الزميل الحسين محنض يكتب في ذكرى رحيل الكاتب عبدالله سيرى با
أخي الزميل عبد الله سيرى با.. لك التحية في قبرك مني ومن فلسطين..
الزمان أنفو –
(المثقف الموريتاني الذي انتقل فجأة من حب عاصف لليهود إلى دفاع مستميت عن فلسطين)..
لا أريد أن تنصرم أيام ذكرى رحيلك قبل أن أكتب عنك وعن وفائك للقضية الفلسطينية، إذ لا شيء أثقل على نفسي من رؤية العباقرة الذين عرفت وعايشت يموتون ثم يدفنون في قبور واسعة ومزخرفة من النسيان من قبل أمة ترفض حتى الاعتراف لهم بمكانتهم.. لا تأبينات، لا ذكريات، لا توشيحات، لا شوارع ولا مؤسسات تخلد أسماءهم، ولا مناهج مدرسية تعتني بهم، وهم كثر مع الأسف، عرفت منهم ولقيت مباشرة على سبيل المثال لا الحصر خالي الرياضي يحيى بن حامدن، الأديب جمال ولد الحسن، الشاعر فاضل أمين، الكاتبان الصحفيان حبيب بن محفوظ وعبد الله سيري با الذي توفي في مثل هذا الشهر قبل سنتين ومرت ذكراه منذ أقل من أسبوعين دون أن يتذكره أحد، أو يتذكر نضالاته في سبيل وطن جامع وأخوة حقيقية بين البيضان والزنوج الموريتانيين، حتى ولو كان ذلك من باب تذكر المواقف المشرفة المعلنة لأبنائنا الوطنيين من فلسطين في غمرة العدوان الصهيوني المستمر على إخوتنا في غزة..
لقد تعرفت وزاملت وصادقت الراحل عبد الله سيرى با في أواسط التسعينات حينما ينشر بعض كتاباته الثرية والمفعمة بالوطنية والنضال والحس السياسي في جريدة القلم لمالكها صديقه وصديقي العبقري الراحل المنسي هو الآخر حبيب بن محفوظ، وأذكر أني تعلمت منه أشياء عديدة من أهمها قوله لي إن قواعد الإعلام والاتصال تحبذ عدم استعمال حزب أو شركة أو هيئة لاسم إذا كانت صيغته اللفظية ذات مدلول سلبي في اللغات الأخرى، وقوله لي إن بعض الأساتذة الموريتانيين يوقع مقالاته بالفرنسية بالدكتور فلان بن فلان، وبأن ذلك مقصور في الحضار الغربية على الأطباء بينما توقيع سواهم ينبغي أن يكون فلان بن فلان دكتور بتأخير الصفة عن الاسم..
كان عبد الله سيرى با شخصا صارما ومهذبا في آن، نظيف الهندام دائما، بسيطا، ومتواضع، ومثقفا كبيرا، وأحد ألمع الكتاب بالفرنسية في البلد، وكان مناضلا صلبا، عايش في مراهقته أحداث 1966 الدامية فأثرت هذه المحنة كثيرا على نظرته لإخوته البيضان ونظام الحكم في تلك الفترة برهة من الزمن، قبل أن يتجاوز ذلك، ثم عايش في رجولته أحداث 1989 فتم طرده من الوظيفة العمومية، وتسفيره إلى السينغال، فتمكن هذه المرة بفضل نضجه وتجربته السياسية والثقافية الكبيرة التي اكتسبها من تجاوز هذه المحنة وآثارها سريعا، فعاد إلى بلده واستعاد مكانته الوظيفية، وظل يكتب ويعلم ويحاضر وينظر لأجيال مختلفة تأثرت به تأثرا كبيرا حتى وافاه الأجل في 18 دجمبر 2021..
ومع أن فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني تعهد حينها بتحمل الدولة لأعباء علاجه كما نقله له وزير الثقافة الذي زاره في منزله حينها، إلا أن الموت داهمه خلال ذلك، ليطويه النسيان الذي طوى أضرابه من مثقفي وعلماء وكتاب هذا البلد الذي طغت عليه الماديات وقيمها على حساب قيم الثقافة والتاريخ والمعرفة والإبداع..
تذكرته الليلة عرضا، وتذكرت أننا نمر بذكرى رحيله هذه الأيام، فأحببت أن أكتب عنه مذكرا به وفاء لذكراه العطرة، لعل اسمه ينقش يوما على جامعة أو مؤسسة علمية أو إعلامية أو يدرج في المناهج التربية، أو يوشح تكريما لدوره الوطني..
وحيث إننا في غمرة العدوان الصهيوني على غزة، وبما أن الفقيد عاش تجربة مريرة في هذا الصدد انتقل منها من حب عاصف لليهود وكل ما هو يهودي إلى أحد أبرز المدافعين عن القضية الفلسطينية من بين المثقفين الموريتانيين من غير القومية العربية الذين تشبعوا بالثقافة الغربية، رواها لنا هو بنفسه كما خلدها في رسالته الذائعة إلى الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، التي ترجمها باقتدار أخونا محمد بن امين حيث يقول فيها:�
((عزيزي ياسر عرفات..
إنك لا تستطيع التعرف علي…!
لقد رأيت النور سنتين بعد الحرب العالمية الثانية… رغم أن كل أحد في قريتي كان يعرف أن النزاع بفلسطين كان مريرا.. فلا أحد منهم كان يدري شيئا عن إعلان بلفور.. ولا عن وعد بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين.
لا أحد في قريتي أدرك شيئا عن نضال العرب ضد الغزو والسلب الصهيوني.. ولا عن مذابح دير ياسين.. ولا عن جرائم أراغون والهاغاناه.. وغيرهما من المنظمات التي تعتبر الحواضن التي أنجبت كل ما سيعرف بالإرهاب في الشرق الأوسط.
لا أحد في قريتي كان يعلم أي شيء عن نزوح شعب فلسطين.. آخر ضحايا الاستعمار.. ولا عن الباقين على قيد الحياة من ضحايا الحل النهائي المستفيدين من تواطؤ الغرب المثقل بألم الضمير والمنزعج من جرائمه السابقة..
نحن لم نكن نعرف أي شيء عن كل هذا…!
رغم كل ما سبق فإنني.. في حيز ما بداخلي.. ابن للنكبة…؟
لم أكن ولدت بعد حين أتيت أنت للعالم منتشرا على بلدين في وقت واحد.. بدنك في مصر وروحك في فلسطين.. لكنني ها أنا هنا حين أتتك الموت فوق ثلاث قارات.. وتحت باصرة الدنيا أجمعها..الدنيا التي حبست أنفاسها على إيقاع أنفاسك لأسبوعين كاملين.
لقد سمعت وزيرا من وزراء شارون يتحدث ببهجة وجذل عن كبير سعادته بخبر وفاتك.. ورأيت أفرادا من طائفة من غلاة اليهود يرقصون قبيل وفاتك ويتلهفون لها..
وبأيديهم الطبول والقيثارات.
لقد أحسست بالغضب الكبير…
بالألم الكبير…
ثم براحة عظيمة.. لأنه كان من الممكن أن أكون من بين الراقصين..
إذا كنت فرحا اليوم بأنني لم أكن بين الراقصين.. فذلك لأنني في يوم من يونيو 1967 قابلت فلسطين..
التقيت بفلسطين.
لقد كنت ساعتها صحفيا متدربا.. واحدا من ذلك الصنف الساذج الزاخر باليقينيات وبالحقائق النهائية..
لم أكن أحب العرب كثيرا..�ولم أكن أحب ” المور” [=البيضان] قليلا..
وكانت تغمرني اتجاه إسرائيل واليهود عموما عاطفة صادقة..
بل محبة جياشة.
أشك أحيانا في أن سبب تعاطفي مع اليهود يعود لخسارتي للمرحلة الثانوية بسبب جهلي الفاضح للغة العرب.. (قد لا يكون السبب الوحيد لكنني أكتفي به في هذا المقام)..
وربما لعقابيل الأحداث العرقية لسنة 1966..وكل ذلك تبلور في مراهقة منفعلة.
لقد كانت ميولي الصهيونية ترفدها مصادر عديدة.. منها فواجع شعب سيدنا داود بالغرب المسيحي.. وشغفي بكتابات نوابغ من المفكرين والأدباء اليهود قد حظيت بالقراءة لهم مبكرا.. وتأثير مدرس فرنسي كان يحبني كثيرا.. ولم يجد صعوبة تذكر في إقناعي بجمالية كيبوتزات الاشتراكية الصهيونية التي مارسها شعب بطل استطاع أن يجعل من الصحراء جنانا خضراء.
حرب الأيام الستة.. واندحار الجيوش العربية.. وضعتني في حالة غير مسبوقة من الزهو والخيلاء…لقد كنت أتلذذ كثيرا بقراءة الصحف الفرنسية.. وهي تصف إذلال الجيوش العربية وتحلل مهانة الشعوب العربية..
في الأماسي كنت أتنقل بين المطاعم الباريسية التي يرتادها العرب المسلمون.. وتلك التي يرتادها اليهود لكي يتسنى لي أن أتغذى بأفراح المنتصرين.. وأن أتشفى بأتراح المهزومين.
ذات عصر.. كنت جالسا بشرفة مقهى بشارع سوفلو.. وأمامي رزمة كبيرة من الصحف الفرنسية.. وكنت منكبا على صحيفة تحلل أخبار الحرب.. منكبا إلى درجة الانهماك.. لذلك لم أنتبه إلى أن شخصا ما سحب كرسيا وجلس أمامي.. حتى ناداني باسمي.. وحينها رفعت بصري إليه ووجدتني أمام بونا كان.
لقد كان بسنوات قليلة قبل ذلك.. أستاذي لمادة الفرنسية في إعدادية كيهيدي.. وأحد الأعضاء البارزين من مجموعة 19 الموقعة على مانفيست 1966…الذي سرع بالأحداث سالفة الذكر.
لقد كان أستاذي السابق ملهما كبيرا لي.. إنه من أكبر المدافعين عن المسألة السوداء ضد الظلامية العربية.
قال لي: ماذا تقرأ…؟�قلت له: صحفا تتحدث عن كيف ضرب اليهود العرب على مؤخراتهم..
قال لي: يبدو أنك سعيد جدا بما تقرأ…؟
قلت له: طبعا.. وكيف لا أكون…؟
بعد هنيهة صمت.. وكأننا في حلم سمعته يقول:
أعتقد أنك مخطئ…�ساءلت نفسي.. هل هذا حلم.. أم كابوس …؟� ثم تمتمت متذمرا بأنني لا أفهم مغزى ما يقول …؟
نعم يجب أن تفهم.. إنك ترتكب غلطا بفرحك بهزيمة العرب.. لأن هزيمتهم هزيمتنا.. وهزيمتي.. وهزيمتك أنت.. إنها هزيمة الحقيقة.. والقانون.. والعدل..
ليس لك الحق في أن تبتهج بهزيمة العرب لأن عربا بموريتانيا غلطوا في حقك.. دون أن تتساءل عن الجهة التي توجد فيها العدالة ويوجد فيها الحق.�لم يتركني أنبس بكلمة.. لملم أطراف نفسه وارتحل وعلى ثغره بسمة ساخرة مشفقة.. وتمتم بوداع متسرع ومقتضب.
لم أستطع النوم ليلتها.. لقد كنت محبطا.. ومهانا.. بل مذعورا فقد انبطح البطل.. لقد مات البطل الذي كنت أتصوره في شخصه.. وتمزقت يقينياتي إلى شظايا..إنها خيبة الأمل الكبرى.
حقوق الشعوب.. وأي حقوق …؟
وما هذا الشيء الذي يسمونه الفلسطينيين الذين يتحدث عنه الجميع…؟
أليسوا مجاميع من الحفاة العراة الحاقدين على جنان عدن التي أقامها اليهود العباقرة…؟
بعد ذلك بأيام نشرت الأزمان المعاصرة.. -مجلة جان بول سارتر-.. عددا خاصا عن الصراع العربي الإسرائيلي.. عددا ضخما من نيف وألف صفحة.. تم الإعداد له منذ سنتين.. فركضت على المجلد الكبير.. كما يركض البدوي العطشان صوب أمواه الواحة..
لقد دعت المجلة تسعة عشر مثقفا من اليهود جلهم من إسرائيل وواحدا وعشرون مثقفا عربيا أغلبهم من فلسطين للإدلاء بوجهات نظرهم في الصراع.. وجذوره.. وتفاصيله.
لقد التهمت صفحات المجلة الضخمة في يومين وثلاث ليال متواصلة.. لقد كنت في حالة وصال عرفانية.. جعلتني أعيد القراءة لمقاطع عديدة مرات كثيرة، وما توقفت من تكرار القراءة لأن النعاس والإنهاك منعاني وإنما لأنني اخترت موقعي من الصراع على بينة .
من جهة هناك حجج يهودية تتحدث عن شعب مختار بارح الأرض المقدسة منذ ألفي سنة.. ويعود.. وهناك أناس في هذه الأرض لم يرحلوا قط لا من ألفين ولا من ثلاثة آلاف سنة… وهاهم يسلبون أرضهم.. وينفون بسبب اشتراك الأسطورة والآلة ضدهم في صولة واحدة..
ويتحولون إلى شتات بعد أن كانوا شعبا…؟
لقد تملكني شعور عجيب بأنني صرت في أيام قليلة شخصا آخر..
لقد كنت كثوب تم ارتداءه مقلوبا لفترة طويلة..
وبحركة كف تمت إعادته للصيغة السليمة في الارتداء.
في الحقيقة لقد كانتا ضربتي كف.. واحدة من بونا كان.. وواحدة من فلسطين…
(آه..لو تعرفون كم يعز على نفسي أن اكون مدينا لأحد من عائلة كان بدين..)
عزيزي أبو عمار..
يجب أن أقول لك.. قبل أن تذهب بعيدا ويصير عسيرا عليك أن تسمعني إنني مدين لك أنت ولشعب فلسطين بالكثير.. لقد شغلتما الحصة الأنبل والأجمل من شبابي الذي تفاقم على إيقاع نضالاتكما.. ولكهولتي ونضجي..أيضا لأنها تابعت موسيقى هزائمكم المدوية.. وانتصاراتكم الغير محتملة.. فكم مت يا عرفات.. ووقفت من قبرك.. من محنة 1967 الى أيلول الدامي بالأردن.. من صبرا وشاتيلا إلى ركام تونس.. من حصار بيروت إلى حصار غزة.. وحتى المقاطعة برام الله…
لقد سعيت إلى أن يبقى الحلم واقفا.. وإلى أن تجعل من عصائب المنفيين شعبا…قادرا على بناء فلسطين المحررة في شرق المؤاخاة الحتمية.
كتب بول نيزان الفيلسوف الشيوعي بسنوات قليلة قبيل سقوطه برصاص الغدر النازي:
“.. عندي عشرون سنة.. ولن أترك أحدا يقول انها أجمل أوقات العمر..”
في سنة 1967 كنت في العشرين.. وبسبب فلسطين كانت أجمل أوقات العمر..))،
لك التحية في قبرك مني ومن فلسطين…
أخوك الحسين بن محنض