عن الحكومة الجديدة
كتب د. محمد ولد الراظي:
عن الحكومة الجديدة……
في هذه الحكومة وزراء أعرفهم، أطرا أكفاء، لا علم لي أن أحدهم اسودت يداه بمال مريب المنشأ أو تلطخ مشواره بأمر مخل بالمروءة أو خادش للحياء وأحسب أن الذين لا أعرفهم قد يكونون كالذين عرفت.
لكن الكفاءة المهنية والأخلاقية رغم أهميتها وضرورتها تظل غير كافية لوحدها فلا بد لها من حاضنة حكومية تنميها وتزكيها ولا بد لها من مناخ حميد لا يكون فيه قبول لغيرها ، فالعملة الردئية تطرد العملة الحميدة ، ولا يستوي من أحسن صنعا مع من أساءه ولا يجتمعان والمساءلة الدائمة وجهاز رقابة نزيه قوي مستقل وفعال هو الطريق الوحيد لتمييز الغث عن السمين….
يتبادر للمراقب أن الحكومة غير متجانسة، قال بذلك الكثير من الناس وبعضهم أنكره وأعابه ونظر إليه البعض أنه بذرة من بذور الفشل قد تعطل العمل الحكومي وقد تودي بالحكومة نفسها.
لكن الحقيقة أن تجانس حكومة كهذه هو الأمر المريب فما الذي يجمع بين هذا الجمع من الوزراء ؟ هل يتقاسمون مشروعا سياسيا واضح المعالم ؟ وهل يجمعهم مشروع مجتمعي ناضلوا من أجله وضحوا في سبيله من حرياتهم وجهدهم ووظائفهم ؟ صحيح أنهم جميعا تجمعهم الأغلبية الداعمة للرئيس ولكنهم أيضا جمعتهم، بشكل أو بآخر، في الماضي أغلبية داعمة لرئيس آخر وجمعتهم قبل ذلك أغلبية داعمة لسلفه ويتوقع أن يكون حضورهم قويا في أية أغلبية قادمة فعن أي تجانس يمكن الحديث ؟ وهل من الواقعي أن نتوقع غير ماهو واقع ، جماعات التقت في لحظة معينة حول شخص رئيس الجمهورية وكلهم يحمل ما يميزه عن غيره و يخالفه معه……فالسياسة كفكر وكمشروع مجتمعي قد تعطلت والعمل بها توقف في عموم البلاد وبين الجميع يوم جاءت تعددية “لابول”……
لكن هذه المرحلة تمتاز بكونها مأمورية دستورية أخيرة لرئيس لا يتوقع منه أن يسعى لتجديد قادم والذين يشكلون المشهد الحكومي يتهيأ كثيرهم ليكون له قول مسموع في خلافته عام 2029.
فما الذي ينوي الرئيس فعله في خمسيته الأخيرة ؟ هل سيسعى لإعادة تأسيس الدولة أم سيكتفي بمواصلة نهجه في مأموريته الأولى ؟ وما الذي قد يواجهه من صعوبات وعراقيل لم تكن واجهته في المأمورية الماضية ؟ أسئلة قد تساعد في فهم كيمياء الحكومة الجديدة وأجنحتها وأجندات أطرافها.
الكثير من الدلائل توحي أن رئيس الجمهورية يريد أن تكون مأموريته الأخيرة مختلفة جذريا عن سابقتها وله من الأسباب ما يجعل ذلك ممكنا ولكنه يدرك تماما أن الطريق قد لا يكون سالكا بانسيابية وسهولة.
لا يفوت على الرئيس أن للعسكر عين ناظرة لإنتخابات 2029 وأن قادة الجيش يريدون الإبقاء على المنظومة القائمة حاليا لتضمن لهم الفوز في المأمورية القادمة، فهذه المنظومة هي التي جاءت بكل رؤساء ديمقراطية ” لابول ” ولا يتوقع الرئيس أن تكون الإصلاحات التي ينوي القيام بها سهلة بهؤلاء ولا معهم وحدهم ولكنه في المقابل يدرك حاجته للمؤسسة العسكرية والأمنية وحاجة البلاد لها ورهن الإستقرار ببقائها قوية ومتماسكة لمواجهة المخاطر الداخلية والإقليمية الكثيرة التي تتهدد الدولة ومؤسساتها ولا يمكن لرئيس أن يخطو خطوة في أي اتجاه كان إلا وعينه على الأمن وأجهزته وقادته……فماهي عوامل القوة لدى الجيش ؟ وما الذي ترغب فيه المؤسسة العسكرية؟
المؤسسة الأمنية والعسكرية هي وحدها من له القدرة على مواجهة الإضطرابات الداخلية والخارجية لكنها تنظر لأي مشروع يهدف لبناء دولة مؤسسات مدنية حقيقية بكثير من الشك والريبة والتوجس؛ فدولة مدنية حقيقية تعني أن يعود العسكر للثكنات وأن يقتصر دورهم على حماية أمن البلاد وحوزتها الترابية وهذا لا يبدو أن جنرالاتنا اليوم في وارد القبول به بسهولة، فمنذ عقود طويلة لا يرون أنفسهم خارج السلطة ولا يقبلون….
في هذه النقطة تلتقي مصالح قادة المؤسسة العسكرية بمصالح المرجعيات التقليدية التي تتحكم في البرلمان والمجالس البلدية والجهوية بصفة كبيرة مما قد يجعل العناوين المجتمعية التقليدية ذراعا مدنية لجنرالات الجيش فتلتقي مصالح الجانين في عرقلة أي مشروع قد يفضي لبناء دولة مدنية تحل السياسة فيها محل القبيلة والعناوين الفرعية الأخرى وتحل المؤسسات المدنية محل العسكر (ما ظهر منهم وما خفي).
في مواجهة هذه الكتلة القوية (الجيش والبرلمان والتجمعات المحلية) كان لا بد للرئيس من أن يدفع بطاقم مختلف يملك المؤهلات المطلوبة لتسيير القطاعات الخدمية تسييرا ينتج أثرا حميدا في حياة الناس واختار شابا قويا خطيبا وجسورا في تأدية ما يوكل إليه من مهام ليكون منسقا للعمل الحكومي وأخذ معه وزراء شبابا لم يذكر أحد ثلمة في ماضي أحدهم ولهم من المؤهلات المعرفية والتجريبية ما يمكنهم من تطوير القطاعات المسندة إليهم ويمتازون في غالبيتهم، حسب بعض العارفين، بالتحرر من سطوة القبيلة والجهة والعشيرة فيجعل من هذه الكتلة الشبابية ثقلا مضادا للكتلة الأولى.
يعول الرئيس أن يكون هؤلاء رافعة لبناء دولة مدنية ونظام حكامة رشيد فينالون مشروعية الإنجاز فتفتح لهم نافذة مباشرة على قاعدة الكتلة الأخرى المتمثلة في المؤسسة الأمنية والعسكرية والوجاهات التقليدية، فتتراخى قبضة هذه وتضعف قدرتها على توجيه الناس وتشويش المشهد ويحصل توازن يساعد الرئيس في تمرير برنامجه دون تشويش كبير ويُمكٌِنه من تجنب أي تعطيل أو سحب الثقة من جانب البرلمان قد يدفع إليه جنرالات المؤسسة العسكرية والأمنية وحلفاؤهم حين لا يرضون….
فما الذي يمكن للرئيس فعله لتجاوز ما قد يعيق مشروعه ؟
بادئ الأمر سينحو كل جناح منحى تصالحيا وقد يبقى الحال كذلك ما دام التوازن حاصلا أي ما دام لم يلمس أي طرف من الرئيس ميلا بينا نحو الآخر وهذه الفترة لن تطول كثيرا ومن المتوقع أن يستغلها الرئيس لتمرير إصلاحات جوهرية كبيرة تمكنه من تجاوز الجميع وملامسة حياة الناس بصفة مباشرة فيستقوي بشرعية انجازات تجعل الناس تتجاوز انتماءاتها المحلية والحزبية والشرائحية وتلتف حول برنامج حكم فيكون قد وضع اللبنة الاولى لبناء الدولة المدنية…..فكيف يمكنه ذلك ؟
قد يئس الكثير من الناس من تغول القبيلة ويئسوا أكثر حين تطور المشروع التفتيتي لكيان الدولة فانفجرت عناوين فرعية أصبحت أصولا تجارية بعناوين شتى وبأساليب لا سلطة للمنطق عليها ولا للقانون، لكن لماذا عادت القبلية بعد أن تلاشت ؟ ومتى أصبحت هذه العناوين تجد من يصغي إليها ؟
تلاشت القبلية عندما كانت الدولة في خدمة المواطن بديلا عن القبيلة والجهة والعشيرة وأقوى من الجميع وعادت القبلية وأخواتها يوم استقالت الدولة من وظيفتها فلماذا يركن المواطن للقبيلة ؟ لأنها ، حين استقالت الدولة، أصبحت ملجأه حين مرضه وحاميه يوم ظلمه وطريقه للوظيفة يوم ينهي دراسته ويعود …فكيف ستكون علاقة المواطن بالدولة يوم توفر له التعليم والصحة والوظيفة والعدل ؟ سينحاز حتما لها لأنها تقدر على ما لا تقدر عليه قبيلة ولا فئة ولا شريحة وتوفر من فرص العيش الكريم أكثر بكثير مما توفر القبيلة وغيرها وهي أقوى من الجميع وأمانها أشمل ولا تمُنٌُ على أحد بخدمة تقدمها له ولا تطلب منه غير ولاء مدني تطلبه من الجميع… وحين ينحاز المواطن للدولة فما الذي سيبقى للقبيلة وما الذي سيبقي للشريحة وما الذي سيبقى للفئة؛ ستختفي مشاريع القبيلة ومعها تختفي القبلية وستنمو المشاريع المجتمعية لبناء الدولة ومعها ستنمو السياسة وستحل السياسة محل كل العناوين الفرعية……هذه هي الدولة المدنية؛ فكيف يمكن للحكومة الجديدة أن تضع اللبنة الأولى لمشروع كهذا في مستهل المأمورية الأخيرة لرئيس الجمهورية؟
حين يعلن الرئيس حربا حقيقية على الفساد فإنه يعلنها على نظام مؤسسي يسمح بالفساد ويعلنها أيضا على المفسدين فلا فساد دون مفسدين والحرب على المفسدين حرب على الأغلبية الغالبة ممن يتصدرون المشهد اليوم.
عليه أولا بتفعيل آليات الرقابة والمساءلة وتفعيل قوة القانون بأن تكون النيابة العامة حرة في فتح الدعوى حول كل شبهة ويكون القضاء الجالس قضاء حكم حقيقي لا سلطة فيه إلا لقاض يحكم باجتهاده…..ستمكن محاربة الفساد من استحصال موارد كبيرة تساعد في تمويل الكثير من مشاريع التنمية.
الخطوة الموازية أن يقوم بثورة حقيقية في مجالات التعليم والصحة والزراعة يعم نفعها جميع الناس ولا يمكن لثورة كهذه أن تنجح إلا حين يكون الكادر التعليمي والكادر الطبي في ظروف تسمح لهم بأداء مهامهم بيسر وسهولة ولا يمكن أن تكون ثورة في المجال الزراعي من دون إصلاح زراعي شامل تكون بموجبه الأرض غير المستغلة ملكا للدولة توزعها برخص استغلال شفافة لمن يستعد ويقدر أن يزرعها وأن تقوم بموازاة ذلك بإنشاء شركة عمومية لتسويق المحاصيل الزراعية.
ثم تعتمد الحكومة معايير شفافة في الإكتتاب العمومي وتكون كل الوظائف عبر مسابقات أو فرز ملفات وفق ملف تعريفي لكل وظيفة……..