مذكرات حسن ولد مختار / الويــــــــل يـــا زغــومــــة !!
الأستاذ: محمد ولد امين:
الزمان أنفو _ سقطت مغشيا علىّ بفعل الحر وريح “اريفي” وهو ريح سموم عاتية تزوجت بسياط شمس كيفة المنسكبة على رأسي كشلال من لهيب..وكدت أفارق الحياة في تلك السقطة
السريعة وقد تضرج منها وجهي بالدم وكاد أنفي أن يتهشم..وتركت في خدي الأيمن ندبة دائرية الشكل كأنها خاتم الحزن وتوقيعه الأوحد. حين سقطت كانت تغلي وتتفاحش بداخلي مراجل مستعرة من مرارة الغدر تكفي لوحدها كسلاح للدمار الشامل وقد تفاعلت تلك المراجل المغتلية مع الشمس وتداخلت ريح الهجر مع سعير الهاجرة فنزلت بي المصيبة الجلل. انها نيران الريبة ومواقد الخوف على قصور الرمل من ناسف الموج..الخوف من لظى سهلنا القاتل ولكم كنت في قرارة نفسي أخشى أن لا تعود جميلة لذا كنت أستدعي الموت محترقا مما بداخلى ومما بخارجي من نيران في آن واحد وليس هناك تشخيص معقول آخر لما ألم بي. التقطتني سيارة عابرة وحملني أصحابها برفق وأنا مغمي على إلى المستشفى الفرنسي القديم وكان من حسن حظي أن بعثة طبية صينية قد حطت رحالها للتو في المكان وكانت بحوزتها أمصال وأدوية ومعدات وحماس كبير وشيء من إنسانية. شخّص الطبيب الموريتاني في البداية حالتي كضربة شمس أيقظت فيروس الملاريا النائم في دماء كل أهل كيفة ..ثم في اليوم الثاني وبعد مراقبة درجة حرارتي اقتنع الجميع أنني مصاب بالحمي الشوكية ..وفي اليوم الثالث اكتشف الصينيون أن حالتي تفاقمت وأنها التهاب سحايا الدماغ والملاريا معا. وأخذت الأحوال تتعقد على مدى أسبوع كامل ثم جاءت طبيبة صينية بفكرة ذكية وعالجتني بطرق بسيطة وبدائية أهمها وضع الثلج على رأسي الملتهب ولمدة أيام حتى انخفضت الحرارة وعاد إلىّ شيء من الوعي والإدراك. خلال أسبوع غيبوبتي استطاع إمام الجديدة إقناع والدتي – وهي امرأة ساذجة تخشى على حياة ابنها الوحيد- بأن ما أتعرض له من مرض ليس سوى حالة سحر معروفة امتصت فيها ساحرة خبيثة دمائي وأن لا حل لمشكلتي إلا بأن تعيد لي تلك الساحرة ما سرقت من صحتي. وراح هذا الإمام النخر,لا أدري لأي سبب, يزعم بل ويقسم أنها فعائل زغومة وهي عجوز فقيرة تتسقط الطعام من موائدنا من الحين للآخر وتنصب خيمتها الحقيرة غير بعيد من فناء المدرسة..وهي أول إنسان التقط الرفيق شوينلاي من محنتة الكبرى وهو بعد في يومه الأول في الحياة أخذته من الشارع وظلت تتقاسمه مع عدد كبير من نساء القديمة وكان يعتبرها بمثابة أمه أو جدته أو خالته أو هن جميعا معا. ذهب إمام الجديدة وأمي وبعض صبية القرية بعيدا..وأذاقوها من مر العذاب وصنوفه الكثير وألزموها بالضرب والتنكيل على إعادة الدم الذي امتصته بسحر الشياطين وكيد الأبالسة..!
حرق الصبية خيمتها ومزقوا ملابسها وكانت كلما صاحت صاحوا وكلما كشرت عن أسنانها المكسرة الصفراء كشروا وتوعدوا ..كل ذلك حدث والإمام وأمي جالسين أمامها بالوصيد يقولان لها بين الترجي والترهيب: أعيدي دماء الفتى وإلا فسترين أشياء لم تخطر لك على بال. عيون زغومة الحمراء بفعل الرمد الحبيبي وتجاعيدها الشائكة وملابسها الرثة والعصا التي تتوكأ عليها وبؤسها المرير جعل منها انموذجا مثاليا للساحرة الإفريقية الموجودة في كل قرية ! تلك الساحرة التي لو لم توجد لكان لزاما أن تخترع لكي يتمتم الناس بالتعاويذ كلما طلّت وبآية الكرسي عندما تغادر..ولكي يظل لنوع إمام الجديدة نفع وعمل ودخل ومهابة. زغومة في الأصل “صانعة” منبوذة وخائبة ومصابة بلوثة عقلية أتت كيفة منذ أيام الفرنسيين مستجدية رحمتهم ولاذت بهم ممن اتهموها في بوادي الظلمات ودون دليل بإتيان السحر الأعظم وامتصاص دماء الناس وقتلهم. وقد لقت من حماية فرنسا ما جعلها تبني خيمة حقيرة نسجتها من الأسمال البالية ونصبتها قرب المدرسة وظلت تتسقط الطعام والخرق البالية وقطع النقد الصغيرة من المارة ولها في ذلك طرق شتى من أظرفها تهديد السذج وتخويفهم بالسحر والأوهام فيعطوها مما تريد حقنا لدمائهم وذودا عنها..لقد استفادت من ظلم الناس لها كي تبقى حية بائسة كمعزة سائبة في أزقة كيفة الحزينة. بينما كان الصبية وأمي والإمام في تلك الأحوال أخطر شوينلاي الأستاذ عبد الله بالأمر وأعلم الشيخ عبد المجيد به فجاءا يلهثان من طول الجري إلى العجوز المحاصرة وراحا يسبان الإمام ويتهمانه بالافك وبالشروع في القتل ويحاولان إنقاذ المسكينة من حلقة الصبية الطائشين. ثم جاء رجال البوليس يتقدمهم مفوض الشرطة وقد كان خرافيا هو الآخر إلى حد كبير لكنه وجد نفسه محصورا بين عالمين وإمامين ولكل منهم أنصار فقد استنفر شوينلاي كل صبية الكادحين حول الأستاذ عبد الله كحرس حديدي وكاد الأمر أن ينفلت ويتحول إلى فتنة طائفية فأمر مفوض الشرطة باعتقال زغومة واستدعى الإمامين إلى مكتب البوليس. هناك في مكتب البوليس دار جدل فقهي ولاهوتي كبير حول وجود هذا النوع من السحر من عدمه وهل من الممكن أن يمتص إنسان دماء آخر بواسطة طرق غير مرئية وأصر إمام الجديدة على رأيه وأصر إمام القديمة على تفنيده وبينهما جثم رجال الشرطة في حيرة وهيمان لا يعرفون ماذا عليهم فعله. لتبديد الحيرة وإنهاء الشكوك قال الشيخ عبد المجيد إن البينة على المدعي واليمين على من أنكر وأرسل يده وأمسك بالمصحف الموجود على مكتب المفوض وأقسم عليه بصوت مسموع وواضح أن زغومة بريئة من دعاوى إمام الجديدة وأنها مخلوقة مسالمة لا تمارس أي سحر. استفز ذلك القسم المفاجئ غريمه وأذهل رجال الشرطة إذ يعتبر أداء اليمين على المصحف أمر لا يجرؤ عليه كل الناس وقد اجمعوا على تجنبه لأنه يجر الويلات على صاحبه حتى ولو كانت اليمين صادقة ويحمله إلى نيران الدنيا ويكويه ببلائاتها ويصليه حتما في سقر بالآخرة إن كانت يمينه كاذبة أو مستهزئة. قال إمام الجديدة في دعواه مستجيبا للتحدي الذي خلفه قسم عبد المجيد إن بإمكانه أن يثبت أن زغومة ساحرة نجسة وخبيثة نهارا جهارا وذلك بحضور كل الناس إن شاءوا وان بحوزته مسحوقا لو شربته لأعادت للطفل الممصوص دماءه وأنه يحفظ من التعاويذ ما يكفي لإرجاعها القهقرى إلى حالتها الأصلية أمام كل الناس وهي حالة غير آدمية فقد كان سماحة إمام الجديدة يرجح أن أصل زغومة يعود الى قردة البابون المنتشرة بكثرة في أحراش العصابة وجبالها وهو النوع الذي يتقمصه الجن –حسب زعمه- فتخرج منه كائنات بأشكال آدمية تقتات على دماء النبلاء وأبنائهم الشاردين مثلي ممن لايتحصننون والعياذ بالله بالقرآن ولا بالأدعية والرقى الثابتة عن رسول الله.!! بالغ في محاججته مستندا على آي الله في غير مواضعه وكان كلما قاطعه الشيخ عبد المجيد أزبد وأرعد..وهدد وأوعد…واستحثت مكابرته مفوض البوليس وأخذه الفضول أيما مأخد. بعد نقاشات مستفيضة اتفق الطرفان برعاية من مفوض الشرطة أن تحصل المواجهة بين المدعي والمتهمة في فناء الشرطة وبحضور العامة وان عليه أن يثبت دعواه وإلا ستلاحقه تهمة الاعتداء والتشهير وحددت الساعة الخامسة من عصر نفس اليوم لتلك المواجهة العجيبة. في الساعة الخامسة تنادت كيفة إلى المفوضية وبأمر من المفوض ألزم أنصار الإمام من الاصطفاف على اليمين وألزم أنصار الشيخ عبد المجيد من الاصطفاف على الشمال ووقف جنود الشرطة بين الفريقين وخرج إمام الجديدة القبيح الشكل من مكتب المفوض ثم ألقيت بين يديه المسكينة زغومة وهي مقيدة اليدين ..
ألقيت بعنف في الحلبة فتوقفت الأنفاس في الحلوق واشرأبت الأعناق. أخذ الإمام يدور عليها وهو يتمتم ويبصق على رأسها بين الفينة و الأخرى وكان في دورانه حولها شيء يشبه توثب الأسد قبل الانقضاض على الفريسة وشيء من سطوة النمور وتحينها للمهاجمة والافتراس..كان كلما اقترب منها احتبست الأنفاس أكثر وأجهش شوينلاي في البكاء وارتفع صوته في تمزق مرير محاولا التملص من رجال الشرطة الممسكين به إلى حد كاد يقتله فيه الاختناق ويجهز عليه فيه الألم. ثم توقف الإمام لمدة دقيقة وأشار إلى أحد رجال الشرطة بيده فحمل إليه قدحا من ماء أمسكه بقوة وقرأ عليه وعيونه مغمضة في تبتل زائف وتفل من ريقه ما قرأ في القدح ثم أخرج قنينة من جيب دراعته ونفث كل المسحوق الموجود داخل القنينة في القدح وحرك الماء بإصبعه ثم مده لنفس الشرطي الذي ناوله للعجوز البائسة وأمرها بشربه فألقت نظرة مستغيثة صوب الأستاذ عبد الله وأخرى نحو الشيخ عبد المجيد فأومآ لها بالإيجاب فشربت من القدح جرعة واحدة وقد كانت مرة المذاق فبصقتها بعصبية وهنا صاح الإمام قائلا : لا لا هذا غش.. ومراوغة.. وخداع.. فتدخل المفوض فأمرها وعيونه تشع بسطوة مخيفة فازدردت كل ما في القدح جرعة واحدة.. وبعد لحظات سقطت تتلوى وبدأت تتقيأ أشياء وأشياء وهنا كاد الحضور أن يتصادم وارتفع اللغط بعيدا فقد أخذ الشيخ عبد المجيد يرفع صوته على الجميع متهما غريمه بالخداع والتدجيل والكذب قائلا : يا مفتري ها هي أمامنا مازالت على شكل إنسان يا كذاب يا كافر…ووراءه تحشدت القديمة مستذكرة آلامها السحيقة وذكريات كل فرد منها. ظل إمام الجديدة مقتنعا بأن زغومة لو لم تتعمد تقيأ المسحوق لتحولت إلى حالتها الأصلية ولتمكن كل الناس من رؤيتها كقردة لكنه خبث الشياطين ودهاءهم ولكي يستميل الناس ويقنعهم قال اذهبوا إلى المستشفى وسنرى حالة حسن ولد مختار وستجدونه قد استعاد العافية و ستجدون دماءه عادت إليه بفضل المسحوق الذي لو استقر بما فيه الكفاية في جوف هذه الابليسة الخطرة لعادت أدراجها إلى ما كانته قبل التقمص..لعادت الى أصلها الحقيقي قردة خاسئة. هكذا تدافعت الحشود نحوي وأنا في المستشفى ولم يستطع أحد من الأطباء منع كل سكان كيفة من الطواف بسريري وقد كنت استعدت شيئا من وعي وقليلا من صحة ولم أفهم في البدء حالة الشعبية الزائدة التي غمرتني هكذا ونقلتني بسرعة إلى مواقع الصدارة حتى أصبحت أيقونة مقدسة اذ كنت سرحانا أفكر بجميلة وبالأيام الخوالي وكان الزوار يبتسمون ومنهم من يذكر خير الإمام وخبث زغومة ولم أفهم شيئا مما سمعت فقد كنت مشوشا وضعيفا جدا ومنهكا إلى ابعد الحدود. ثم صار كل زائر يريد ملامستي ومحادثتي ليتأكد بنفسه من عودة الوعي وراح بعض الناس يبالغ ويعطي لإمام الجديدة مواهب إلهية خارقة وراح آخرون يسبونه ويتحرشون به وكادت حرب أهلية أن تحتدم بين الطرفين في غرفة الحجز وكان لغط المتجادلين حولي قويا وسريعا يقرع أذني كل يوم وهو إيقاع متتابع ومتصاعد يشبه في تهدجه وعظمته قرعا متكررا لطبول الحروب القبلية البدائية في سهولنا الجرداء..تلك الحروب التي كثيرا ما كان أصلها نقاشات عقيمة بين فقهاء متنافرين لا يحرم أحدهم أمرا إلا وأحله الثاني..
حروب التسابق الأهوج والتزاحم الأرعن على ماء بئر أو غدير في أوقات العطن. علم الوالي بالأمر وتوجس من تفاقم الوضعية الأمنية جراءه فاستدعى الإمام القبيح والكذاب واستدعى زغومة وأمرهما كل على حدة بالانصياع لقرار ارتجله لأسباب قاهرة وخارجة عن إرادته وهو القرار القاضي بإلزامهما على المغادرة القسرية لكيفة مدة عام كامل حتى لا يتقاتل الناس وتنشب فتنة يصعب إطفاءها . هكذا تم ترحيل زغومة إلى نواكشوط بعناية مفرزة كاملة من الحرس الوطني. لقد اختارت زغومة نواكشوط كي تنعم بألطاف مزابلها الوافرة وبخيرات قماماتها العامرة والكثيرة. وعاد الإمام أدراجه إلى أرض البداية والبداوة معزّزا مكرما بين ذويه وأتباعه وقيل لنا لاحقا أنه وافاه الأجل المحتوم بعد ذلك بشهور قليلة وهو يجاهد جنيا عصيا يسكن رأس غلام مجنون حيث ضربه المجنون بطرقة منجل فأرداه قتيلا ..مات بقرعة منجل! ودفن في مقبرة ميل ميل ليزعج الأولياء والصالحين..كما أزعج عبدالله أبن أبي مقابر يثرب. بوفاته الباكرة استراح إمام الجديدة المتسلل إلينا دوما من شقوق النسيان وزواياه المظلمة واسترحنا من كثير عدوانه ومتكرر أباطيله. لم أكن الوحيد الذي كابد التهاب السحايا في كيفة ساعتها ولا الوحيد الذي استيقظت فيه الملاريا بعد طول نوم فقد التحق بي وبسرعة عدد لا بأس به من الناس وامتلئت الغرف ثم الدهاليز وهذا ما دفع أطباء المستشفى إلى إطلاق سراحي وأنا لم أتماثل بعد تماما للشفاء. الصيف في كيفة يحرق كل شيء , الصيف ذلك العام كان ساخنا ومحموما ليلا ونهارا وليس من المبالغة القول أن كيفة وجل موريتانيا أصيبت في ذلك الصيف بالتهاب السحايا وتكدم الدماغ والتهاب العنق والحمى الشوكية والصفراء والحمراء وكل الأسقام المنتمية لعائلة الحرارة والمنحدرة كسلالة خبيثة من شجرة النار . أصبح المشي في كيفة من الضحى وحتى مغيب الشمس سببا مباشرا للموت..وصار التحرك مساء سببا جديدا للمرض والحمى والسهر…كأن الطبيعة كلفت بمعاقبة كيفة وأهلها على معاصيهم الكثيرة والمتزايدة وحبسهم في بيوتهم التي تحولت إلى سجون كتيمة و تكفل “اريفي” المرعب بدور زبانية جهنم وأخذ يقتل القطط في الشوارع و”العرارم” في الأركان ويتفنن بتعذيب الناس أينما كانوا يقظة ومناما. بعد أسابيع طويلة من الانتظار تحضر الناس لموسم الأمطار وتخيلوا قرب الفرج لكن الأمطار لم تهطل، لم تهطل قطرة واحدة من سماء كيفة. في كل مرة تتلبد الغيوم في السماء وتشرئب الأعناق وتغلق النوافذ والأبواب وتنطلق ريح شرقية محملة بالأتربة والغبار الأصفر ريح مستهترة بلهاء..تعبث بالناس وتوقعاتهم.. كل مرة زوابع غريبة لا تعرف الرحمة هيمنت على المكان ومنعت الرؤية لساعات مريرة وانصرعت أوراق الشجر وانهزت الأسقف وتراقصت الصفائح ثم تنقشع الريح تاركة الناس يتسابقون إلى الماء لإزالة الغبار من الشعر وتلافيف الآذان وفوهات المناخر. أخرج الناس الصدقات وتطهروا كثيرا وتضرعوا في صلوات استسقاء منكسرة وحزينة ولم تنزل قطرة ماء واحدة..ثم انتشرت في الطرقات خيم البدو المنكوبين ممن أضحوا فقراء فجأة فأتونا يلتمسون الرحمة من ظلال المدينة وازدادت مشاهد الفقر والبؤس على ما كانت عليه. أخذت خيمهم تتمدد وتحتل الفراغات والميادين ثم تكاثر عددهم كل أسبوع ونزلت قبائل وقبائل وبدأت تتشكل أحياء وأحزمة حول البلدة الأصلية. وطالت الطوابير البشرية أمام مخزن الهلال الأحمر وأمام المستوصف والمستشفى وتزاحم الناس كل يوم أكثر..ولما جاءت مساعدات غذائية للحاكم كادت الحرب أن تشتعل أمام مكتبه هناك حيث يتم توزيع بطاقات التموين الزهيدة.
لقد انهار القطاع الرعوي تماما وهو القطاع الذي تمرس عليه واقتات منه هؤلاء البدو منذ آلاف السنين وهم حتى تلك الساعة جل سكان البلاد. بفعل القحط وقلة الأمطار المتتابع سنة بعد سنة ظل البدو يتناقصون وازداد الفقر في البلدات والمدن ولما جاء ذلك الصيف الحارق وتواصل واستفحل انتشرت في الدواب أمراض وطواعين لم يستطع والدي أمامها القيام بشيء وأتذكر أن ما حيّره بشدة هو مرض نفسي عجيب انتاب الأبقار والماعز وقضى على جلها ويتلخص في أكلها التراب وإدمانه حتى الموت..نوع من انتحار الحيوانات الطوعي جراء قسوة الطبيعة. ثم سرعان ما انتقل المرض العجيب الى الناس أصبحنا نرى الصبية والنساء يحاكون الحيوانات المجنونة بأكل الحصى ! وكثرت القصص حول انواعه وعيناته وتسابق الناس في المقارنة وكانت جاراتي تفضلن حصى “آرقاو” الذي يستخرج عند حفر الآبار ومن أعماق سحيقة وهكذا تحولت ورشات حفر الآبار الى مطاعم شعبية تتنافس عليها السيدات والعوانس. علاقة الرعاة بمواشيهم ليست علاقة مادية وحسب بل هي من العلاقات شبه العائلية فغالبا ما تتمخض عنها عواطف جياشة وذكريات زاخرة وكثيرا ما تمتعت شخصيا بسماع البدو يتغزلون في حيواناتهم ويتغنون بها وكان خوفهم عليها من النفوق يشبه الخوف على حياة الآدميين. حتى في سوق الحيوانات لاحظت وعلى مدار السنين عاطفتهم تلك.. لا شيء أجمل من رؤية الواحد منهم وهو يتردد في بيع حيواناته ويتنكر لبيعة ابرمها للتو بحضور شهود ويتملص ويرفض أخذ الثمن ..إنهم
إنهم ناس بسطاء يستصعبون مفارقة تلك الكائنات الآسرة وكثيرا ما ترى الواحد منهم وله من القطعان في البراري ما لايحصى ولا يعد يقتّر على نفسه وعياله في المأكل والملبس ولا يقتر على مواشيه في الدواء والرعاية. هكذا مع تأخر المطر بدأت أرى حجم الكارثة في وجوه الناس وكنا نتسلى بالتصفير في أعقاب البدو ومحاكاة صوت الرعد الذي ينتظرونه بقوة وبإلحاح..حتى رأيت بأم عيني مأساة الحاج محمد وهو من مريدي الشيخ عبد المجيد. رأيته في تلك الرحلة التي اصطحبني فيها أبي لتغيير الجو خارج كيفة وهي رحلة تفقد روتينية تشبه رحلة البدء التي ولدت فيها ..! استوقفنا ونحن على بعد خمس كيلومترات من كيفة رجل وقور لكنه شبه عاري وكان والدي يعرفه وكان يشبه الشيخ في سحنته وقسماته..لقد ظن المسكين فور سماعه صوت السيارة من بعيد أنها الرعود فتخلص من ثيابه خوفا من البلل وما خوف الغريق إلا صنو خوف العطشان! كان جميلا ومشوشا ..وكانت نظراته زائغة ومتوسلة يفضل البحلقة في السماء لا يرد التحية ولا يبتسم يمشي بفرد السروال دون قميص ودون دراعة حاسر الرأس يمشي وقد اعتصره الألم فقد ماتت كل أبقاره وسمع زئير المحرك فظن المطر حل به ! فسأل والدي دون تحية ولا مقدمات قائلا – يا دكتور حيواناتي لم تمت لكنها تحتضر مجرد نوم فهل اذا أتى المطر ستعود وتستيقظ؟ – -يا شيخ توكل على الله ! وركب معنا الحاج محمد وقادنا الى مكان تناثرت فيه الجيف يرقص حولها الذباب وقد انتفخت بطونها كالقرب المليئة.. انه منظر كريه حقا ومؤلم وظل الحاج محمد يصر على أنها بقراته لم تمت بل مجرد نائمة ! وتخلصنا منه بصعوبة بعد أن وعدناه بإرسال الدواء الذي سيعيد الحياة لمن ناموا ! حالة من الجنون الوبائي الشامل انتشرت في كل مكان ..ولم يكن ينقصنا إلا اندلاع تلك الحرب المريرة لتأخذ الأحزان أعتى أشكالها وأبشعها وقد كان الراديو من السيارة ونحن في طريق العودة يقرع طبول حرب وشيكة وكانت نبرة المذيع مليئة بالتحدي والصولة..تقول ان الصحراء لنا ولا لغيرنا وتتوعد من يقف في طريق الوحدة ومن يرفض المشاركة في دحر المستعمر الاسباني بالويل وبعظائم الأمور ..وكنت في داخلي أتصور ان ظلم الناس لزغومة كان السبب في كل هذه الويلات التي تتالت علينا كلعنات الفراعنة !