مانديلا: قوة العفو/السيد ولد إباه
خلال محاكمته في أبريل 1964، أطلق “نيلسون مانديلا”جملته الشهيرة التي كرست زعامته الاستثنائية :”لقد اخترت مثال مجتمع حر وديمقراطي يعيش فيه الجميع بانسجام وبفرص متساوية. إنه مثال أرجو أن أعيش من أجله وأن أحققه، ولكني مستعد أن أموت من أجله إذا اقتضى الأمر
كان المحامي الشاب ابن الأسرة الملكية الريفية الذي رعى الغنم واحترف الملاكمة في أوج نشاطه السياسي الذي تحول إلى نمط من المقاومة المسلحة بعد استفحال نظام التمييز العنصري وتزايد ضحاياه. بيد أن زعامته الحقيقية لم تبدأ إلا وهو بين أسوار سجن “روبن أسلاند” الذي قضى فيه 27 سنة كاملة، لم يكن فيها على قساوة ظرف الحبس سجيناً معزولًا بلا إرادة، وإنما حوّل المعتقل إلى جامعة لتكوين المقاومين ومركز للإعداد السياسي وقاعدة للتفاوض مع الخصوم والتواصل مع العالم الخارجي.
يذكر “ماديبا” (الاسم الآخر لمانديلا) كيف تحرر من قيد السجن منذ أول يوم في زنزانته، حيث تعود ان يستيقظ مبكرا وكأن وراءه يوم عمل مضن وغني، يوزع وقته بين القراءة والتعلم (تعلم لغة الأفريكان البيض)، وتدريس السجناء والحديث مع سجانيه الذين حولهم إلى أصدقاء وحرص خلال حفل تلقيه لجائزة نوبل عام 1993 على أن يجلس أحدهم على يمينه.
كان مانديلا يرى في الأشياء القليلة غير الممنوعة في السجن إطاراً لممارسة الحرية التي اعتبرها طريقاً طويلة لا متناهية لا يمكن أن تسلب إلا ممن رضي بالذل والخنوع. وعندما خرج من السجن كان تصريحه الأول هو أنه لا يريد أن يحرر السود وحدهم، بل الأقلية البيضاء أيضاً، التي يتعين تحريرها من ممارسة الظلم والاستبداد لبناء الأمة الواحدة، التي لا تمييز فيها ولا إقصاء.
” تحرير الظالم” هو الشعار الذي تبناه منذ ممارسته لمهنة المحاماة دفاعاً عن ضحايا التمييز العنصري. كانت استراتيجيته في المرافعات أمام القضاة البيض تكمن في توعيتهم بأنهم يتنكرون للقيم، والمثل التي تصدر عنها تشريعاتهم المستمدة من المدونة القانونية الحديثة المرتكزة على حقوق الإنسان، وبالتالي فإنه يسعى لتحريرهم من انفصام الشخصية المتولد عن ازدواجية المعايير في التعامل مع مواطني الدولة الواحدة من “أصليين” ممنوعين من حقوقهم و”وافدين” محتكرين لحقوق المواطنة.
وهكذا منذ بداية مشواره السياسي والقانوني، رفض مانديلا منطق الانتقام والعنف، معتبراً أن الدرس الأساس الذي استخلصه من مساره النضالي الطويل هو إنما يجب أن يحارب النسق القائم لا الأشخاص، وإنه استنتج من معايشته لجلاديه أن في كل البشر معينا من الخير يتبدى عندما نقابل الإساءة بالإحسان.
وعندما فرض على حركة المقاومة السوداء الانتقال إلى العمل المسلح بقيادة مانديلا، الذي حرص بنفسه على تدريب المقاتلين في عدة بلدان أفريقية، كان أهم شرط لديه هو عدم التعرض للناس، والاكتفاء بالجانب الإعلامي والرمزي في العمليات التي تستهدف حكومة الاستيطان العنصري.
“تحرير السجان” هو الشعار القوي الذي هزم به عدوه، وهو – كما يقول “جاك دريداً” في نص جميل حول تجربة مانديلا- الصورة المقابلة لجدلية السيد والعبد لدى هيجل، التي رمز بها لمفهوم الاعتراف، الذي لم يخرج من منطق المقايضة والحساب.
في تجربة المصالحة الجنوب أفريقية العبد هو الذي حرر السيد في ما وراء موازين النفع والفوائد المتبادلة، لأن الرهان كما أشار مانديلا، هو “تحرير الحرية” ذاتها باعتبارها طريقاً ممتداً بلا نهاية، ومساراً لا جوهراً، ذلك هو مضمون مبادرة “الحقيقة والمصالحة “، التي أشرف عليها الأسقف “ديزموند توتو”، وكانت إبداعاً أفريقياً مثيراً تجنب مسلك المحاكمات، التي عرفتها أوروبا بعد الحروب النازية، كما تجنبت نهج تحصين المعتدي، الذي فرضته الدول الاستعمارية على البلدان التي كانت تحتلها.
جمعت مبادرة الحقيقة والمصالحة بين هدفين متعارضين: تنشيط الذاكرة للكشف عن الجريمة في تفاصيلها من خلال آلية الاعتراف المباشر، الذي يكون مآله في العادة الجزاء والعقوبة وتشجيع العفو، الذي هو موقف أخلاقي لا قانوني، لا يمكن أن يترجم بلغة العدالة التي تستبطن منطق الثأر مهما كانت التأويلات القيمية التي تحاول طمس هذا البعد.
استمعت لجان الحقيقة والمصالحة إلى 20 ألف تصريح وألفي اعتراف أمام العموم وأمام الشاشة، وطلب فيها 8000 من المسؤولين عن جرائم العهد العنصري الصفح من ضحاياهم، وانتهت الجلسات أحيانا بمشاهد مؤثرة يتعانق فيها الجاني والضحية.
العفو هنا عفو الصفح والمسامحة الذي يختلف عن العفو القانوني الصادر عن الدولة الذي لا يمكن أن يفسر بلغة العدالة، لأنه يصدر عن سلطة سيادية لا يحق لها من المنظور المعياري محو جريمة، الضحية فيها هو وحده الذي يتمتع بحق العفو، ولذا أمكن القول إن احتكار الدولة في شخص حاكمها حق العفو يصدر عن خلفية لاهوتية جلية: الدولة المطلقة باعتبارها نمطاً من “الإله المحايث” أو “الإله الفاني” بلغة هوبز.
ميزة العفو أنه لا يصدر عن النسيان، فلا يمكن أن نعفوا إلا عما نتذكره، ولذا فالعفو يقر “واجب الذاكرة” ويصدر عنه، لا يلغي الماضي، وإنما يعطيه دلالة جديدة بفتحه على المستقبل، أو بعبارة “بول ريكور” معجزة العفو هي أنه “يمنح الذاكرة مستقبلًا”، ولذا فإنه لا يدخل في منطق الدين والمقايضة، بل يدخل في أفق العطاء والمنح والضيافة.
لم يكن أكبر زعيم سياسي عرفته القارة الأفريقية خطيباً مفوهاً ولا مخططاً استراتيجياً أو مقاتلًا شرساً، كانت قوته في قدرته على تجاوز ضعفه البشري الذي يقر به، ويرى أنه مفتاح فهم الآخرين وشرط التفاعل والتوافق معهم. وكان أكثر ما يزعج مانديلا هو صورة القديس التي صنعها له الناس قائلًا في إحدى مقابلاته الصحفية، أن أكثر ما كان يقلقه في سجنه هو هذه الصورة معتبراً أنه ليس قديساً حتى بالمعنى المبتذل أي “الإنسان الخطاء الذي يحاول التسامي”.