مانديلا: بصمة على صفحة الخلود
إ”ن الإنسان الحر كلما صعد جبلا عظيماً وجد وراءه جبالا أخرى يصعدها. الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حرّاً أو لا يكون”.. نيلسون مانديلا
لم يشهد تاريخ البشرية المعاصر حدثا، و بأية مناسبة كانت أومقاييس موحدة، الزخم الذي عاشته “جوهانسبرغ” في جنوب إفريقيا يوم الثلاثاء 10 دسمبر 2013 و هي تؤبن الزعيم الأسود نيلسون مانديلا الملقب بعطف و احترام “ماديبا”، المعلم الذي غاب نجمه الساطع قبل خمسة أيام عن عمر ناهز الخامسة و التسعين.
حدث استثنائي لم يحظ بزخمه أي ممن سبقوه و مهدوا له طريق الأشواك و علموه بنبلهم و علو همتهم و سعة صدورهم كيف يمشي فوقها و لا يبالي بوخزها و هم الذين تأثر بهم أيضا في الدعوة إلى الجنوح للنضال السلمي والحوار الحضاري و نبذ العنف و كل عمل يؤدي إليه كـ:
المهاتما غاندي الذي عاش منفيا من بلاده الهند إلى بلاد مانديلا نفسه حيث قضى سنوات الزهور من عمره محاميا بسيطا في هيأته و قويا في مرافعاته عن المستضعفين و لاحقا عند عودته عن المنبوذين من أبناء جلدته و المنسيين، و واقفا بحزم و شجاعة ضد المستغلين الإقطاعيين، وأترابهم الانجليز المستعمرين.
و مرتان لوثر كينغ الذي ناضل في الولايات المتحدة الأمريكية و تبنى نهج “اللاعنف” و دعا بشدة إليه،
و مالكوم أكس الذي ناضل بالحكمة و الخطابة فزاد إرادة السود إلى السعي لانتزاع حقوقهم و أفاد باعتناق الإسلام و الدعوة إليه،
و غيرهم الكثير من جيله و من الذين بصموا على صفحات التاريخ بمداد الخلود.
و إن أولى مظاهر هذا الحدث الخارق كانت تجلت كالأمر الخارق في تجميع قارات العالم الخمس في نفس المكان، في ذات الوقت و على نفس الإيقاع المزدوج لسيمفونية الأسى و الفرح.
و أما السبب الثاني فتجسد في وحدة الخطاب حول أبعاد الرجل النضالية و السياسية و الإنسانية، وحدة خطاب استثنائية في عالم ما زالت معالم وحدته النهائية تتشكل ببطء و إن بخطى تهتدي على وقع التحول الهائل في العقلية بمضامين تصيغها و توحد قالبها العولمة الهادرة بقوة أحصنة الدفع الرباعي لتكنولوجيا الاتصالات و الإعلام و المواصلات و بسجل انتصارات المد الإنساني الجديد.
و لئن مكث مانديلا 27 عاما داخل السجن، في جزيرة “روبن آيلاند”، ثم في سجن “بولسمور” وسجن “فيكتور فيرستر” و لم تنجح بالموازاة مع فترة السجن هذه الحملة الدولية التي عملت على الضغط من أجل إطلاق سراحه حتى العام 1990 وسط حرب أهلية متصاعدة، فإن هذه السنوات التي اجتر فيها مرارة الظلم و ذل القهر قد شكلت بوجه آخر عمر عطائه الإنساني و حررت نفسه من عوالق ماضيه بشقيه :
الأميري حيث كان ابن ملك قومه، و ما تشحن به – على العادة – النفس من استعلاء و نرجسية تلك الوضعية المريحة المتسمة بالنبل الاجتماعي و المكانة الرفيعة،
و القومي الضيق في دائرة اللون الأسود، حيث كان يقارع الرجل الأبيض بحماس المقهور المظلوم و لهفة التواق إلى الحرية و الانعتاق بكل ثمن حتى أدركته المعاني السامية لحلم مارتان لوثر كينغ الذي صاح ذات يوم الـ 26 أغسطس من العام 1968 أثناء مسيرة واشنطن للحرية في خطابه الذي اعتبر تحفة في البلاغة” I HAVE I DREAM !” “عندي حلم” معبرا عن رغبته في رؤية مستقبل يتعايش فيه السود والبيض بحرية و يحلقوا معا في آفاق المساواة والتجانس.
و لما أن من الله على جنوب افريقيا بانزياح نظام “الأبرتايد” البغيض و بنعمة الديمقراطية و أن استلم نيلسون مانديلا زمام الدولة المولودة لتوها من رحم الفصل العنصري، طالبه على الفور و بإلحاح المتشددون من السود و الذين ما زال طعم الظلم المرير في حلوقهم باستخلاص البلد للسود دون سواهم فأجاب الحكيم إنها غلطة لن يرتكبها و ذنب لن يقترفه لأن الدولة بأمتها القزحية تسع الجميع و بحاجة إلى كل أهلها من سود و بيض و هنود و غيرهم. و أضاف أن الساعة التي أزفت هي ساعة المساواة و الإخاء و السير معا في ركب الإنسانية لتصحيح الحاضر و بناء مستقبل الجيل القادم و أنها ليست مطلقا ساعة الرجوع إلى المربع البغيض بوجه جديد و هو من سيحارب بقوة الطغيان الأسود إن تشكل مثلما حارب الطغيان الأبيض أيام كان سائدا و متحكما.
هكذا يعطي العظام، خلال أعمارهم القصيرة و عطائهم الثر الخالد، دروسا تشكل في زمنهم المتنور انطلاقا و دفعا جديدين بكل المقياس و لا تلتفت إلى الماضي البائس. و هي الدروس التي إن أمعنا فيها النظر و تحلينا بالحكمة التقطنا إشاراتها الواضحة المعالم المرسلة إلينا بصفاء الفكر و على متن نقاء المبتغى بأن البشر في وحدتهم الجسدية على اختلاف ألوانهم، و تفرد عقلهم الإنساني رغم تنوع و اتساع آفاق مدرك هذه العقول و تنازع ثقافاتها جواهر و نفائس العقل و الفكر و استنتاجات التأمل، قد خرج، مطلقا من دائرة الجهل الأبجدي و المدني إلى نور و آفاق المعرفة الرحبة و أن عهد الأمية الحضارية ولى للأبد و أن السيادة أصبحت للعطاء العلمي بكل أوجهه و أبعاده الاقتصادية و السويولوجية و السياسية في السياق الديمقراطي الذي ستؤول إليه إن عاجلا أو آجلا مصائر البشرية في حلتها الجديدة. فهل يستلهم مثقفونا و سياسيونا و الموهوبون منا في فنون القيادة – ما ظهر منهم و ما بطن – في استلهام خصائص هذا الرجل الذي فرض نفسه على عالمه القاسي ببسمة لم تخب يوما و لم تغب من جميع الصور التي التقطتها آلاف المصورات في تعارض مطلق مع صور الزعماء أقرانه في القارة و كل الدول التي مازالت تئن تحت نير الأحكام القسرية الذين يدارون خوفهم و ضعفهم وراء قسوتهم و التكشيرعن أنيابهم. بسمة الواثق من صفاء الضمير و أداء الأمانة و كأني بـ”ماديبا” قد قرأ عن رسول قيصر و هو يحملق في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان نائما في البطحاء مفترشا ترابها وملتحفا السماء على ثغره بسمة الرضا والطمأنينة. ودون أن يوقظه وجد رسول قيصر نفسه يقول “الآن فقط أدركت سر عظمتك… لقد عدلت أيها الأمير فنمت قرير العين”.
الولي ولد سيدي هيبه