سجن التناقضات الكبرى
موريتانيا هي بامتياز بلاد التناقضات الكبرى، المحيرة للأذهان، المعجزة عن إدراك كيف و ماذا كانت عليه في ماضيها الذي يلفه غموض لافت، و كيف يمكن وصفها بالصراحة المغيبة في حاضرها المضطرب الذي يغلي و يفور في حرارته، و بأي منطق و بأية أسلحة تخطو إلي مستقبل تبدو كل خيوطه ضبابية بما يتراءى للناظر من مشاهد متداخلة الألوان على قتامة أصباغها.
إنها بلاد الممكن و المستحيل، المضحك و المبكي،الساخن و البارد، الساحر و المنفر، الجمر و الرماد، بلاد الدهاء و السذاجة، بلاد الخيرات الوفيرة و الفقر المدقع، بلاد الإسلام و العصبيات الجاهلية، بلاد التيمم عمدا و القضاء مداراة، بلاد المحاظر المنتشرة و بيوت الممارسات الشاذة و القمار في نوادي الزجاج. قد يبدو هذا الكلام ملقى على عواهنه لكن هيهات، فإن مبلغ القول فيه دون ذلك. فـ”موريتانيا” أو “شنقيط”، · أو دولة المرابطين و فتوحاتها المجيدة، · أو منطلق ركب الحجيج التكروري وقوافل الحجاج من شنقِيط الحاضرة في نهاية ق11هـ/17م، · أو أرض “البلاد السائبة” و أنظمتها الطبقية في مجتمعها البدوي الذي يتسم نمط حياته بالترحال و الانتجاع و انعدام الأمن و شح الموارد و ما يسفر عن ذلك من العدوانية و الجور وعدم الإستقرار، · أو بلاد “همزة الوصل” بين العروبة و الزنجية على إيقاع الاستعمار الفرنسي، · أو معبر المهاجرين الهاربين، من روتين قسوة و سخونة القارة السمراء، إلى أوروبا مهد “الفرص الأفضل” و “الحرية الراشدة”، · أو محط رحال كل طهاة العالم من مشارقة عرب و أتراك و صينيين و أفارقة، و من مروجي وجبات “ماك دونالد” العابرة لطول و عرض المحيط الأطلسي بكل نكهاتها و مشهياتها و أَسْرِ توابلها الطبيعية و الصناعية، · أو بلاد المرأة السائقة لكل أنواع السيارات دون جداول زمنية عملية و الشاب المدلل و الشيوخ المتصابين و جراري العربات الذين يلعنون حاضرهم المقزز و الأجانب المقيمين بدون أوراق قانونية، يزاحمون المواطنين في مواطن الشغل و على لقمة عيشهم و يهينوهم بكل جرأة و وقاحة؛ هي أيضا أرض العلماء الأفذاذ الذين فتنوا – خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر و الثلثين الأولين من القرن العشرين تحديدا – بعلمهم و قوة حافظتم و سرعة بديهتهم و تكيفهم، أمراءَ و ملوكَ و أدباءَ و نظراءَ كثرٌ من أهل العلم و من الضالعين في اللغة العربية و مشتقاتها و آدابها في أرجاء كلا المصرين المشرق و المغرب الإسلاميين العربيين و في بعض بلاد الزنج على طول طريق قوافل الحجيج و تجارة الصحراء. و هي كذلك أرض “المنطلق” للجيل الجديد من المتطفلين على البلدان التي من الله عليها من فضله و حباها بنعمه و رزق أهلها سعة من العلم و الحرفية فأسسوا لصناعات أوطانهم، فصاروا إليها طلبا للمال السهل بجرأة نادرة على القيم و الثوابت، حاملين في جعبهم كل تناقضاتهم التي لم يلبثوا أن كشفتها أفعالهم و أبانها دهاؤهم المتهور و سرعة تقلبهم و تملقهم بلا تردد حتى بات مضيفوهم يميزونهم و يتوجسون منهم خيفة و يطلقون عليهم سيئ النعوت و بعض قبيح الفعال ثم يضربون عليهم حظائر و أسوار الأربعينية. و لم تسلم من هذه القوافل، التي لا تتوقف عن غزواتها المكوكية، أْنْأَى قرى الصين في إقليم “ليوانينغ” و لا أخطر تجمعات و نواديٍ “هونغ كونغ” المشهورة بالجريمة المنظمة و المتاجرة في الممنوع، و لا أعتم أزقة و أحياء “ريو دى جينيرو” في البرازيل و في “ليما” بالبيرو و غيرهما في كل أرجاء القارة اللاتينية البكر. و هي القوافل المزدوجة، المتخمة بالرجال و النساء مسلمة لهم جوازات السفر لا شية فيها، مقهورة لهم التأشيرات بكل طيف الأعذار و المبررات، مفتوحة أمامهم الموانئ و المطارات و كأنها حظائر بيوتهم الخلفية تلجها قطعانهم العائدة مشبعة من المروج المعشبة، لا يُسألون عما رجعوا حاملين أكثر من سؤالهم ماذا يقدمون من هدايا و هل هم راضون عن ما نالوه من تغاض و تسهيلات. و بالطبع لم تنج السياسية مطلقا من وزر هذه التناقضات بل حملته بأشد من غيره حتى طوع لديها الديمقراطية و سلبها روحها و معناها فجعلها رهينة وضع ظل منذ عقود شاذا و استثنائيا و متمردا على منطق العصر جاهلا أو متجاهلا قواعده.. وضع لا يجد تصنيفا إلا في قراءة الواقع بعين تنظر من وراء المظاهر الخادعة و بعقول مجردة من العواطف الهدامة، و لا تفسيرا إلا فيما يفرز و يسفر عنه من حالات تستعصي على الفهم السليم و إدراك المنطق الرشيد: · أحزاب عتيدة تنهار، من منطق التقويم البديهي، بحجج أوهى من بيت العنكبوت. و فجأة يرتكس مؤسسوها و قادتها و منظروها، ثم يسقطون إلى الحضيض بمنطق هو الآخر أقرب ما يكون إلى “الصبيانية” المكشوفة، كما تتداعى و تسقط القصور المشيدة من قطع الورق الخفيف عند أول نفخة أو كأوراق التوت المنفصلة عن الأغصان بعد فنائها لتتناثر خائرة في مهب الريح؛ · أحزاب تغازل أخرى و تصطحبها لبعض المشوار ثم تعضها و تبتعد عنها خشية داء الكلب الذي قد يكون لحقها من كثرة النباح الذي ألم بها؛ · أحزاب تقذف بـ”ملاكها” إلى قبة البرلمان ليحتموا بظل قبتها من ضربات شمس السياسة الحارقة و من بعدهم الطوفان؛ · أحزاب واهية تفتقر إلى المقر و المنتسبين و إلى الخطاب و البرنامج و إلى روح التنظير و العمل الميداني، تظهر على السطح و كأنها منقذ منطلق من الأعماق لانتشال الغرقى في غياهب جب النسيان السياسي لإعطائهم فرصة التمتع بالتزحلق فوق السطح و تنفس الصعداء. · أوجه ميدانية جديدة لا تحمل من عمق البلد إلا قشور الماضي الزلقة و لا من حال الحاضر و همومه و تطلعات أهله إلا مواويل الوعود الببغاوية؛ لا مكان في عقولها لشيئ سوى محاكاة من سبقوهم إلى النهب و شيدوا القصور بأموال الشعب و أرسلوا أولادهم إلي أحسن المؤسسات التعليمية بعيدا عن سيئ البرامج و ضعيف المربين و ركيك المباني التربوية نصيب قواعد الشعب العريضة الأخرى؛ كل ذلك و أكثر من خزينة الدولة المستباحة منذ عقود خلت، تاركين حتى عاصمة البلد و وجهها الحضاري تغرق في كل عام بعد هطول أولى بشائر الخريف و موسم الأمطار و محاصرين عملية البناء و التقدم بأيدي هدامة و حاجبين آفاق العدل و دولة القانون بما يشبه التحامل وسط لا مبالاة تكاد تعجز كل النعوت عن تصنيفها. · سجال سياسي يعاني ضعف منطلقات البعض من أصحابه و حدة و شطط البعض الآخر؛ محمولا على اليسار ستتردد أصداؤه في غرفتي البرلمان ليربك الحكومة حتى لا تخرج عن مدار الحلقة المفرغة و يتوهم الشعب الذي جاءت بهم أصواته الساذجة أنهم يؤدون الرسالة بأحسن ممن سبقوهم، و على اليمين تفترش كل التناقضات البرلمان، تضايقه و تخنقه، و تلتحف قبته فتحاصره بمتاهات الاختلاف السلبي و الخلاف العقيم و بالرضى المتغاضي ليظل الوطن على حاله ينتظر آخر النفق الضيق المظلم أملا في الخروج من الدوامة العبثي الغيلانية السيزيفية و في حين تتسلق قوافل أمم الدنيا من حوله أعالي قمم الاستقرار و البناء و الشموخ. و لا سبيل مطلقا إلى تجاوز هذه الوضعية المتسمة بالجمود خارج حركة الزمن على الرغم مما هي عليه في داخلها من فوضوية حارقة، و إلى تجاوز حالة الاحتقان السائدة و اختلاط الأوراق و تبعثرها في كل الاتجاهات بعيدا عن مركز الكيان، إلا بمواجهة الحقيقة المرة و السعي إلى رفع كل التناقضات بقوة الدولة المتحررة من كل الاعتبارات التي تتناقض مع الدستور و القانون حتى تتكشف الأمور و تتضح الرؤية لمن هم قادرين على توجيه دفة السفينة بهذا الاتجاه الجديد في محيط التحولات الهائلة التي تحدث من حولنا. البداية حتما بأيدي المثقفين الذين ما زالت متقدة بداخلهم جذوة النزاهة الفكرية و رفض الانصياع للواقع الأليم. فلماذا إذا لا يشعلون شمعتهم لطرد الظلام و يوقدون نارهم لإحراق الشياطين و المردة الذين ما زالوا يعمرون كل جزئيات مخلفات الماضي في الأذهان التي تأبى من إملاق التحرر و الانطلاق.
الولي ولد سيدي هيبه