صحفي يكتب عن موريتانيا بعد عقود من زيارته لها
أمكن لكاتب هذه السطور زيارة موريتانيا أواخر العام 1982، تلبية بدعوة من وزارة الإعلام الموريتانية وذهبت مدفوعاً بفضول شديد، وهو ما أثار آنذاك استغراب زملائي في صحيفة «الوطن» الكويتية. لم تكن هناك رحلات مباشرة من الكويت إلى نواكشوط، وقد اضطررت للسفر ترانزيت مع فترة انتظار لثلاثة أيام في باريس.
لم يسرّني كثيراً ما رأيت: ابتداء من مطار نواكشوط الصغير بفوضاه، ما يجعله أقرب إلى محطة حافلات، مروراً بالطريق إلى الفندق حيث يسود الرمل وتنتفي الخضرة ومظاهر الحياة، وصولاً إلى الفندق. أبلغني مرافقي من وزارة الإعلام وكنيته الأولى الشيخ أن العاصمة تتوفر على فندقين. ذهبنا إلى الأول وهو الأقرب، وقد لاحظتُ تسرب الرمل إلى داخل الغرفة، فعرضتُ أن نرى الفندق الثاني فكان من المباني الجاهزة، وقد نزلتُ فيه، وأذكر أن اسم الفندق «الصباح» وهو استثمار كويتي في بلاد شنقيط (الاسم القديم لموريتانيا، علماً بأن هناك مدينة موريتانية تحمل اسم شنقيط).
كنت أتمنى أن أرى البلد العربي الشقيق في ظروف أفضل، ولكن ما العمل.. ما العمل إذا كان الموريتانيون لا يُقبلون على تناول السمك، وهم الذين يتوفرون على ثروة سمكية هائلة وثروة أقل بكثير من المواشي، ما حرمني من تناول هذه الوجبة.
سألت مرافقي وهو زميل صحفي عن الصحف التي تصدر عندهم، فأجابني إن هناك صحيفة واحدة هي «الشعب» لكنها متوقفة منذ أسابيع (آنذاك) عن الصدور. وسألت بشيء من الحرج عن سبب الإغلاق خشية أن تكون وزارة الإعلام التي ينتسب إليها زميلي وراء إغلاق الصحيفة الوحيدة، فكان الجواب إن التوقف عن الصدور يعود إلى تعطل الآلة الرئيسية لطباعة الصحيفة، وأنهم أوصوا من الصين على قطعة غيار بديلة، وهم بانتظار وصول القطعة التي لم تصل بالطبع أثناء وجودي الذي استغرق اسبوعاً.
وقد تسنّى لي لقاء رئيس الوزراء معاوية ولد الطايع، وبدا لي رجلاً عملياً على عجلة من أمره، يميل إلى النحافة، قليل الكلام وغير مُجامل (قام بعدئذ بانقلاب أطاح برئيس البلاد وحلّ محله). ثم استقبلني بعدئذ الرئيس خونا ولد هيدالة بقامته الطويلة المنتصبة المعتدلة وبوجهه السمح، ورحب بي بلطف ودفء وكان مدير مكتبه قد أفادني أن الرئيس لا يجري مقابلات صحفية وأنه يمكنني ترك أسئلة له، وقد تركتها (الله غالب) وجاءت الأجوبة بعد ثلاثة أيام حملها ضابط أتاني إلى الفندق، وحيّاني بتحية عسكرية مرفوقة بخبطة القدم الشديدة ارتجف لها قلبي، سلّمها لي وشكرته. كانت الأجوبة قصيرة مقتضبة، وبعضها أقصر من الأسئلة. لم يحزنني ذلك كثيراً بقدر ما أحزنني زميل موريتاني تعرفت عليه في الفندق وقد ترحّم أمامي على قريته. قريتك كلها؟ سألته، فأجاب: نعم. لم يعد لي قرية، فقد زحف التصحر الشديد عليها وأهلك الضرع والزرع، ودفن البيوت وذهبت كل معالم القرية، وهجرها جميع أهلها.
كان ذلك قبل 31 عاماً..
هذه الأيام هناك 70 حزباً تتنافس على انتخابات نيابية ومحلية بعد عامين على تأجيلها وبعد عام على حل البرلمان (الجمعية الوطنية)، إضافة إلى أحد عشر حزباً تشكل ما بينها «تنسيقية المعارضة» أعلنت مقاطعتها ما اسمته انتخابات «أحادية» متهمة النظام بتسخير المال العام ومرافق الدولة لمصلحة فريق بعينه هو الحزب الحاكم «الاتحاد من أجل الجمهورية»، وبأن النظام لم يقم بالتشاور مع الأحزاب بخصوص المسطرة الانتخابية، والمقصود القانون الذي ينظم الانتخابات وتدابير إجرائها. فيما ترد الحكومة بأن أحزاب المعارضة تتهيب المشاركة في العملية الانتخابية حتى لا ينكشف حجم شعبيتها، وأنها أجرت سلسلة مشاورات وحوارات مع أحزاب المعارضة ولبّت معظم مطالبها.
لقد تغيّرت موريتانيا كثيراً بتعداد سكانها الذي يبلغ نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة، ودبّت فيها الحياة وخاضت معارك لمحو الأمية، وإن كانت نسبة الأمية ما زالت عالية في هذا البلد الذي يطلق عليه مبالغةً بلد المليون شاعر(زهاء 58 بالمئة) والتخلص من ظاهرة الرق المتوارثة منذ قرون، وكانت أول دولة عربية في شمال غرب أفريقيا تقيم علاقات مع الدولة العبرية (1996)، وأول دولة عربية تقطع هذه العلاقات (2010)، وما زالت الحياة السياسية والعامة سجالاً بين المنزع المدني والحكم العسكري، بعد سلسلة انقلابات منذ استقلال هذا البلد عام 1960، فالرئيس الحالي محمد ولد عبدالعزيز وصل إلى الحكم بانقلاب عام 2008 على الرئيس سيدي ولد الشيخ عبدالله، الذي يوصف بأنه أول رئيس مدني للبلاد، لكنه (عبدالعزيز) كرّس نفسه رئيساً منتخباً في العام التالي. وخلال ذلك يسعى هذا البلد إلى اتخاذ مواقف «حيادية» من قضايا الإقليم، فهو يجاور بلدين كبيرين هما المغرب والجزائر، وقد انسحبت موريتانيا في العام 1979 من أراضي الصحراء الغربية التي ألحقها الاستعمار الأسباني بموريتانيا. ويتخذ موقفاً حذراً من الأوضاع في البلدين الجارين الأفريقيين: السنغال ومالي، علماً بأن أصول بعض مواطنيه (ممن يطلق عليهم السودان مقابل البيضان) تعود إلى هذين البلدين وخاصة السنغال.
محمود الريماوي ـ كاتب أردني