السجال بين السلفية والصوفية : خصومة عبثية و في الوقت الخطإ
كتب الدكتور محمد ولد الراظي:
الزمان أنفو ـ ليس الوقت وقتها يقينا وما كانت أصلا لتكون لو أن الناس جميعا أدركوا الحدود الفاصلة بين سلطة الإنسان في الأرض وسلطة الله في الملكوت ولَزِموها وتقيدوا بحدود وضوابط الاختصاص البشري في الأمور الدينية ، فلا سلطة لأحد في أمر السماء والله سبحانه وتعالى لم ينصب في الأرض قاضيا ينوب عنه في قبول هذا مسلما ولا في إخراج ذاك من الدين ولا وَهَب من ينوب عنه سلطة إصدار بطاقة دخول لجنة ولا لنار…..ولا صكوك غفران في الاسلام .
بدأت الخلافات بين المسلمين ولما تنتهي مراسم دفنه بعدُ صلى الله عليه سلم وكادوا يستلون السيوف بينهم وما إن تجاوزا أزمة البيعة الأولى حتى بدأوا رحلة من الخصومات شديدة وبعضها عنيف أدت لفتنة لم تنته آثارها حتى اليوم ثم تبعتها سلاسل من الاحتراب البيني عمت بلواه كل الحقب ولم يسلم منه مصر من الأمصار وكان عنوانه الجامع بين الجميع أن المخالف إما أنه مختل العقيدة أو فاسق أو حتى كافر خارج عن الملة…..
لكن المسلمين في هذه الأيام لهم من الهموم والمآسي الجامعة ما يجب أن يشغلهم عن رياضة التكفير والتفسيق والتنابز والتلاسن فهي تمارين عبثية أقرب ما تكون لجنون خمسة نجوم !!!!
كان من المفترض أن يستقر هذا السجال العبثي على تقديم كل طرف لرأيه فلا تكون حاجة لأحد من خارج الصوفية و السلفية أن يدلى فيه بدلوه ولكنه للأسف أخذ منحى آخر وصل لدرجة تكفير المسلمين الذين يؤمنون بالله وبرسوله وهذا أمر غير مقبول مطلقا ومخالف لثوابت الدين وأركان العقيدة والذوق السليم مما استفز الحاجة للحديث عن نشأة الجماعتين وجذور الخلاف بينهما واستدعى أيضا مساءلة السلفية عن الأسباب التي جعلتها تستسهل تكفير المخالف غير المرضي عنه وتسكت عن أمور تفرض على كل من يتصدر الشأن الديني أن يقول فيها ما أراه الله …..فماهي الصوفية ؟ وكيف نشأت ومتى ؟ وماهي السلفية ؟ وماهي جذور الخلاف بينهما ؟ وهل بالإمكان لهما أن يتلاقيا ؟
بدأت بواكير التصوف بظاهرة الزهد لدى أشخاص قلة من خيرة الصحابة ثم تطور الزهد فأصبح مدارس لها وجود في كبريات حواضر الإسلام ثم انتشرت هذه المدارس واتسعت وكثر مرتادوها بسبب الانتشار الواسع لمظاهر البذخ المادي في العصر الأموي فنفر الزهاد عن مباهج الدنيا وملذات العيش وابتعدوا عن عالم الظواهر وتفرغوا للعبادة وأضافوا إليها محسنات وجدانية يقولون إنها تطوف بهم بعيدا نحو التماهي في الذات الإلهية وقال البعض إن الصوفية في أصلها كلمة مركبة تعني بالصاد صفاء وبالواو وفاء وبالفاء فناء وبالياء يقين وأول مدرسة صوفية كبيرة ظهرت كانت القادرية في القرن السادس الهجري !!!!
رافق هذا الزهد في ملذات العيش زهد آخر في السلطة وما يقرب إليها فلم تستند جماعة صوفية كبيرة لحاكم ولا لسلطان وكان بُعدها من الحكام سببا من أسباب التجافي الذي حصل مع السلفية لأن كل الأئمة اتكأوا على سلطة وتوكأت عليهم منذ الإمام أبي حنيفة وحتي الإمام أحمد وابن عبد الوهاب….
لم تنتج الصوفية فقها كثيرا – وليست وحدها فقد تعطل الإنتاج الفقهي عمليا منذ القرن السابع للهجرة وكل ما جَدَّ بعد ذلك مجرد حفظ لمتون أو نظم لأحكام – لكنهم لم ينكروا على الفقه بل ظلت كل مدرسة صوفية ملتزمة بالمنظومة الفقهية السائدة في حيزها الترابي.
أما السلفية فهي دعوة تقول إن الدين الصحيح هو ما كان خلال القرون الثلاثة الأولى وتدعو لاتباع الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم وتُعرف أيضا بأهل السنة والجماعة وظلت مرتبطة بالسياسة والحكم منذ نشأتها الأولى وحتى اليوم.
استقوى الأئمة بالسلاطين واستقوى السلاطين بالأئمة فمنحت السلطة السياسية للأئمة المرجعية الحصرية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول الفصل في تكييف أقوال الناس وأفعالهم وإصدار الأحاكم وتنفيذها ، فتولد شعور لدى السلفية أنهم أولياء الله في الأرض والقوة الآمرة و المرجع الوحيد للفهم الصحيح للعقيدة والدين ، ومن خرج عن ما يقولون يكون خرج من الدين ثم أنتجوا منظومة فقهية تراثية محمية بالسلطة ومقدسة رغم أنها من إنتاج عقل بشري غير معصوم إذ لا عصمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيَّفت السلفية كل بدعة ضلالة وأصدرت حكمها أن كل ضلالة في النار والسبب في هذه الجرأة في التكيبف والحكم أن السلفية حازت قوة السلطة العمومية فأصبح كل مخالف للنظرة السلفية معارض للسلطة الحاكمة فنشأت ثقافة إقصاء راسخة داخل الفكر السلفي أن كل من جاء بجديد يصبح بدعيا وينال ما يناله البدعي وحين جاءت الصوفية بأوراد لم يقل بها الأئمة أصبح المتصوفة في عداد من خرج من الملة وجاء ببدعة….فكفر.
ترى السلفية عموما (السنة والجماعة) أن منظومتها الفقهية والعقيدية عصارة لما أنتجه المسلمون خلال القرون الثلاثة الأولى ويصفون هذه الحقبة بالقرون المزكاة لكنهم لا يخبرون عن من زكاها ؟ يقولون بحديث مشكوك فيه والحديث حين يكون ضعيفا لا يكون سندا خاصة إن كان به تعارض بَيٌِنُُ مع وقائع وأحداث لا تقبل التأويل وتتعارض مع نصه وروحه.
لا تجيب السلفية لماذا هذه القرون مزكاة ولا تجيب كيف ؟ والمعروف أن هذه القرون بالذات شهدت البذرة الأولى للفتن في الإسلام و سالت فيها بحور من دماء المسلمين لأسباب لا علاقة لها بالدين بدأت بالفتنة الكبرى وانتهت بقرار من الحاكم المملوكي الظاهر بيبرس يوم عَيَّْن أربعة قضاة في القاهرة كل عن مذهب من المذاهب الأربعة وحرَّم أي مذهب جديد فأغلق باب الاجتهاد وقتل العقل ولم يعد يجوز لأحد أن يزيد أو ينقص أو يأتي بمجرد تعقيب على ما ترك السلف من أتباع هذه المذاهب…
لم تُجب السلفية عن أسئلة مازالت عالقة ولا بد من نفض الغبار عنها ليعرف الناس أين يسيرون، فأمور الدين ليست لعبة يتلهى بها الناس يسكتون حين يشاؤون وينطقون حين يرغبون ولا يصح فيها غير الصحيح ومن يتجرأ على تكفير مئات الملايين من المسلمين يُصلون ويصومون ولم يقتلوا ولم يفسدوا ، ينتظر منه أن يفتي في أمور زلزلت كيان الدولة الإسلامية ومزقت المسلمين وعطلت العقل المسلم قرونا وغرست بذور الفتن بين الناس…..
فلماذا أغلق باب الاجتهاد في العالم السني على الأئمة الأربعة؟ وهل قرار من حاكم مملوكي يقال له بيبرس يرقى لدرجة الوحي المنزل !!!!!! وماهي الأسباب التي تجعل حاكما في القرن السابع للهجرة يتخذ قرارا بهذا الحجم وبهذه المفصلية لم يجرؤ عليه أي حاكم من القرون المزكاة ؟ وماهي الأسباب التي جعلت السلفية تتقيد بقرار مملوكي جاء أربعة قرون بعد القرون المزكاة فلا تقبل برأي جديد ولا تقبل باجتهاد !!!!
وما الذي يمنع الفقهاء أن يتحرروا من قرار بيبرس فيعيدون قراءة المتون الفقهية قراءة نقدية وغربلتها وتصحيحها ؟ وما الذي يمنع مَن تصوف أن يتصوف ؟ وما الذي يمنع علماء الحديث اليوم وغيرهم من مراجعة ما اتفق عليه البخاري ومسلم وما اختلفا حوله فيصقلون ما قد يكون علق بهذه المتون من منقولات تخالف روح الدين وتتعارض مع منطقه ومع العلم ؟
ولماذا اختلف الأئمة أصلا فأصبحوا أربعة أوأكثر؟ وما الذي يبيح لهم أن يختلفوا ويمنع غيرهم أن يختلف عنهم ؟ أم أن كل هذه الحظائر العقدية مجرد مسلمات أقرها قوم في لحظة من الزمن فجعلوا منها مرجعا مقدسا ، من التزم به نجا ومن خرج عنه هلك !!!
ولماذا تكون الفتنة بين عامة المسلمين مفسدة وخراب نهى الله عنها ورسوله وحين تكون بين صفوتهم يشار بالسكوت عنها ثم يقال إن الجميع على هدى من ربهم ؟ وكيف يكون الاقتتال هدى من الله سبحانه وتعالى والله جعل دم المسلم على المسلم حرام ؟ و كيف يستقيم ذلك مع كون الدماء أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة ؟ وهل تجيب السلفية عن مقتل الإمام الشافعي ؟ وهل تجيب عن من قتله ؟ وعن حكم الله فيه ؟ وهل تجيب السلفية عن من قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ؟ وما ذا تقول السلفية في قَتَلته ؟ وحكم الله فيهم ؟ ومن قتل طلحة والزبير ؟ وما ذا تقول السلفية في قَتَلَتهم وحكم الله فيهم ؟ ولماذا تقول السلفية إن خروج عبد الله بن الزبير على الدولة الإسلامية صولة جهادية والخروج على السلاطين فتنة ؟ وكيف يتوافق الموقف من عبد الله بن الزبير في خروجه على الحاكم مع قول ابن تيمية في واجب الإنصياع للحاكم من أن ألف يوم من سلطان جائر خير من يوم واحد من دون سلطان ؟ وما ذا عن خروجه لقتال علي بن أبي طالب يوم الجمل وخروجه على الأمويين لاحقا ؟ فهل هذا دين أم سياسة !!!! هذه سياسة ومواقف متقلبة تقلبها والسلفية اليوم دعوة سياسية بلبوس ديني قاطرتها الأهم المدرسة الوهابية التيمية الحنبلية ولها من أسباب القوة والانتشار ما ليس لغيرها وتدعو كسائر أهل السنة والجماعة لاتباع ما صح عن سلف الأمة الصالح.
لكنها في واقع الأمر تحصر مرجع هذا السلف الصالح في عبد الله بن عمر والإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ……فكيف تأخذ السلفية الوهابية من محمد بن عمر مرجعها الأول بحجة أنه اعتزل السياسة يوم كانت الفتنة بين المسلمين ؟ وهل من قتنة من دون سبب وهل من حرب إلا فيها مخطئ ومصيب ؟ وهل تخفى على محمد بن عمر – وهو من هو – أسباب الفتنة ومن تسبب فيها ؟ وهل الوقوف على الحياد بين حق وباطل يليق بشخص بوزنه ومكانته ؟
وماذا تقول السلفية الوهابية في الأئمة الثلاثة الذين سبقوا أحمد ؟ إن كانوا سلفا صالحا فما الذي يمنع أحمد أن يكون اتبعهم ؟ هي أمور سياسية محضة تأخذ عنوان الدين تارة والعشيرة تارة والقبيلة طورا الأمويون والعباسيون والفاطميون والوهابيون وغيرهم ووحدها دولة المرابطين لم تأخذ باسم العشيرة المؤسسة……
لكن السياسة حين يكون فيها فساد عام يجب تركها والتوجه لما يجمع المسلمين وحاجة المسلمين اليوم هي في تفعيل العقل وغربلة المتون وتحيينها وصقلها وفهم الدين على حقيقته وإدراك روحه وبث ثقافة التسامح بينهم والحث على التماسك والتعاضد ونبذ الخلاف والخصومات وما يقرب إليها من قول وعمل…..
لا يتوقع أن تتفق الصوفية والسلفية فالصوفية طارئة والسلفية لاتقبل بطارئ ولا يمكن أن تلتقي الجماعتان على كلمة سواء غير كلمة التوحيد وهذا في حد ذاته يكفى ليسلم كل منهما من الآخر…….فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ولن تقوم للمسلمين قائمة إلا حين يبتعدون عن أسباب الفرقة والتشرذم ويقبل بعضهم ببعض.