروجة من المستشفى ، وطلب منة مرافقتة الى فندقة . وصعدا ثلاثة أدوار من السلالم المائلة الى غرفة في السطوح لها كوة وحيدة تطل على سماء رمادية ؛ وكان فيها حبل نُشرت علية ثياب الرئيس لتجف ،وفيها أيضاً سرير مزدوج أحتل نصف فراغ الحجرة ، وكرسي من خشب قاس ، ومغسلة وشطافة متحركة ، وخزانة عتيقة ذات مرآة مغبشة . لاحظ الرئيس رد فعل هوميرو ، وقال وكأنة يعتذر ” هذا هو الجحر الذي سكنت فية عندما كنت طالباً . لقد قمت بحجزة من فورت – دو – فرانس ” . ومن حقيبة مخملية أخرج الرئيس بقايا ثروتة وعرضها على على السرير . وكانت تتألف من عدة معاضد ذهبية مزينة بأنواع مختلفة من الأحجار الكريمة ، وعقد من اللؤلؤ من ثلاث جدائل ، وعقدين آخرين من الذهب والاحجار الكريمة ؛ وزوج من الأقراط الذهبية والزمردية ، وزوج آخر من الذهب واللؤلؤ ، وثالث من من الذهب والياقوت ؛ ومذخران ومدلاة ؛ وأحدى عشر خاتماً مزينة بجميع أنواع الأحجار الكريمة وتاج من الماس يليق بملكة . وأخرج من أحدى العلب ثلاثة أزواج من الأزرار الفضية التي تستخدم لربط الأكمام ، وزوجين مثلها من الذهب ، وكانت كلها منسجمة مع طقم من دبابيس ربطات العنق ، وساعة جيب مطلية بالذهب . ثم أخرج نياشينة الستة من كارتونة للأحذية ، وكان أثنان منها من الذهب ، وواحد من الفضة ، والبقية بلا قيمة . قال ” هذا كل ماتبقى لي في هذة الدنيا ” . لم يكن أمامة خيار آخر غير أن يعرضها جميعاً للبيع لتغطية تكاليف علاجة الطبي ، وطلب من هوميرو بان يتفضل بالقيام بذلك على أن يتخذ أقصى مايستطيع من الحيطة والكتمان . لكن هوميرو شعر بأنة لم يكن قادراً على القيام بتلك المهمة دون الحصول على الوصولات الأصلية . ووضح لة الرئيس بأن المجوهرات كانت لزوجتة ، وقد ورثتها من جدتها التي كانت قد عاشت في العهود الاستعمارية وكانت تملك مجموعة من الأسهم في مناجم الذهب الكولومبية . أما الساعة وأزرار ردن القميص ودبابيس أربطة العنق فقد كانت لة . والنياشين ، بالطبع ، لم يكن يملكها أحد قبلة . قال ” لاأعتقد ان أحداً يملك وصولات لمثل هذة الاشياء ” . لكن هوميرو كان مصراً . فكر الرئيس ملياً وقال ” في هذة الحالة لايسعني الا أن أتولى أمرها بنفسي ” . وبدأ بجمع الحلي والمجوهرات بهدوء مدروس وقال ” أتوسل اليك بأن تسامحني ، ياعزيزي هوميرو ، لكن لايوجد ثمة فقر أسوأ من فقر رئيس معدم ، لأن حتى مجرد البقاء على قيد الحياة يبدو جديراً بالاحتقار بالنسبة لة ” . وفي تلك اللحظة تحركت عاطفة هوميرو فاستسلم لة ورق قلبة . تلك الليلة عادت لازارا متأخرة الى البيت ، وشاهدت المجوهرات من الباب تلمع على الطاولة تحت النور الزئبقي ، وبدا عليها وكأنها شاهدث عقرباً في سريرها . قالت بفزع ” لاتكن غبياً ، ياطفلي ، لماذا توجد تلك الأشياء هنا ؟ ” وأزعجها توضيح هوميرو لوجود الحلي في شقتها أكثر من الحلي نفسها ، فجلست لتفحص القطع ، واحدة واحدة ، بحرص صائغ ، وفي لحظة ما تنهدت وقالت ” لابد إنها تساوي ثرورة ” . وفي النهاية جلست تنظر الى هوميرو بعد أن عجزت عن إيجاد مخرج لها من هذة الورطة . قالت ” اللعنة ، كيف يتسنى لنا أن نعرف بأن مايقولة ذلك الرجل صحيح ؟ ” . قال هوميرو ” ولماذا لايكون ؟ لقد شاهدت بعيني بأنة يقوم بغسل ثيابة بنفسة ويعلقها على حبل داخل غرفتة ، مثلما نفعل نحن تماماً ” . قالت لازارا ” ذلك لأنة إنسان رخيص ” . قال هوميرو ” أو فقير ” . فحصت لازارا المجوهرات ثانية ، لكن دون إهتمام كبير هذة المرة ، لإنها وجدت بأنها هي نفسها قد إندحرت وأستسلمت . وفي اليوم التالي أرتدت أفضل ثيابها ، وزينت نفسها بالقطع التي كانت تبدو أغلى ثمناً من البقية ، مرتدية أكبر عدد ممكن من الخواتم في كل إصبع من أصابعها ، حتى في إبهامها ، ووضعت كل الأساور المناسبة على كل ذراع من ذراعيها ، وخرجت لبيعها . وقالت وهي تغادر ” لنرى إن كان ثمة من يطالب لازارا بالوصولات ” ثم راحت تتبختر ضاحكة . وإختارت الجواهرجي المناسب تماماً ، وهو محل فية من المظاهر والخيلاء أكثر ممافية من الرصانة والهيبة ، وكانت تعلم بأن أصحاب هذا المحل كانوا يبيعون ويشترون بدون طرح الكثير من الأسئلة ، فدخلت المحل وهي تشعر بالخوف لكنها سارت بخطى ثابتة . وأستقبلها بائع نحيل ، شاحب الوجة ، يرتدي بذلة مسائية بإنحناءة مسرحية وقبلها على يدها وسألها كيف يمكن لة مساعدتها . كان المدخل بسبب المرايا العديدة والأضوية الساطعة يبدو أشد سطوعاً من ضوء النهار ، وبدا بأن المحل بأكملة مصنوع من الجواهر . وتبعت لازارا صاحب محل المجوهرات الى الجزء الخلفي من المحل ، وهي تتحاشى النظر الى عينية مخافة أن يكتشف المهزلة . دعاها الى الجلوس عند واحدة من ثلاث طاولات من نوع (أسكريتوار ) تعود لعصر لويس الخامس عشر والتي كان كل منها يشكل نضداً قائماً بذاتة ، نُشرت فوقة قطعة قماش بلا نقوش ، ثم جلس قبالتها وراح ينتظر . ” كيف يمكن لي مساعدتك ؟ ” . نزعت الخواتم ، والمعاضد ، والعقود ، والأقراط ، وكل شيء كانت ترتدية ، على مرآى منة ، وشرعت بوضعها على طاولة الأسكريتوار في نسق يحاكي نسق رقعة الشطرنج ، وقالت بأن كل ماكانت تريدة هي معرفة القيمة الحقيقية لهذة الحلي . وضع الجوهري زجاجة مكبرة على عينة اليسرى وبدأ يتفحص القطع بصمت عيادي . وبعد فترة طويلة ، سألها ، دون أن يوقف فحصة للمجوهرات : ” من أين أنت ؟ ” لم تتوقع لازارا مثل هذا السؤال ، فتنهدت وقالت ” نعم ، سنيور ، أنا من مكان بعيد جداً ” . قال ” هذا ماخمنتة ” . ركن الى الصمت ثانية ، وفي هذة الأثناء كانت عينا لازارا الذهبيتان الرهيبتان تتفحصانة دون رحمة . كرس الجوهري إهتماماً خاصاً بتاج الماس وعزلة عن بقية المجوهرات . تنهدت لازارا وسألتة ” أنت من برج العذراء بحق ” . قال الجوهري دون أن يتوقف عن فحص الحلي ” كيف عرفت ؟ ” قالت لازارا ” من تصرفاتك ” . لم يعلق بشيء على ماقالت حتى إنتهى من عملة ، وتوجة لها بالحديث بنفس الإحتراس الذي بادرها بة من البداية . ” من أين أتيت بكل هذا ؟ ” قالت لازارا بصوت متوتر ” أنة تركة ورثتها من جدتي . لقد توفيت العام الماضي في باراماريبو ، عن عمر سبعة وتسعين عاماً” . نظر الجوهري في عينيها وقال ” أنا آسف ، لكن قيمتها الحقيقية هي وزن الذهب ” : والتقط الإكليل بأطراف أناملة وجعلة يومض تحت أشعة النور الباهر . قال ” ماعدا هذا . أنة قديم جداً ، مصري ربما ، وقد لايقدر بثمن لولا حالة المجوهرات السيئة . على أية حال ، فهو يتمتع بقيمة تاريخية أكيدة ” . لكن الأحجار الموجودة في الكنوز الأخرى ، أحجار الجَمَشْت ، والزمرد ، والياقوت ، والأوبال – كلها ، دون إستثناء – مزيفة . قال الجوهري وهو يجمع القطع ليعيدها لها ” لابد إن القطع الأصلية كانت جيدة بلا شك ، لكنها تنقلت على الأغلب من جيل لآخر ، مما أدى الى ضياعها في الطريق ، والإستعاضة عنها بزجاج قناني ” . شعرت لازارا بغثيان أخضر يجتاحها ، فسحبت نفساً عميقاً ، وسيطرت على إحساسها بالذعر ، وقام الجوهري بمواساتها قائلاً ” غالباً مايحدث هذا الأمر ، يامدام ” . قالت لازارا بارتياح” أعلم ذلك . لهذا السبب أريد التخلص منها ” . وشعرت في تلك اللحظة بأنها قد تخطت حدود هذة المهزلة ، واستعادت ذاتها الحقيقية . وبدون إبطاء أخذت تخرج من حقيبة يدها أزرار الأكمام ، وساعة الجيب ، ودبابيس ربطات العنق ، والحلي الذهبية والفضية ، وبقية حلي الرئيس الشخصية الصغيرة التافهة ، وتضعها جميعاً على الطاولة . سئل الجوهري ” هذة أيضاً ؟ ” . قالت لازارا ” كلها ” . دفع لها بالفرنكات السويسرية ، التي كانت جديدة جداً لدرجة إنها خشيت أن تتلوث اصابعها بالحبر الطازج . استلمت الأوراق النقدية دون عد ، وودعها الجوهري عند المدخل بنفس الطريقة الإحتفالية التي استقبلها بها في البداية . وعندما فتح لها الباب الزجاجي ، إستوقفها للحظة ، قائلاً ” شيء أخير ، يامدام ، أنا من برج الدلو . ” في بداية ذلك المساء حمل هوميرو ولازارا المال الى الفندق . وبعد المزيد من التدقيق، إكتشفوا بإنهم كانوا لايزالون بحاجة الى مبلغ قليل آخر من المال ، فنزع الرئيس خاتم زواجة ، وساعتة ، وسلسلتة ، وأزرار كم قميصة ، ودبوس ربطة عنقة التي كان يرتديها ووضعها على السرير . أعادت لازارا الية خاتم الزواج قائلة ” ليس هذا ، ذكرى مثل هذة لايمكن أن تُباع . ” ووافق الرئيس على قولها وأعاد الخاتم الى إصبعة . لكن لازارا أعادت الية الساعة أيضاً ، قائلة ” ولاهذة أيضاً ” ولم يوافق الرئيس ، لكنها أعادتة الى رشدة بقولها ” من ذا الذي يفكر ببيع ساعة في سويسرا ؟ ” قال الرئيس ” لقد قمنا بذلك بالفعل ” قالت ” نعم ، لكننا لم نبع الساعة ، لقد بعنا الذهب ” . قال الرئيس ” وهذة ذهب أيضاً ” . قالت لازارا ” نعم ، قد لاتكون بحاجة الى العملية ، لكنك ستحتاج الساعة لمعرفة الوقت ” . ورفضت أخذ نظاراتة ذات الإطار الذهبي أيضاً ، رغم إمتلاكة لنظارات أخرى ذات إطار مصنوع من درع سلحفاة . ورازت القطع بيدها ، ووضعت حداً لشكوكة ، قائلة ” إضافة الى ذلك ، هذة تكفي ” . وقبل أن تغادر أخذت ثيابة الرطبة ، دون أن تستشيرة في ذلك ، لكي تجففها وتقوم بكيها في المنزل . وركبا دراجة السكوتر ، هي وهوميرو ، هوميرو سائقاً وهي جالسة خلفة ، وذراعيها تحيطان بخصرة . كانت أضوية الشارع قد أنيرت للتو في الغسق البنفسجي الزاهي . وكانت الريح قد كنست بقايا الأوراق ، وبدت الأشجار مثل أحافير تم إقتلاعها من باطن الأرض . ومرت شاحنة سحب بمحاذاة نهر الرون ، وكان مذياعها يلعلع بأعلى صوتة ، مخلفاً وراءة على الشوارع تياراً من الموسيقى والغناء . جورج براسينس كان يغني أغنية : Mon amour tiens bien la barre, le temps va passer par la , le temp est un barbare dans le genre d’Attila, par la ou son cheval passé l’mour ne repousse pas. واصل هوميرو ولازارا السير بصمت ، منتشيان بالأغنية ، وبالذكرى المستعادة لرائحة زهرة الياقوتية . وبعد فترة بدت لازارا وكأنها تفيق من نوم طويل ، وقالت ” اللعنة ” ” ماذا ؟ ” . قالت لازارا ” يا للعجوز المسكين ، وحياتة البائسة ” . وفي يوم الجمعة التالي ، وهواليوم السابع من أكتوبر ، خضع الرئيس لعملية دامت خمس ساعات ، تاركاً بذلك ،حتى تلك اللحظة ، كل شيء على غموضه السابق ، وكان عزائهما الوحيد في ذلك هو أن يعرفا ، على الأقل ، بأنة لايزال على قيد الحياة . وبعد عشرة أيام تم نقلة الى غرفة يحتلها مرضى آخرون ، وجاء هوميرو ولازارا لزيارتة ، لكنهما وجداة رجلاً مختلفاً ، كان مشدوهاً وضامراً ، وكان شعرة المتناثر يسقط بمجرد ملامستة للوسادة ، ولم يتبق من حضورة السابق غير رشاقة يدية الناعمتين ، وشعرا بحزن يقطع نياط القلب لمنظرة وهو يقوم محاولتة الأولى للسير بمساعدة عكازتين . مكثت لازارا الى جانبة في المستشفى لتوفر علية مصاريف ممرضة خاصة . وفي الليلة الأولى ظل أحد النزلاء يصرخ طوال الليل خشية من الموت ، لكن بقية الليالي التي قضتها في المستشفى الى جانبة والتي بدت بلا نهاية ، قضت على آخر تحفظات لازارا تجاهة . أُخرجوة من المستشفى ، وكان في ذلك الحين قد مر على وجودة في جنيف أربعة اشهر ، وقام هوميرو الذي كان يتولى إدارة أموال الرئيس الشحيحة بحرص يقرب من الوسواس بدفع فاتورة العلاج ، وأخذة معة الى البيت بسيارتة الإسعاف بمساعدة زملاء لة عاونوة على نقل الرئيس الى الطابق الثامن ، ووضعوة في غرفة نوم الأطفال الذين لم يعترف بهم حقاً ، وشيئاً فشيئاً أخذ يعود الى أرض الواقع ، مكرساً نفسة لممارسة التمارين بحماس عسكري لإستعادة لياقتة البدنية ، وأخذ يسير مجدداً متكئأً على عصا واحدة ، لكنة كان بعيداً كل البعد عن كونة نفس الرجل القديم سواء في مظهرة أو سلوكة ، حتى عندما عاد لإرتداء ثيابة الجيدة العائدة لأيامة الخوالي السعيدة. وخوفاً من الشتاء الذي كان يعد بأن يكون قاسياً ، والذي أثبت في الواقع إنة كان أسوأ شتاء في قرننا هذا ، قررالعودة الى الوطن بسفينة كانت تزمع الرحيل من مرسيليا يوم 13 ديسمبر مخالفاً بذلك نصائح أطباءة ، الذين كانوا يرومون وضعة تحت الملاحظة لفترة أطول . وفي آخر لحظة إكتشف بأنة لم يكن يملك المال الكافي للقيام بالرحلة ، وبدون أن تخبر زوجها ، حاولت لازارا تغطية الفرق بكشطة آخرى من مدخرات الأطفال ، لكنها لم تجد مايكفي من المال في المدخرات ، كما كانت تتوقع ، لأن هوميرو ، حسب إعترافة ، كان قد قام بأستخدام المدخرات لإنهاء دفع فاتورة المستشفى . وفي الحادي عشر من ديسمبر ، أركباة القطار الذاهب الى مرسيليا ، وسط عاصفة ثلجية عنيفة ، وعندما عادا الى المنزل وجدا رسالة وداع على الطاولة الموضوعة بجانب سرير نوم الأطفال ، ووجدا أيضاً خاتم زواجة ، وكان قد تركة لبربارا ، ومعة خاتم زوجتة المتوفية ، الذي لم يحاول أبداً بيعة ، ووجدا أيضاً بأنة قد ترك الساعة والسلسلة للازارا . وبما إن يوم رحيلة صادف يوم أحد ، فقد قام بعض الجيران الكاريبيين الذين أكتشفوا السر بالحضور الى محطة كورنافين بصحبة فرقة تعزف على القيثار من فيراكروز ، وكان الرئيس الملفع بمعطفة الرخيص وشال ملون يعود للازارا ، يلهث طلباً للهواء ، لكن ذلك لم يمنعة من الوقوف في المنطقة المفتوحة الكائنة في العربة الأخيرة ليلوح مودعاً بقبعتة في وجة الريح العاصفة . كانت سرعة القطار قد بدأت بالإزدياد ، عندما أكتشف هوميرو بأنة كان لايزال يحتفظ بعصا الرئيس . فركض الى نهاية المنصة ورمى بها بكل ماأوتي من قوة لكي يتلقفها الرئيس ، لكنها سقطت تحت العجلات وتهشمت . لقد كانت لحظة مرعبة ، هي آخر مارأتة لازارا من الرئيس الذي مد يدة الراعشة لإلتقاط العصا من الهواء ، لكنها لم تصل اليها ، وكاد ان يسقط لولا قاطع التذاكر الذي تمكن من الإمساك بالرجل العجوز المكلل بالثلوج من شالة وإنقاذة من الموت بعد أن كان معلقاً في الفراغ . وركضت بعد ذلك لازارا الى زوجها وقد تملكها ذعر شديد ، محاولة أن تضحك خلف ستار من الدموع . صاحت ” ياآلهي ، لاشيء يمكن أن يقتل ذلك الرجل ” . وصل الى الوطن سالماً غانماً حسب ماذكرة في تلغراف الشكر الذي بعثة . لكن أخبارة أنقطعت عنهما لأكثر من عام ، وأخيراً إستلما منة رسالة من ست صفحات مدونة بخط يدة ، بدا من المستحيل التعرف علية فيها ، ذكر فيها بأن الألم قد عاد ، بنفس الحدة والدقة التي كان عليها من قبل ، لكنة قرر أن يتجاهلة وأن يعيش الحياة كيفما أتفق . وقال بأن الشاعر إيمية سيزار أعطاة عصا أخرى مطعمة بعرق اللؤلؤ ، لكنة قرر عدم إستخدامها ، وقال بأنة لستة أشهر ظل يتناول اللحم وجميع أنواع المحار ، وبأنة في اليوم الواحد كان يحتسي عشرون فنجاناً من أشد أنواع القهوة مرارة ، لكنة توقف عن قراءة قعر الفنجان ، لأن التنبؤات لم تكن تتحقق ابداً . وقال بأنة يوم بلوغة الخامسة والسبعين إحتسى بضعة كؤوس من شراب روم المارتينيك الراقي ، والذي يتماشى مع ذوقة ، وشرع بالتدخين ثانية . وذكر بأن لم يكن يشعر بتحسن ، أو تدهور ، ولم يشعر بأن حالتة كانت تسوء ، مع ذلك فإن السبب الحقيقي الذي دعاة لكتابة هذة الرسالة لهم هو لإخبارهم بأنة كان يحس بغواية العودة الى الوطن كقائد لحركة إصلاحية – وهي قضية عادلة من أجل شرف الأمة – حتى وأن لم يؤدي ذلك في نهاية المطاف لشيء غير نيل المجد البائس لقضاء نحبة على فراش الموت . وبهذا المعنى أُختتم الرسالة ، ذاكراً بأن رحلتة الى جنيف كانت من تدبير العناية الآلهية .

 

غابريل غارسيا ماركيز

 

يونيو / حزيران 1979 ترجمة علي سالم مالمو / السويد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى