أهذا أنت أيها “الثامن والعشرون”..؟!!
خطواتك متعثرة، وظهرك محني، ووجهك شاحب، “كأنك يحميك الطعام طبيب”..!! لا، ليس هذا أنت يا يومنا، وفجرنا، وفخرنا، ومجدنا..لا ما هذه قامتك الفارعة..ما عدت قادرا على تمييز وجهك القمري، وقامتك “النخلاء”، وجبينك المنزرع أبدا فوق الشمس..!!
ما الذي جرى أيها الثامن والعشرون نوفمبر..؟!! هل هاجمك قطاع الطرق، أم أنها وعثاء السفر..؟!!
أحدث نفسي بحسرة وأنا أراك مقبلا: أهذا أنت أيها اليوم الجميل والعظيم والدافئ، فتجيبني نفسي “نعم وهل يخفى القمر..؟!!”
أتمتم بحزن: ” لئن كان إياه لقد حال لونه سرى الليل يطوى نصه والتهجر”..!!
اقترب أيها الرمز الخالد…هذه رمالك التي سكبت عليها شمس الحرية، وهؤلاء أبناؤك الذين رسمت لهم طريق التحرر..اقترب، لا تخش شيئا…هنا التمر واللبن…هنا خيمتك التي أردتها – مع انبلاج فجرك الخالد – دافئة فسيحة تتسع للجميع.
أعرف أنك عشت العقوق، وعاينت خلفا أضاع ميراث السلف..!!
أعرف أنك كنت تريد لنا وطنا في جبين الشمس، كبرياء ونماء ووحدة.
أعرف أننا نسيناك، ومارسنا في حقك كل أصناف العقوق، لكنك الأكبر والأرحم والأغلى والأنقى، فلا توا خذنا بما فعل السفهاء منا..
نعم سيدي، هذه حقيبتك،لقد عرفتها…بها من شمسنا ألق، ومن رمالنا صفاء، ومن شهدائنا عطر، وعبق، وذكرى…
بها من جيلك العظيم صبره، ورباطة جأشه، ووطنيته، وصدقه.
بها حبال، وألواح، وعصي، وبنادق، وعرق، ودماء، ونجم، وهلال، وجباه لرجال صدقوا ما عاهدوا الله والوطن عليه، فنثروا دماءهم هنا وهناك، لنعبر عليها نحو الشمس.
سيدي، طاب لك المقام فاسترح، ودع رجليك للماء والملح، فمن بين أبنائك من يحفظ لك العهد، ويمتهن بك البرور فأنخ..
سيدي، امسح عينيك، فلا ينبغي لمثلك أن يغلق عينيه، واسند علينا ظهرك، فمثلك لا ينحني ظهره أبدا، وعهدنا لك أن نمنحك دماءنا ومهجنا، لتظل كما يجب أن تكون، في العلياء التي أرادها لك الله، والذين صنعوك ذات كفاح.
نعم سيدي، هي وعثاء السفر…أعرف أنك عشت الغربة، وبعد الشقة، والتواء الدروب، وظلام المسافات، لكنك – كالذين صنعوك – مفتول بالحب، معجون بالكبرياء، مجبول على الخلود، مشحون بالصبر، والأناة وقوة التحمل.
لا تبتئس سيدي، أعرف أننا ظلمناك، وهجرناك، ونسيناك، وما كان لنا أن نفعل ذلك، لولا صروف دهر كنود قلبت بنا – وبك- ظهر المجن..!!
استرح، فبك نزهوا، وبك نشدوا، ولك منا كل الحب والوفاء.
ابتسمت سيدي…نعم فبك تعود البسمة، وتصبح الشمس حد هاماتنا، ويزهو قمرنا معانقا كل الضفاف والشطآن والبطاح الخضلة.
ستنسى كل الجراح..ستسامحنا، فرغم العقوق والجحود مازال من بيننا من يحبك، وينتظرك، ويبكى على قدميك.
نعم سيدي، ذلك نجمنا وهلالنا، يعانقان السماء التي رفعتنا إليها حرية، وانعتاقا، وشموخا.
هؤلاء سيدي هم أبناؤك، وأحفادك…تلك هاماتهم، وملامح السمرة تنسجها لهم رمال الصحراء، مع أشعة الشمس…انظر إليهم…إنهم رائعون وهم يمتشقون السلاح بفخر، وصدق، وفاء لقيمك، ودفاعا عنا، وعن وطن أنت الذي منحته لنا..
حقا سيدي…أنت سعيد برؤيتهم يتمنطقون بالحديد واللهب، يرددون نشيدنا الخالد، ويتوحدون تحت علمنا الكبير…فعلا سيدي هم رائعون حقا، لأنهم يختزنونك شمسا، وعرقا، وكبرياء، وذاكرة.
لا لست غريبا، ولن تكون كذلك، فنحن أهلك وربعك، وأنت كهفنا، وربيعنا، وشمسنا وكل حياتنا.
سيظل وجهك جميلا، أليفا، به من الأمومة حنان وشفقة، ومن الأبوة عطف وصدق،
أنت كل شيء في حياتنا، فدعنا نبكى بين أحضانك على ما فرطنا في جنبك.
قل لنا إنه لا تثريب علينا، فمهما ظلمناك ونسيناك، فستظل كبيرا، رائعا، متجددا، خالدا، صابرا لا تلين لك قناة.
أنت أكبر وأكرم منا جميعا…أنت أكبر من حماقاتنا، وصراعاتنا، وجموحاتنا، وأهوائنا.
أنت نورنا الذي نمشى به على الأرض، أنت لأطفالنا الحليب، ولمرضانا قرص الإستشفاء، ولفقرائنا رغيف الخبز، ولعجزتنا العصا التي يهشون بها في وجه زمن أغبر لولاك، وأرعن لولاك، وغادر لولاك.
في كل عام سيدي أقف على هذه الربوة في انتظارك…فإذا أضاء الأفق، وظللتنا السكينة، وعبق الجو بعطر الشهداء والمكافحين والمقاومين، وتراقصت أطياف الذين صنعوك، خرجت لا ألوى على شيء، لأبكى في حضنك الدافئ، جراح زمن يحاول أن ينتزعنا من حضنك، يحاول أن يفجعنا فيك، أو يفجعك فينا.. أحس يدك الحانية على رأسي، تزرع في أملا، وتحارب ألما، وتنثر الورد في دروب شوكها غيابك الطويل..
لا يا سيدي، لست وحدي من ينتظرك…انظر حولك فوق الربوة، وتحتها، ومن حولها..آلاف الفقراء والمطحونين والأرامل والثكالى والمعدمين…انظر سيدي هم أيضا يلوحون بالعساليج، بالورود، بالقبعات، بالمناديل البيضاء، بالمناجل بالأغصان..يرشرشون اللبن على خطواتك المباركة، لتعود إليهم في كل حين، رمزا للحرية والخبز والنماء.
نعم حق لك أن تفخر بهم فهم يكنون لك كل الوفاء..أما رأيت الدموع في أحداقهم..؟!!..أما قرأت الشوق على وجوههم رغم الجوع والألم..؟!!
يمكنك سيدي أن تمنحهم قبلاتك، وتمسح على رؤوسهم، فهؤلاء طاهرون صادقون لا يعرفون طريقا للخطيئة، يؤمنون بك وبموريتانيا التي من أجلها ولدت فجرا صادقا، يؤمنون بها وطنا واحدا لشعب موحد.
هذه المرة الثالثة والخمسين، لم أعرفك يا سيدي، جئت شاحبا، مثقل الخطوات، لكن رأسك- وكالعادة – كان يلالى قرص الشمس…
أتعبك التفكير فينا…شاخت دموعك بكاء علينا، وقد وأدنا حلمك، وتفرغنا للانقلابات، والفتن والشحناء، فلا نحن بنينا بلدا، ولا نحن أقمنا حضارة، ولا نحن رسمنا لأجيالنا القادمة درب النماء الذي أردته لنا ذات انبلاج.
اطمئن سيدي فغدا ستشرق شمسك في قلوبنا جميعا، وغدا سنبنى جميعا الوطن الموريتاني، وغدا سيدي ستورق أحلامك فينا، وعسى الله أن يريك منا ما يسرك.
ابتسمت مرة أخرى سيدي…نعم هو عهد ووعد بأن تزداد الخيمة دفئا واتساعا.
كم أنا سعيد برؤيتك أيها الخالد، وقد تهللت أساريرك، وأشرق النور بين عينيك، وتعاليت على الجراح كل الجراح.
نعم هو أنت بامتدادك، بقوامك، بمسيرتك المظفرة.
نعم هو ذا أنت وهي ذي حقيبتك…الآن تحملها مطمئنا…يا بشراي، وأنا أراك واثق الخطوة، تمشى ملكا، بقامة تناطح الشمس…أنت سيدي تستعيد شبابك وألقك..
نعم سيدي، لن أبرح هذه الربوة حتى تعود مرات قادمة، منتصب القامة، واثق الملامح، ولا أثر عليك لوعثاء السفر.
وداعا أبي…ثلاثة وخمسون عاما هي عمرك وعمرنا…فأنت عمرنا، وأنت صبحنا الأبلج، وأنت نحن، ونحن أنت، لا حياة لنا بدونك…لا وطن لنا، ولا أهل، ولا مجد بدونك.
وداعا سيدي، ولتعد دائما حاملا في حقيبتك الشمس، والنهر، والبحر، والنجم، والهلال، والنخيل، والجبال، وبنادق الثوار،وأحلام الرجال، وهامات الشهداء…لتعد ومعك العطر، والأريج، والعبق الذي يملأ الدنيا كلها تذكارا لرجال صنعوك، بالعرق، والدمع، والدم، والحديد،والنار.
ما أروعك أيها الثامن والعشرون نوفمبر..رائع وأنت مقبل أو مدبر، وأكثر روعة وأنت تسافر فينا وبنا، منا وإلينا، عبر الزمن..كل الزمن.
حبيب الله ولد أحمد