عن المولد النبوي الشريف…….يتجدد الحديث/د.محمد الراظي

الزمان أنفو _ العيد في اللغة يوم يعود في دورة زمنية معلومة ويحمل ذكرى يفرح الناس لها ويسعدون ؛ تتعدد عناوين الفرح وتتعدد أسباب الغبطة وتختلف من أمة لأخرى ومن مصر لمصر ويظل العيد في كل مكان له صفة جامعة مانعة أن يومه له وقع في النفس ليس لليوم الذي سبقه ولا لليوم الذي يليه.

بعض الأعياد يعود كل سنة مرة وتارة يتكرر وبعضها يعود كل بضع سنين ولكل أمة أعيادها و أسباب لكل عيد ؛ فمن الأعياد ما تقتصر الفرحة فيه على الأبعاد الدنيوية كعيد الإستقلال وعيد المرأة والشغيلة وعيد الشجرة وغيرها ومن الأعياد ما تجمع معانيه بين الدين والدنيا ومن الأيام ما هو أسمى وأجل كالتي تستفز في المرء مكامن علاقته بربه وتشده بالخيط الناظم لحياته وموته ويوم يكون بعثه.

في هذه الأيام تتجدد ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتجدد معها الحديث والجدل حول شرعية الإحتفال به من عدمها ويزداد الشحن شحنا وتصل الغلواء بالبعض حد التفسيق والتكفير لمن جعلوا منه عيدا يفرحون به ويُحْيون أيامه….فهو عند هؤلاء بدعة وكل بدعة عندهم ضلالة وكل ضلالة تقود عندهم صاحبها للنار وهم وحدهم من يعَرٌِف البدعة ومن يُكيٌِفها ومن يُعطٌِل التكييف ويُحوٌِره حين يتعلق الأمر بغير خصومه تماما كما هو حال أهل السياسة اليوم !!!!!

في الثامن والعشرين من نفمبر من كل عام نحتفل بعيد الإستقلال ، نتأمله في كنهه وأبعاده ، نتذكر الذين ماتوا من أجل أن يكون هذا اليوم ونتذكر الذين ضحوا و دفعوا من جهدهم وحريتهم من أجل الخلاص من مستعمر غاصب ونغرس في نفوس صغارنا أن هذا اليوم ليس يوما عاديا بل لحظة فاصلة بين ما سبقه من أيام وما سيجيئ من بعده وأن عليهم واجبا أن لا يفرطوا فيه وأن يصونوا الأرض والعرض والهوية الدينية والثقافية…..

نحتفل بعيد الأضحى ونفرح به كثيرا ونختار أحسن ما نملك من ثياب ونتبادل الزيارات والتحايا ، فهذا اليوم من أيام الإسلام فيه دروس عظيمة وعبر وفيه سِيٌَر ملهمة وأحسن القصص لكن الله لم يأمرنا أن نجعله عيدا ولم ينهانا وإنما أمر من استطاع منا لذلك سبيلا أن يتتبع خطى سيدنا إبراهيم عليه السلام وولده وأم ولده هاجر في أيام معدودة ومعلومة……

نحتفل كذلك بيوم الفطر ونجعل من الفطر عيدا وهو يوم نودع فيه عبادة نزلت في القرآن الكريم وَصْفا وتحديدا في التاريخ والأجل وحض الشرع على الإكثار منها خارج الأيام المعدودات ومرد فرحتنا بهذا اليوم أنه بداية لراحة الأبدان من مشقة شهر من الصوم والله يسٌَر على عباده في كل ما أمرهم به ففرض العبادات بيسر وحدٌَ لها وقتا ينتهي معه ما كان بها من مشقة رحمة بالعباد….فلماذا نحتفل بالعيدين ولا نحتفل بالمولد النبوي الشريف ؟

يعود المولد النبوي الشريف كل سنة في تاريخ معلوم ، فهو من حيث اللغة عيد كما هو حال الأضحى وكما هو حال الفطر و الأيام الثلاثة لم يرد نص بأنها أعياد فلا ذكر في القرآن الكريم لكلمة “عيد” إلا في موضع واحد بسورة المائدة حين استجاب عيسى ابن مريم لحوارييه : “قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين….”

اختلف الناس في تفسير الآية واختلفوا في تأويلها ولكنها في كل الأحوال لم يرد بها تصريحا أن الأضحى عيد ولا أن الفطر عيد ولا تحتمل تأويلا يشير لما يميز هذين اليومين عن غيرهما من الأيام.

المولد النبوي يوم للمسلمين لا شك في ذلك ولا ريب -وهو أيضا يوم للبشرية عامة لأن المولود خاتم أنبياء الله لخلقه ولما تبقى من آماد الدنيا – وللمسلمين أيام أخر والمفاضلة بين الأيام تكون بالمقارنة بين أهمية الأحداث التي حصلت فيها وتأثير تلك الأحداث في نفوس الناس وفي مصائرهم فليس ما حصل في العاشر يوليو مثلا كالذي حصل في الثامن والعشرين من نفمبر وما يعنيه الثامن من مارس للمرأة ليس كالذي يعنيه لها عيد الشجرة. ……

والمفاضلة بين الأيام تكون قبل ذلك بالرجوع لأهمية الأحداث ذاتها وتصور كيف كان سيكون حال الناس لو أن هذه الأحداث لم تقع…

فماذا لو لم يقف سيدنا إبراهيم بعرفة في ذلك اليوم ؟ وماذا لو لم يفْدِ الله ولد إبراهيم بذبح ؟ وماذا لو لم تسْع هاجر بين الصفا والمروة تستطلع سقاية لولدها ؟ ما كان الزمن ليتوقف وماكان الناس ليخسروا غير مناسك يؤدونها مرة في العمر لمن يسٌَر الله له الأسباب….

ثم ماذا لو كان الصوم أبد الدهر لا يتوقف ؟ يقينا ما كان ليحدث تحول عظيم في حياة الناس ولا في مجرى الزمن ، فبعض الناس يصومون الدهر كله ولا يحدث لأحدهم ضرر ، وما كانت رسالة الإسلام لتتوقف لو أن الناس أُمِروا أن لا يأكلوا ولا يشربوا إلا ليلا….

لكن في المقابل دعونا نتصور ماذا لو لم يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!!!!! هل كان سيكون هناك دين إسمه الإسلام ؟ وكيف كنا سنكون لو لم يكن الإسلام ؟ وهل لا يستحق يوم فرق الله فيه بين الحق والباطل أن نحتفل به ونغرس حبه في أذهان النشء ؟ وكيف يستقيم عقلا أن يجعل المسلمون من يوم النحر يوم عيد ومن يوم الفطر يوم عيد ولا يكون لهم عيدا يوم ولد من حمل إليهم القرآن الكريم وأمرهم بالصوم والصلاة وأمرهم بالحج والزكاة !!!!! وهل لا يستحق علينا هذا اليوم أن نحتفل به ونحمد الله عليه ونشكره أن جاءنا بالإسلام وهدانا له….

الإحتفال بالمولد النبوي الشريف أمر اختلف حوله الفقهاء فمنهم من نهى عنه ومنهم من أمر به ومنهم من سكت والذين نهوا عنه أصٌَلوا الفتيا في موقف سياسي من دولة الفاطميين – أول دولة جعلت من هذا اليوم عيدا رسميا- والخلاف معها مجرد اجتهاد بشري والغالب أن به شحنة كبيرة من السياسة والسياسة شوهت المشهد الديني في بلاد المسلمين منذ أمد بعيد يوم كانت البيعة الأولى بسقيفة بني ساعدة وتم تسخير الدين للسياسة وتوظيف الفتيا لخدمة السلاطين وكل سلطان له فسطاط من الفقهاء يشرعن ما يصدر عنه من قول وفعل وينال منه في المقابل الحظوة والجاه والمال الوفير….

لم تعد للفقيه حرية في تكييف الفتيا مع واقع المسلمين ومصالحهم بل يصدرها تحت الطلب و لو تركت الأمور الخلافية في دائرة الإجتهاد الحر ما كان ليكون خلاف بين الناس وما بلغ الشٌَدٌُ مبلغه ، فمن شاء يحتفل بالمولد النبوي ومن شاء لا يحتفل به فقد توارث المسلمون أن خلاف “العلماء” رحمة وتوارثوا عن الشافعي قوله إن رأيه صواب يحتمل الخطإ ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب ……فلماذا لا يأخذ المانعون للإحتفال برأي الشافعي فيلتمسون احتمال أن يكون المحتفلون على صواب ؟ أم أنهم أرشد للمسلمين وأدرى من الإمام الشافعي بأمور الدين!!!! ولماذا يقولون إن خلاف العلماء رحمة حتى في أمور العبادات ويرفضون أن يكون رحمة في موضوع احتفال من عدمه !!!! والإحتفال في كل الأحوال ليس عبادة وعدم الإحتفال ليس عبادة هو الآخر لا في الأضحى ولا في الفطر ولا في غيرهما وما ليس عبادة لا يستحق أن يتناكف الناس حوله ….

يقبل جميع الفقهاء بتعدد القراءات رغم ما ينتج عن ذلك من اختلاف كبير في معاني النص القرآني وما يحصل من تعارض وتباين في بعض الأحيان وبعضهم يتفاخرون أنهم يقرأون القرآن بسبع أو ثمان مختلفات ومتباينات أحيانا ثم إذا بهؤلاء يقيمون الدنيا ولا يقعدونها حين يشير فقهاء آخرون بالإحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم……في المقرإ قبول بالإختلاف وفي المولد لا رأي غير رأي المانعين للإحتفال !!!!!

إن الحرام كل ما يلحق ضررا بالمسلم في صحته وعقيدته وكل ما ينتج عنه أذى للمسلمين في تماسكهم وتعاضدهم……والفتنة حرام وحرام ما يقرب إليها من قول وعمل ولا يلحق الإحتفال بهذا اليوم ضررا بمسلم ولا ينتج عنه أذى للدين……فأيهما يأتي حراما من يحتفلون به أم الذين أخرجوهم من الملة فتنافرت النفوس وتجافت القلوب فتكون الفتنة بين المسلمين !!!!!

كان الناس يحتفلون بيوم مولده ويوم العقيقة و يسهرون الليالي في مدحه والتذكير بصفاته الخَلقية والخُلقية فما الذي استجد اليوم ؟ وما علاقة الموقف الجديد من المولد النبوي بالتراجع الملحوظ والمتنامي لتعاطي المتون الأشعرية في بلادنا ؟ وهل هي السياسة فى لبوس الدين ؟

ولماذا يقبلون جميعا بقول مجتزإ من سياقه ومبتور المعنى قال به ابن عساكر الدمشقي أن “لحم “العلماء” مسموم…..” من حيث عدم التعرض لهم ثم لا يهاب هؤلاء أن ينهشوا أعراض “علماء” آخرين بسبب أنهم قالوا بالإحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم ؟ ومن هم “العلماء” ؟ ومتى وأين ورد في القرآن الكريم لفظ “العالم” في حق غير الله سبحانه وتعالى؟ وهل يحق لأي كان أن يتصف بصفة حصرية للجلالة؟

هل كان أبو بكر عالما وهل كان علاٌَمة ؟ أم أن الصفة لا تناسب مقامه !!! ومن يكون من الناس عالما إن لم يكن أبو بكر عالما ؟ صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أيام البعثة الأولى وهاجر معه وكان ثاني اثنين فكان خليفته كما كان الصحب الثلاثة من بعده…

ولماذا لم يكن مالك عالما ولم يكن علاٌَمة وكان إماما فقط كما كان صحبه الثلاثة من الأئمة ؟ لأن هؤلاء جميعا يعلمون من الدين ما لا يعلمه غيرهم ويعلمون أن الله وحده هو العالم وأنه وحده هو العلاٌَم….فهل اختلط على الناس عن قصد أو غير قصد مصطلح العالم بمصطلح الفقيه ؟ في الإسلام فقهاء وليس فيه علماء فالعالم صفة كمال وصف الله بها نفسه حصرا أما الفقيه فصفة يطلقها الناس على كل من تفقه في علوم المذهب كمن درس المختصر وما فيه من أحكام وكاتب المختصر بشر يخطئ ويصيب ولا يأخذ بالكتاب غير جمع قليل من المسلمين وأية فتيا لا تلزم غير من قال بها والذي أخذ بها والجميع خاضع لسلطة الأرض فقد حدٌَهم وعدٌَهم حاكم مملوكي لا يزيدون على الأربعة ومن خالف “الفرمان” ناله غضب السلطان وما أحدُُ منهم خالف “بيبرس”…..فكيف لفقيه أن يقول بفتيا مطلقة وكيف له أن يدعي الصواب الحصري لنفسه ولا يقبل أن يكون لصاحبه رأي مخالف صواب !!!!!

أزمة الدين في من يُفترض أن يكونوا طليعة المدافعين عنه فقد ابتدع قوم منهم “دين إبراهيم ” وتفتقت مواهبهم عن “معبد ابراهيمي” جمعوا فيه كنيسا وكنيسة ومسجدا برعاية السلطة والمال ولم يعد من فقيه -إلا القلة- يتحرك في دائرة دينية صرفة والكل يتحرك بدافع المصلحة الشخصية ومصلحة الجماعة وقد حان الوقت ليتسالم الناس ويقبل بعضهم بعضا ويبتعدوا عن هذه الخصومات العبثية التي يبذرون بها الفتنة بين المسلمين ولن ينفع أحدهم معية أمير ولا صحبة سلطان يوم يكون الحساب…….فليتقوا الله في أنفسهم وليتقوه في هذه الحشود من عامة المسلمين التي يسوقونها سوقا للفرقة والتشرذم والضياع…..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى