هل يتحول السراب إلى ماء شروب؟
ما زال متقدا في واقع البلد من أدران الماضي ما يعطل الديمقراطية و يقطع على الثلة القليلة من المؤمنين بها سائر السبل و يسد عنها عمق الفجاج حتى لأن البعض من هذه المجموعة، الذين شبت عقولهم عن طوق الماضي الظلامي و قيوده، أخذ منه الإحباط و اليأس فبات لا يحرك ساكنا و قد غلبت عليه وضعية المشاهد السلبي.
نعم إنها أغلال الرجعية و قدرتها الفائقة، رغم صدئها، على شل فعل الحاضر و محاصرة قواه الحية و فكره المتفتح على سنة التطور و التجديد الحميد. رجعية طاغية مرجعيتها البداوة، و البداوة كما وصفها المؤرخ البريطاني المعروف، أرنولد توينبي، بأنها “حضارة متجمدة ” أي في سكون وركود، عصية على التطور والتغيير، تؤمن لسدنتها المستفيدين دوام حال الوضع القائم و للممسكين ببعض زمام الأمور و المسيطرين على مصادر الخيرات و الأرزاق سواء أكانوا منتمين لسلطوية مستمدة من:
• تموقع ببعض مراكز القرار في الدولة،
• أو دوائر تأخذ قوتها من الجاه في نسيج المجتمع،
• أو إفراز النسيج السياسي القائم في هزلية مسارحه العبثية،
• أو القوة المالية التي تأسست في فوضوية الأوضاع منذ عقود و استباحة المال العام دون التأسيس به قواعد الاقتصاد القوية و التمكين لبناء الصناعة الوطنية المحققة و الضامنة للاستقلال الذاتي.
و هي الرجعية أيضا المتحالفة مع موت الضمير و غياب الوازعين الديني و الخلقي، تستفحل قبضتها يوما بعد يوم مع التحلل اللافت من القيم و كوابح الدين، تحلل لم تعد تهتز معه لأحد شعرة و لا يحس معه بأي وخز للضمير و كأن الأمر عاد.
ثم تتجلى كل تناقضات وقاحة هذا الواقع متمثلة بأولى تجلياتها في الجرأة النادرة على معالي و مكارم الشهامة و سمو المحتد و علو المكانة و صفاء العمل و نقاء و نبل النوايا، جرأة جنونية تصاعدية لا مساومة في إصابتها عين الحقيقة عند هؤلاء الذين أضحوا الصورة السلبية لمجموع هذه المحامد و ما يأبهون. و لقد كان مسرح الحملة الانتخابية بكل ارتجالية ممثليه مشاركين و مقاطعين و قواعد شعبية واعية أو مجهلة من كل التوجهات والنوايا خلال الأيام المنصرمة أكبر وعاء حمل شحنة هذا الزيف القادم من أعماق الفسق الجاهلي و قذفه فى المسامع و فرضه على الواقع الذي يتململ لينتفض من ناحية، و ليثقل كاهل عقارب ساعة التحول حتى لا تدق أجراس التغيير و حتى لا تدهن و تسن قواطع مقصلة الخونة و باعة سكينة الوطن و توازنه و مقومات بنائه من ناحية أخرى.
صحيح أننا كدنا نخدع العالم من حولنا – و نوهمه بقوة حربائيتنا التي علمتنا إياها قساوة الطبيعة – بأننا مؤهلين للديمقراطية، قادرين على حمل رسالتها و تطبيق تعاليمها و جني ثمارها، و أننا فوق ذلك نستطيع تحويل السراب إلى ماء شروب. كدنا نفعل لولا أن العالم لم يعد ينخدع لأنه اخترع جهازا لفضح الكذب و أهله و قريبا يبتدع جهازا آخر لفضح النوايا التي ما زالت بكرا.
و لكن ثمة سؤال ترتبت عن الإجابة عنه في الدول التي نجحت في تجاربها الديمقراطية كل أسباب العبور، لا بد بدورنا أن نطرحه و إن كان يفرض نفسه بإلحاح – لكن لا سمع لمن تنادي – حتى تتسنى لنا بالإجابة عنه فرص توجيه المسار وتحديد المصير. و السؤال على بساطته و تعقيد كنهه و تشعب إيحاءاته هو معرفة ما إذا كانت قد تحققت، على مدى ثلاثة و خمسين سنة من الاستقلال، احتياجات الشعب الأساسية أو أننا حتى اقتربنا من هذه المرحلة فحققنا الحدود الدنيا من إشباع الاحتياجات الأساسية فحسب و إذا ما حصل تنامي في الوعي السياسي والاجتماعي لدى الجيل الجديد بفضل الثورة المعلوماتية والتقنية المتطورة في المواصلات والاتصالات و الاحتكاك المتزايد بين الشعوب بسبب الهجرات الجماعية والسياحة والانترنت والفضائيات وغيرها من وسائل الاتصال التي حوَّلت العالم إلى قرية كونية صغيرة، ربطت بين مصالح الشعوب الاقتصادية والثقافية في منظومة العولمة وجعلتها متشابكة، وساعدت في تعجيل تطور الوعي لدى الشباب، خاصة وأن أكثر من 60% من الفئة العمرية من مجموع سكان البلد هم دون الثلاثين، معظمهم من المتعلمين يعانون من مشاكل البطالة و البعد أو الإبعاد عن مراكز القرار من جراء العقلية المتحجرة، و عجزهم عن تحقيق تطلعهم إلى حياة أفضل.
و هل أننا درجنا خلال كل هذه العقود الخمسة التي زادت ثلاثة من الحجج إلى إشباع حاجاتنا الأساسية (Besoins fondamentaux – basic needs) مثل:
• الغذاء والشراب، للحفاظ على الحياة،
• وإشباع غريزة الجنس لاستمرارية النوع(Espèce- species)،
• وتوفير المأوى للحماية من قسوة الطبيعة و تقلب عناصرها،
• و الأمان من المخاطر التي تهدد الحياة كالعدوان والأمراض، حتى تظهر لنا حاجات أخرى لتحسين وضعنا، مثل:
• التعليم النموذجي في مضمونه و غاياته،
• والثقافة المفيدة،
• والتنمية البشرية المدروسة و المخططة بعلمية،
ثم “نطمع أن نزاد” بعدها إلى بلوغ:
• وسائل الرفاهية لإشباع الحاجات الروحية مثل الفنون الجميلة والكماليات المادية، عندها فقط و أخيراً تأتي الديمقراطية التي يشترط كأساس لقيام نظامها الحقيقي وجود دولة المواطنة فتضم الأخذ بالليبرالية و توطيد حرية الفرد لإشباع حاجات الإنسان في تأكيد ذاته وإطلاق طاقاته في الإبداع والإنتاج، واستقلال شخصيته وشعوره بأهميته في المجتمع بعدما يتجاوز بوعي متنور الصراعات بين مكوناته و الخلافات الدينية والطائفية و الأثنية. صحيح أن الديمقراطية ليست بلا ثمن و الانتقال إليها ليس سهلاً ولا سلساً، و هي لم تتحقق بسرعة وبسهولة ويسر في أي بلد من العالم، بل إنها ولدت بعد الكثير من مخيبات الإجهاض وعبر مخاض عسير وعمليات جراحية و قيصرية. فالديمقراطية لا تولد متكاملة ولن تكتمل، بل هي صيرورة تراكمية تبدأ بحقوق بسيطة ثم تزيد شيئا فشيئا وهكذا تنمو مع الزمن وعبر نضال الشعوب ووفق أفرادها وعيهم بحقوقهم وتطورهم الحضاري. وتاريخ أوربا و الهند و أمريكا اللاتينية و كثير من البلدان الآسيوية و منها الإسلامية كأندونسيا و نماذج جد قليلة في القارة السمراء كجنوب إفريقيا تؤكد، عبر مساراتها على الأشواك و حصاد الخيبات و المثبطات، كلها صحة ذلك.
الولي ولد سيدي هيبه