قراءة في كتاب “يوميات صحفي في إفريقيا”

altتسنى لي خلال عطلة عيد الأضحى المبارك (1434هـ – 2013) أن أقرأ كتابا جديدا لأخي وزميلي عبد الله ولد محمدي تحت عنوان “يوميات صحفي في إفريقيا”.. يقع الكتاب في 160 صفحة من الحجم المتوسط وسحب على الورق الصقيل وبحروف أنيقة وعناوين بارزة، وتصدرت صفحة الغلاف الأولى لوحة بالألوان ربما ترمز لما يحويه الكتاب من حديث عن الحروب والانقلابات والكوارث، أما الصفحة الثانية للغلاف فنشرت عليها صورة المؤلف مع تقديم للكتاب بقلم عبد الوهاب بدرخان وهو أحد كتاب جريدة “الحياة” البارزين

. الكتاب من منشورات صحراء ميديا وطباعة مطبعة عكاظ الجديدة بالرباط (المغرب) لسنة 2013. قرأت هذا الكتاب مرتين حتى الآن لأنه أعجبني بأسلوبه الشيق وموضوعه المهم؛ فالمؤلف يتحدث عن معاناته ويروي مشاهداته خلال تغطيته لأحداث بارزة في إفريقيا خلال عقدين من الزمن (العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين).. اختار الكاتب (13) محطة من الأحداث الكثيرة التي غطاها في إفريقيا خلال هذه الفترة.. ويذكر في توطئته أنه سجل ذكرياته عن بعض هذه الأحداث ونشرها في هذا الكتاب لكنه تكاسل عن رواية و تدوين البعض الآخر”.. هذه المحطات من الموزمبيق والكونغو إلى موريتانيا والجزائر مرورا بالنيجر واتشاد ومالي وسيراليون وغينيا وكوت ديفوار وليبيريا.. استطاع الكاتب عبد الله ولد محمدي من خلال هذا الكتاب أن يقدم معلومات مهمة للباحثين تعين على فهم ما يجري في إفريقيا خاصة في بعض المناطق المضطربة، كما أنه قدم للصحفيين تجربته الغنية في تغطية الأحداث الساخنة وكيف أبدع في حصوله على المعلومات من كل الأطراف بمهنية واقتدار، على الرغم من دخوله مخاطر هددت حياته أكثر من مرة، وتقديمه لتضحيات جسام من أجل أن تصل الحقيقة إلى القارئ والمشاهد.

•  صحافي حتى النخاع

 

مؤلف الكتاب هو الزميل عبد الله ولد محمدي الذي يعد من أبرز الصحفيين الموريتانيين ويدير واحدة من أكبر المؤسسات الصحفية الناجحة في موريتانيا هي “صحراء ميديا”.. عاش معنا في جريدة “الشعب” بداياته مع المهنة في النصف الأول من عقد ثمانينيات القرن الماضي، وكنا ندرك يومئذ أن مستقبله يبشر بالخير، فهو يمتلك الموهبة والطموح اللازمين للنجاح في المهنة الصحفية.. نشرنا له في جريدة “الشعب” وهو لما يبلغ العشرين من عمره، وأثارت كتاباته في ذلك الوقت انتباه العديد من الكتاب والصحفيين والقراء العاديين، وأتذكر أننا في ديسمبر 1985 أثبتنا له ركنا اختار له كعنوان: “حديث شهر زاد” وكان يوقعه ب “عبد الله ولد محمدي ولد اباه”.. وفي السنوات الموالية لم تخل جريدة “الشعب” من توقيع عبد الله للزوايا والمقالات القصيرة إلا في الفترات التي كان يوجد بها خارج البلد.. وجاءت تجربته في “الشرق الأوسط” بلندن لتساهم بشكل كبير في “صقل موهبته في الصحافة” –كما أشار إلى ذلك في توطئة كتابه-.. وفي بداية تسعينيات القرن الماضي كان دخوله إلى عالم التلفزيون عبر محطة “تلفزيون الشرق الأوسط” (أم بي سي)، غير أن تجربته الأكثر ثراء في هذا المجال هي عمله في قناة (الجزيرة) من سنة 1999 إلى سنة 2005.. وبعد ذلك تفرغ لإدارة مؤسسته الإعلامية “صحراء ميديا” التي يوجد مقرها الرئيسي بنواكشوط إلا أن لها فروعا وشراكة مع مؤسسات في دول أخرى، خاصة في إفريقيا ودول المغرب العربي.. كتب عنه عبد الوهاب بدرخان كلاما أعتز به كأخ وزميل لعبد الله ويشرفني أن يكتب عن صحفي موريتاني.. كتب: “عرفت عبد الله ولد محمدي قارئا ثم مشاهدا قبل أن أعرفه زميلا احترم جهده وصديقا أعتز بعلاقاتي معه ومنذ اللحظة الأولى أدركت أنه يعيش بعصامية يومية لا يدعي ولا يكابر، وإنما يسعى دائما إلى أن يتعلم، لا أدري أين اكتسب المهنة، لكن لم يكن من الصعب أن أكتشف أنه احترف ذاتيا، وبمعاناة لم تترك لديه مرارة وإنما مدته ببهجة داخلية (لا تفتكم هذه العبارة: معاناة لم تترك لديه مرارة وإنما مدته ببهجة داخلية).. صحافي حتى النخاع، حتى العظم، يتمتع بحاسة شم واستشعار للحدث كما لو أنه يحسه بدمه ولحمه وأعصابه، يكتب ببساطة شيقة، ويتحدث بلا تكلف وبكل وضوح ولا يخمن ما لا يراه، ولا يهرف بما لا يعرف”

•   التنافس مع الإعلام الغربي

 

تشعر بعد قراءة هذا الكتاب، أن الزميل عبد الله نجح في أدائه لواجبه المهني، ونجح في خدمته للقناة أو الجريدة التي يعمل معها، لكنه نجح مع ذلك في خدمة أمته ووطنه. حين دخل المجال في تسعينيات القرن الماضي كان ميدان تغطية الأحداث الساخنة في إفريقيا حكرا على وسائل الإعلام الغربية العملاقة: وكالة الصحافة الفرنسية، إذاعة فرنسا الدولية، وآسويشتدبرس، و سي أن أن، و البي بي سي، و الآي بي وغيرها. ويتذكر الكاتب كيف أن مراسل إذاعة فرنسا الدولية خلال تغطية الانقلاب العسكري في دولة مالي سنة 1991 سأله إن كان حضوره للتغطية يعني بداية اهتمام إعلامي عربي بإفريقيا؟ وأجابه على سبيل الدعابة: “لن تخلو الساحة لكم بعد الآن رجلنا على رجلكم أو بالأحرى رجلكم على رجلنا”.. وفي هذا السياق كتب عبد الوهاب بدرخان: “عاش عبد الله ولد محمدي في مهماته الإفريقية بواكير التنافس بين إعلام غربي عريق الاحتراف والتنظيم وبين إعلام جديد على الاقتراب من المخاطر.. كان الصحفيون الغربيون يعجبون لوجوده بينهم (…)و شيئا فشيئا رأى كيف أن زملاءه الغربيين راحوا يحسبون له حسابا (…) وفيما بعد تخطى عبد الله هؤلاء الغربيين، أصبح من المصادر التي يعتمدون عليها ولا بد من الرجوع إليها للتأكد من المعلومات والتحليلات”..   •          عرب نافذون في إفريقيا ركز عبد الله في تغطياته على الحضور العربي في الأحداث بافريقيا ولو كان محدودا واستفاد من وجود العرب خاصة الموريتانيين في الدول الإفريقية التي مارس فيها العمل. ففي النيجر مثلا استطاعت عائلة “آل سيدي محمد” العربية التي تعود جذورها إلى موريتانيا أن ترتب للزميل عبد الله لقاء مع الحاكم العسكري الجديد “داوود مالم وانكي” بعد قتل الرئيس “ابراهيم باري مايناصار” بصورة بشعة.. ونجحت هذه العائلة التي تمارس المقاولات والتجارة في ترتيب هذا اللقاء المهم الذي أجراه عبد الله لصالح قناة “أم بي سي” و جريدة “الشرق الأوسط”. وألح الحاكم الجديد في سؤاله عما إذا كان ثمة مساعدات جديدة ستصلهم لأنه علم من مساعديه أن تقريرا سابقا عن المجاعة في النيجر أنجزه عبد الله تسبب في تقديم تبرعات ومساعدات سخية للبلد من ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز.. في زياراته لغينيا كوناكري التي كانت البوابة الإلزامية لسيراليون التي اشتغلت فيها الحرب أكثر من مرة كان الزميل عبد الله ينزل في فندق “الغولف” الذي يملكه شبان موريتانيون بنوا شهرتهم على المعاملة الجيدة وهم محل ثقة.. ويتعامل في كوناكري مع سفير النوايا الحسنة أحمد خازم وهو شخصية لبنانية يملك وكالة للخدمات ويحل مشاكل اللبنانيين الذين لقبوه سفيرا لشعبيته في أوساط هذه الجالية . يذكر الصحفي عبد الله أنه قدر له أن يعرف الكثير من خبايا الحرب في سيراليون حينما قدر له أن يلتقي في سنة 1997 أحد اللاعبين الكبار في المنطقة هو رئيس بوركينا (ابليز كامباوري).. وجاء ذلك اللقاء بترتيب من مستشار هذا الرئيس الأقرب الموريتاني السيد/ مصطفى الشافعي.. وخلال تغطيته لهذه الحروب أنجز ربورتاجا عن فرقة الجيش الأردني الموجودة ضمن القوات الدولية، وذلك لصالح “الجزيرة”، العميد الأردني وجنوده كانوا حريصون على الظهور أمام الكاميرا لطمأنة عائلاتهم على أنهم بخير في الغابة الإفريقية، وأنهم يمسكون بزمام الأمور، لكن انقضاض الثوار عليهم فيما بعد ليقتلوا بعضهم ويجرحوا البعض أقنعهم بأنه من غير المعقول أن يموتوا من أجل سيراليون وهم على بعد أمتار من فلسطين..

• موسى بن بيق وإشعاع الشناقطة

 

تغطية فيضانات مخيفة في الموزمبيق جعلت عبد الله يبحث عن أصل تسمية هذا البلد ووجد أن اللفظة تحريف لاسم رحالة عربي من عمان اسمه (موسى بن بيق) هو أول من أدخل الإسلام إلى تلك البلاد التي يمثل المسلمون نسبة مهمة من سكانها.. حينما قرر الرئيس الموزمبيقي حينها “شيسانو” زيارة المناطق المتضررة كان عبد الله معه في الطائرة ممثلا للإعلام العربي، وقد تحدث إليه بعد الرحلة مطولا شارحا حجم الأضرار ومستغلا الفرصة لمخاطبة العالم العربي طلبا للمساعدة.. وكانت ليبيا هي الدولة العربية الوحيدة التي أقامت جسرا جويا لحمل الخيام والأدوية والغذاء و حضر منها جيش من الصحفيين.. وفي كوت ديفوار، حرص عبد الله على إبراز ما تعرضت له الجاليات العربية من خسائر بسبب نهب الجنود للحملات التجارية التي يملكها الموريتانيون واللبنانيون والمغاربة.. وعاش عبد الله حالات الرحيل الإجباري لمئات الآلاف من العرب الذين فقدوا ممتلكاتهم في غرب إفريقيا بعد أن اشتدت النزاعات: “لبنانيون يتحسرون على ملايين الدولارات وقد تطايرت في رمشة عين (…) موريتانيون يغلقون محلاتهم في السنغال على أمل العودة إلى فتحها ذات يوم ثم يتلاشى ذلك كحلم ليلة صيف”. في كوت ديفوار يقدر عبد الله عدد الموريتانيين الذين يمارسون التجارة بثلاثين ألف وذلك أثناء الأزمة، وهم “يوجدون في كل المدن والقرى ويسيطرون على تجارة التقسيط، نسج هؤلاء علاقات وثيقة بالسكان ساعدت على نشر الثقافة العربية الإسلامية على نطاق واسع، وهي ذات المهمة التي تكفل بها الموريتانيون في مناطق عدة بإفريقيا”.. تملس من خلال كتابات عبد الله ولد محمدي حرصه على إبراز الدور الذي لعبه الموريتانيون في نشر الثقافة العربية الإسلامية في إفريقيا بل ودور الشناقطة كذلك في الحفاظ على اللغة العربية في العالم العربي.. وفي تقديمه لهذا الكتاب شهد الأستاذ عبد الوهاب بدرخان له بذلك: “كان عبد الله هو من لفتني إلى الانتشار الموريتاني أو بالأحرى الشنقيطي، في مشرق العالم العربي ومغربه، بل فتح عيني على ما كنت أراه ولا أراه من تأثير نافذ وعميق للموريتانيين وفضلهم في الحفاظ على لغتنا الصعبة والجميلة في آن، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أرصد هذه الظاهرة كيفما توجهت وأينما حللت، ولعلي شغفت إلى حد كبير بهذا النشاط حتى أنني شجعت كثيرين من أصحاب الاختصاص على الغوص في هذه الظاهرة لعرضها وتأريخها، فهل هناك أعذب من رعاية اللغة”.. وختاما  أملي أن يواصل الزميل عبد الله كتابة وإصدار مذكراته وأملي كذلك أن يحذ حذوه زملاء آخرون كانت لديهم تجارب في هذا المجال خدمة للباحثين والإعلاميين وللأجيال اللاحقة..

صحراء ميديا ـ محمد الحافظ بن محم ببكر – اكتوبر 2013

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى