الدودة في التفاحة..فمن يكتب تاريخ عقلياتنا؟ / الولي ولد سيدي هيبه

“أعظم العقليات قادرة على أعظم الرذائل مثل قدرتها على أعظم الفضائل / رينيه ديكارت”

ثلاثة و خمسون من السنوات مرت عجافا على كيان الدولة المركزية المستقلة بالاسم الذي اختاره الاستعمار دون الأخذ برأي ساكنتها و بالحدود التي رسم في غفلة منهم بمعرفته و دقة استشرافه المستقبل.

و لقد كان الاستعمار الفرنسي نتيجة إمعانه في تطوير كل ما من شأنه أن يبقي مستعمراته تحت ناظريه و في قبضته سباقا إلى الإلمام بقواعد “الاستشراف” قبل أن يصبح علما أو على الأقل “نظرية” معطيات الحاضر للتخطيط و الإعداد المنطقي الممنهج للقادم من أحوال الإنسانية المتحركة باستمرار و بسرعة في فلك زمن لا وجود له من منظور علم الفيزياء التحليلي المجرد، باعتبار أن حلقات النشاط الكوني، و منه البشري، مترابطة بالموجود المتحرك و الزائل المتجدد.

نصف قرن يزيد ثلاثا من الاعوام شكل – بما اكتنف خلالها مسار البلد المضطرب من مخاض متكرر و إجهاض مُتَعَقِب بالمرصاد – عصرا بحد ذاته يمكن بل و يجب الخوض فيه بما جمع من تراكمات أسباب و تداعيات زخم الأوضاع المتلاحقة إلى حد القائم منها. عصر ارتبط بهذا الاستقلال الذي لم يغير في واقع الامر من العقلية السائدة على افتراض توحيد تشعباتها بما كان لزاما أن يرتبط باشتراطات و قواعد و متطلبات ذاك الاستقلال.

إن الحياة في هذه البلاد، بكل أسمائها الحائرة و صفاتها المتعددة و ألوانها المتداخلة، تسير وفق عقليات أهلها لا وفق مقومات الدولة و إن نتائج أعمالهم تحصد بمزاجهم لا بمنطق الحساب الكرتيزي.

صحيح أن الموريتانيين يتحركون بحرية مطلقة في فضائهم الواسع ويمارسون كل أنشطة الحياة في انسجام مع روح هذه العقلية بما يميزها من فوضى وقفز على القوانين دينية مؤولة على وجه الارضاء و وضعية مكفرة على وجه الافلات دون من ينهي ولا من يردع إذ النهي و الردع في نفس الدرجة من الضعف على خلفية الغياب البنيوي لمقومات الضبط والتقنين:

– البيع والشراء يتمان بمزاج الأفراد حسب معطيات يومهم و بمزاجهم بعيدا عن إملائات السوق واشتراطاته،

– و القضاء والاحتكام بما يراه المتخاصمون والمشتكون و كثير من القضاة الشرعيين و الوضعيين، و مهما قيد لذلك من إصابة أو إجحاف،

ويستوي في كل ذلك الضعيف والقوي والمرأة والرجل والطفل والمواطن والأجنبي و الزائر و الحكومي و المحكوم و العسكري و المدني و الغني و الفقير و البائع و المشتري و المغبون و المبذر… و إذ بذاك تجد:

– الظلم تحت كل جناح و إن قل ريشه و ضعف ساقه،

– و النرجسية والكبر و الرياء تستوطن كل النفوس،

– و شح الوطنية في الوجدان،

– و غياب مفهوم الدولة في السلوك و الممارسة،

– و بعد المدنية في التعامل مع مقتضيات التحضر و الحداثة؛

– و القفز اللاشعوري و المتعمد على مقومات و ثوابث البلد،

– و إحداث الخدوش الغائرة فيما تبقى من المنظومة الأخلاقية للمجتمع بما تمليه الحاجة الذاتية الآنية بعيدا عن وخز الضمير أو توجيهه.

هو الحال على حقيقته في بحر الجحود والنكران و الغفلة و النسيان و النفاق و التملق على خلفية من صامت الغليان الذي ما يلبث، إن ظل به الأمد على ما هو عليه من التمادي و التجاوز، حتى ينقلب إلى ما ليس في الحسبان من تدهور الأركان و السقوط في درك العصيان.

و متى ما أمعنا النظر في هذه الفوضى العارمة وجدنا فيها باندهاش ما يتبدى من غريب العدل والقبول والرضا بالأحوال بل و ما يتكشف عنه الأمر من تفاعل و تكيف الجميع مع مجريات الوضع و كأن الأقدار قدرت و دبرت و قضت وسيرت بما هو جار. إلا أن الأمر بعيد في حقيقة منتهاه و بالنتيجة المنطقية التي لا محالة يصل إليها عما يصفون.. نتيجة بقدر و حجم الواقع المبني على نتاج عقليات مريضة مشوبة في جمود كلسي بالكبر و الظلم و التعدي على ضوابط الشرع الإسلامي القيمة الخاتمة الموغلة في العدل و الإحسان و المساواة.

و إذ العقليات هي جوهر تاريخ الشعوب تسير وفق تشكلها و مضمونها و محكمها فإن العوامل المحيطة بها و المستجدات التي تمسها في الصميم هي التي تجعلها تتكيف مع مقتضيات هذه المستجدات بما يوفر لهذا المسار إذا دينامكية الاستمرارية مع أنفاس جديدة ملائمة للأحوال المتطورة والمتحولة و المتجددة، فقد كان لزاما أن تبرز على هامش أي جمود تريده القوى الغاشمة و الرافضة لسريان سنة تبديل الأوضاع و تأخذ على عاتقها مسؤولية الوقوف بحزم في وجه هذا التيار النكوصي الخطير.

و معلوم أن للعقليات و أحوالها في مجمل أو جه مادة التاريخ، المتشعبة بتشعب روافده، تاريخ مختص يعنى بمحطات تطورها و أدوارها في صيرورة مسارات الأمم، مما جعل “تاريخ العقليات” مصطلحا و هو بحسب التعريف العلمي، عبارة عن ترجمة اقتراضية من المصطلح باللغة الفرنسية histoire des mentalités والذي يمكن ترجمته كذلك على أنه تاريخ “الاتجاه” أو “تاريخ الرؤية الكونية” الذي هو مصطلح يشير إلى طريقة تسجيل التاريخ. و يركز تاريخ العقليات ليس فقط على الحروب والرجال العظام، التي كانت موضوعًا لأغلب الكتابات التاريخية الأوروبية منذ العصور القديمة، ولكن على العقليات الأوسع نطاقًا للمجموعات الاجتماعية والثقافية القديمة. كما يمكن كذلك النظر إلى المصطلح على أنه يساوي، أو أنه اسم مشمول للتاريخ الثقافي.

ثم إن تاريخ العقليات لا يتحدد فقط بالاحتكاك مع العلوم الإنسانية الأخرى وبزوغ حقل تاريخي جديد بل يشكل أيضا بؤرة لمستلزمات متعارضة مجبرة على الحوار بفعل الدينامكية الخاصة بالبحث التاريخي الراهن الذي يتموضع عند نقطة التقاء الفردي والجماعي الزمن الطويل و اليومي، اللاوعي والإرادي البنيوي والطرفي المهمش والعام كما يعالج مستوى أساسيا: اليومي والآلي، أي ما ينفلت من الأفراد ويكشف عن المضمون اللاشخصي لتفكيرهم. إنه المستوى الذي يلتقي فيه القائد و وجنوده و الاقطاعي و فلاحيه، و السيد و وخدمه. إن ما يجمع تاريخ العقليات وتاريخ الأفكار هو نفسه الذي يربط بين تاريخ الثقافة المادية والتاريخ الاقتصادي و ذاك مبحث آخر قد تترتب عن الخوض فيه رفع بعض إشكلات تخلفنا و وقوفنا على شفى انفجار مجتمعي وشيك .

و هل بوسعنا من منطلق هذا المفهوم الشامل، بهذا التعريف العلمي لكل عقليات أو بالأحرى ثقافات العالم، أن نظل بعيدين عن التأريخ لعقلياتنا و استخلاص الدروس الضرورية من مساراتها عبر الحقب و بالتالي إرساء قواعد العقلية المشتركة الملحة حول أهم القواسم المتبادلة لعقلياتنا المتعددة المستنهضة للهمم و التي يستدعيها العصر و تتطلبها ضرورة مسايرة المرحلة وفقا للمثل)اذا كنت مصرا على البحث عن أشجار مفردة فلن ترى الغابة أبدا(؟

قد يظن المغررون بهدوء الأحوال النسبي السائد في هذا البلد على علاته و التي تفقأ مع ذلك العيون المتبصرة و استمرار العمل بمقتضى سلبيات العقليات الموروثة ببلادنا أن الأمور عصية على التحول و أن العقليات هي من جرت في عكس الاتجاه الطبيعي لصيرورة التحول وفق و إلى حيث يريدون لانفلاتها المطلق من سنة التناوب و التغيير. لا سبيل إلى ذلك مهما طال الزمن و مهما بدت الأمور مساعدة على ذلك. رويدهم فإن وراء صحو الفضاء، الذي يبدو لهم، عصف الرياح و قصف الرعود و إن بوادر انتكاس عقليات الاستبداد الذهني و المعتقدي و التسلطي القمعي بدأت تلوح في الأفق و إن حملت معها من المغلطات النفسية ما جعل الحابل يختلط بالنابل و تتراءى للذين كانوا مستضعفين أن في الندية و لو خاطئة كل أسباب المساواة و تفيء ظلال العز الذي كان محرما، فيما انغمس من بدأ يستشعر أفول الجاه و اضمحلال المكانة في وضيع العمل و منحط التفكير للوصول إلى غايات يحسب أنها تعوضه الرفعة الآفلة. و قد أحدثت هذه الحالة الجديدة المستمدة قوتها من ضعف النخبة و خور عزائم أهلها و تقاعسهم إن لم نقل عجزهم عن أداء واجبهم وضعا بات مقلقا لأن وعي القواعد العريضة من شعبنا التي كان دورها ينحسر فقط في رفع رأس الهرم و حمله على أكتافها، بنفس عقلية هؤلاء المتربعين على القمة و في جهل تام لمضامين الدين الحنيف و مؤدى رسالته السامية التي حرفت بعض مقاصدها عن وجهتها الانسانية العادلة في توزيع الفضل المعنوي و المادي و الروحي على أسس العمل الصالح المضمخ بالتقوى، وعي بات إذا شاملا و جامحا لا يمكن لجمه إلا بإحقاق الحق كاملا لأهله. و لقد باتت مسألة تغيير العقليات ضرورة ملحة في ظل ما كرست السياسية في ثوبها البعيد عن اللياقة الديمقراطية من اللعب على مرتكزات قوالب الماضي الرجعي و في حل من جوهر الاسلام المُوحِد، في سياق ترابط حلقات تاريخ أهل هذه البلاد المتفاعل بحتمية الواقع ضمن محتواه و وديناميكيته كما هي مسألة حتمية من أجل التغيير المنشود وبناء الغد الأفضل لكل مكونات الشعب و في كل جهات الوطن ونحت الثقافة الديمقراطية في الذاكرة الجمعوية التي لم تعد قابلة الآن للاستمرار في واقع الاستبداد العقلي وطغيان المفاهيم الرجعية و استمرار فرض هذا الأمر الواقع النتن على البلاد في عصر الانفتاح و الوعي الإيجابي.

و إنه لم يعد بد من مواجهة التيار النكوصي المسافر عبر الحقب و الذي ما يزال مهيمنا على العقول الهشة، ولا مناص من القضاء على الأمية والجهل بنشر التعليم الصحيح والثقافة والوعي بين الناشئة في كل نسيج الوطن بلا استثناء لجعلها أجيالا مستقبلية متفتحة على ثقافة شعوب الأرض قاطبة. كما يجب السعي الحثيث إلى بناء جسور الحوار مع الذوات و مع الآخرين وربط العلاقات المثمرة ثقافيا واقتصاديا وزرع روح التسامح والتفاهم في وجدان يكون مشتركا والقضاء على الكراهية والأحقاد الموروثة عن الماضي المظلم خدمة للسلام وتوحيد الصف و ضمان قيام زمن التصالح و العدل و البناء.

و إذا ما كانت ثمة إرادة حقيقية، نابعة من إحساس صادق بخطورة الوضع و حياده عن جادة الصواب لإحداث تغيير و الامساك ببعض أسباب التوازن والبقاء فإنه لا بد أولا من القضاء على كل المفاهيم والمعايير القديمة وتبديل رؤية الناس للحياة وتجديدها ولو بشكل تدريجي .

ولتحقيق هذا الهدف يتحتم على أصحاب القرار و قادة الأحزاب السياسية و أهل المجتمع المدني و المثقفين في أول الصف أن يضعوا سياسات رشيدة و يبتدعوا برامج واضحة الأهداف و مخططات مدروسة لاستحداث فضاء جديد للناشئة بصفتها مصدرا ومنبعا للثقافة الحديثة والمستقبل الجديد للأجيال لقادم الأيام. أجيالا مختلفة كليا عن الحالية و كل ذلك على خلفية القضاء على الفاقة والجهل والتخلف وإبادة طرق التفكير البدائي والنظرة المتخلفة للحياة والوجود بصفة عامة وحاسمة و قطيعة مع كل أوجه الماضي البائسة عسى الله القدير أن يبدل بذلك أحوال الأمة مصداقا لقوله و قوله الحق “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. صدق الله العظيم] الرعد : 11 [“.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى