حوارخاص مع الإعلامي التونسي الصافي سعيد
حاوره عبده حقي ـــ الملكية في المغرب دائما وكما يقول عبد الله العروي هي ملكية ذكية بيدها المبادرة . ـــ المغرب ينتج ملوكا جبابرة وصوامع عظيمة ولكن ليس هذا هو المغرب فقط. المغرب ينتج كذلك نخبا أكثرعقلانية مما نراه في بلدان أخرى هو ركن أساسي في هذه الأمة العربية وهو شعب ناشط وحركي وديناميكي. ـــ أنا مطمئن للمغرب لأن لديه تجربة سياسية وتراث سياسي أفضل من جميع البلدان العربية . تقديم : كيف إستطاع الصحافي التونسي الصافي سعيد أن ينحث لشخصيته كاريزما إعلامية متفردة ونادرة جدا لاترضى إلا بالتحليق بأجنحة المغامرة والحوم عاليا حول مراكزالقرارالعربي . وحين فكرنا في تشريح جسد الأمة العربية ومايعتمل فيه من ثورات وعصيان مدني بدءا من سيدي بوزيد إلى مجزرة الحولة وحكم المؤبد على حسني مبارك لم نجد صحافيا أقرب إلى نيران المدافع وصخب الشوارع وأدرى بتفجيرالأجوبة العميقة والمقنعة غيرالصافي سعيد . خاض العديد من المعارك الصحفية في أشهرالمنابرالإعلامية العالمية وهوالآن رئيس تحريرمجلة (عرابيا) الورقية والإلكترونية ومجلة (عربيا جيوبوليتيكا) . وأهم من هذا وذاك هوصديق للعديد من الرؤساء العرب منهم من رحلوا ومنهم من ينتظرون … صدرت للدكتورالأديب والصحفي الصافي سعيد عدة روايات منها (حدائق الله ) و(كازينو+ ) و(الإغواء الملكي) وآخرها (سنوات البروستاتا) عن هروب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي ، كما صدرت له عدة دراسات وتحاليل سياسية من أهمها (المتاهة في القرن الواحد والعشرين ) و(حوارات الثورة) و(خريف العرب البئروالصومعة والجينرال ) و(مثلث الشياطين الإستوائي) و(الحمى 42 ) و(بورقيبة سيرة شبه محرمة ) في هذا الحوارالخاص نحلق مع سندباد الصحافة في سماوات الخارطة العربية لنرى بعين المجهرمايجري على أرضها من تحولات سياسية وجيوإستراتيجية لاشك أنها سوف تعيد في المستقبل القريب ترتيب التوازنات والتحالفات جنوب وشرق المتوسط . الجزء الأوّل: س : بلا شك، ليس هناك حاكم من الحكام العرب لم يسمع أو ربما لم يقرأ بعض كتب أو مقالات الصحفي التونسي المتألق الصافي سعيد. نوّد أن نعرف ما هو السر وراء قدرتكم على المشاكسة الصحفية والتحليل السياسي الذي تهتم به دوائر القرار العليا؟. ج : أولا لا أعتقد أن هناك كثيرا من الزعماء العرب الذين قرأوا مقالاتي أو كتبي. فهم قليلو القراءة عموما. أعرف أن الحسن الثاني كان يقول دائما “أنا أقرأ تقرير المخابرات ونشرة الأنباء الجوية” قبل أن أذهب إلى فراشي. وطبعا كملك حاكم، لا بد أن يطلّع على هذين التقريرين. تقرير المخابرات وتقرير المناخ الجوي أي الأمن بشقيه. على أية حال، هناك بعض الزعماء الذين حاورتهم أو جلست معهم كانوا يقرأون لي. علاقتي كانت أولا وقبل كل شيء بالزعيم بن بلة. لقد حاورته وكان ذلك في شبابي وفي بعض ما تبقى له من شباب في ذلك الوقت، عندما خرج من السجن. يعني أستطيع أن أقول إني سجلت عليه مذكراته وقد نشرت في ذلك الوقت في الكثير من الصحف العربية وحتى الصحف الأجنبية، ثم خرجت ككتاب. كانت حقيقة في ذلك الوقت، تمثل سبقا صحفيا كبيرا. ثم عرفت زعماء آخرين مثل عرفات والقذافي. في الحقيقة القذافي كان قارئا جيدا. بل أعتقد أن القراءة أنهكته بمعاني كثيرة. عندما كنت ألتقي معه كان يشير لي ببعض الملاحظات. وفي إحدى المرات أراد أن يطلعني على مكتبته، كنت إلى جانبه حين كان يقودني من كتاب إلى كتاب. ثم فتح لي كتابي عن بورقيبة وأشار لي ببعض الملاحظات. ثم لامني على النقد اللاذع لوسيلة بورقيبة .وفي كتاب آخر “الحمى 42″ قال لي كيف تشبّهني مع المثقف الصادق النيهوم؟. قلت له: ربما لم تنتج الصحراء الليبية في هذا القرن- على معرفتي- إلا اثنين هما أنت كسياسي مشاكس والصادق النيهوم كمثقف مبدع مشاكس. ضحك وقال : فعلا أنت صعلوك حقيقي. كان القذافي يسميني عادة “بالصعلوك العربي”. وكان يناديني حتى أمام الصحفيين بهذا اللقب. عرفات أيضا كان يقدّرني جدا ويحبني. وفي إحدى المرات وكان ذلك في مراكش اقترب مني عرفات وكان خارجا من اجتماع لجنة القدس أمام إدريس البصري وأمام وليّ عهد المغرب آنذاك محمد السادس أحاط بي وعانقني وحضنني أمام الصحفيين في القصرالملكي بمراكش. وقال لي :”أنت بطل الحصارين”. ثم أشار إلى إدريس البصري الذي كان آنذاك وزير الداخلية المخيف في المغرب، فقال له :”هل تعرف هذا الرجل يا ادريس؟. أنا أريدك أن تهتم به وأن تخفض عيونك عليه”. كنت وقتها أقيم في المغرب كمراسل. وفي الحقيقة خرجت في النهاية من المغرب شبه مغضوب عليه بسبب مشاكسات صحفية. ففي إحدى المرات حاولت أن أقابل وليّ العهد المطاح به محمد رضا بهلوي وليّ عهد إيران، فأخذت موعدا مع سكرتيرته التي لا زلت أذكر اسمها دنيا زاد. وفي باب الفيلا بمنطقة السويسي قبض عليّ الحرس الملكي، رميت في السجن لمدة ساعات ثم خرجت بتعهد بأني لن أعود إلى فعلتي هذه. في مرة أخرى قبض عليّ وأنا أحاول أن أتسلل إلى الرئيس أحمد أهيدجو رئيس الكامرون المطاح به وكان لاجئا سياسيا في المغرب. أردت أن أقابله لأن حبي لإفريقيا كبير جدا. لقد عرفت كثيرا من الزعماء الأفارقة سواء في جولاتي في إفريقيا أو في المغرب أيضا. عرفت سنغور، كان يأتي للحسن الثاني وكان صديقا له. وقد قابلته عدة مرات. تسألني عن الصحافة أقول: هي ولع هي نوع من المغامرة وتحقيق للذات. بل هي كتابة سيرة ذاتية أخرى على طريق الحياة الصعبة والملتوية من خلال الآخرين. قابلت أيضا بوكاسا في ساحل العاج في كوكودي في العاصمة ابيدجان. وكان من الممكن أن يحدث لي مشكلا كبيرا لولا تدخل أحد الأثرياء اللبنانيين في أبيدجان. تدخّل لصالحي فأعفي عني لكن نجحت في تحقيق حوار مع بوكاسا الذي كان لاجئا سياسيا في ساحل العاج قبل أن يذهب إلى فرنسا ثم يعود إلى إفريقيا الوسطى ثم يحاكم ثم يعدم. هذه هي الصحافة تقودنا مرات إلى أماكن لا نفكر فيها. ذهبت مرة إلى يوغسلافيا كمبعوث لجريدة “السفير” البيروتية لأغطي جنازة “تيتو”. بعد أن اكتملت مهمتي في يوغسلافيا، قلت لنفسي لماذا لا أعود عن طريق البر عبر تركيا ثم سوريا ثم لبنان. عندما وصلت إلى تركيا من بلغاريا وقع انقلاب عسكري واستطعت أن أفوز بسبق جبار على صعيد الصحافة في ذلك الوقت. في مرة أخرى عدت إلى تركيا لكي أقوم بتحقيق حول دور تركيا الجديد في الشرق الأوسط، لأنّ هذا الدور الذي نشاهده اليوم بدأ يتصاعد في الواقع منذ الثمانينات. التقيت صدفة بإحدى سكرتيرات أجاويد رئيس وزراء تركيا القديم. وقد كان الانقلاب الذي حضرته سنه 81 كان ضد أجاويد. رويت للسيد أجاويد تلك الحادثة ثم سألني: إلى أين ذهبت في تركيا؟. قلت له: لم أذهب في تركيا إلا إلى قبر أتاتورك. وهو المزار الكبير. وقلت له أنّ قبر أتاتورك بدا لي أكبر من أنقرة العاصمة التي بناها أتاتورك. ضحك ثم قال لي، سأشير لك بزيارة قبر آخر أنه أحد عظماء التاريخ- قلت من؟ قال لي :”حنبعل”، ثم أضاف ألست تونسيا؟ قلت :”نعم”. قال لي :”سأعطيك أو سأمنحك هذه الهدية لكي تزور قبر حنبعل. الذي لم يكن أحدا يعرف أين كان مدفونا. زرت المنطقة التي يقال أنها قبر حنبعل وقد كانت مجهولة على شاطئ البحر الأسود. وكتبت في هذا الموضوع. ثم تفاجأت بعد عامين بأنّ الحكومة التونسية تقدمت بطلب لاسترجاع جثمان حنبعل الزعيم العظيم الذي انهزم أمام روما وهرب إلى الريف (في المغرب الحالي) حيث اشتغل في الزراعة مع ماغون المهندس الزراعي العظيم. ثم ذهب إلى الشام كمستشار للملك ماخيوس في ذلك الوقت. وتابعته روما ولاحقته إلى أن هرب إلى أرمينيا واشتغل كمستشار لدى ملكها ثم عندما هددته روما وظلت تلاحقه اختار الإنتحار على الاهانة. بعدما زرت قبر حنبعل، قلت لنفسي:”إلى الآن لم أقم إلا بزيارة القبور. ثم فكرت أن أزور بيت علي أقجا، الذي حاول أن يغتال البابا، وكان وقتها مسجونا في روما. وما كان لأحد من الصحافة الغربية آنذاك أن يعرف لا بيته ولا قريته ولا مدرسته ولا فراشه. وقد ذهبت من أنقرة إلى قريته إيشيل تابيه (حوالي 1200 كلم). ذهبت عبر الطائرة ثم الحافلة ثم السيارة ثم الحمار وأخيرا وصلت إلى بيته. ورأيت أمه وأخته وقد مازالتا تحتفظان بالكنش الذي كتب فيه في ذلك اليوم جملة وداع لأمه وأخته، الذي غادر فيه بيته ولم يعد له. أمه وأخته كانتا تعدان له الفراش يوميا كما لو أنه سيعود ذات مساء. هذا العمل الصحفي جلب لي انتباها كبيرا وخاصة الصور التي أحضرتها معي. وقد كان معي مترجما كرديا لأن تلك المناطق تتكلم الكردية. وقد بيعت هذه الصور بمبالغ مالية هامة وتخاطفتها وكالات الأنباء العالمية. مثل هذه التحقيقات عندما يقرأها مسؤول أو زعيم يعتقد أن هناك عملا جديا وهناك مغامرة خاصة عاشها الكاتب أو الصحفي. دائما أريد أن أكون متميزا في أسلوبي وفي لغتي وفي دقة بحثي وفي عملي الصحفي. لم أكن أريد أن أكون كالآخرين. س : الأكيد أنّ شرارة الثورات العربية اندلعت من مهدها في تونس ومن قرية سيدي بوزيد تحديدا. وباعتباركم صحفيا تونسيا كان قريبا من أسباب الحريق وراصدا للشأن السياسي منذ عقود، طبعا لم تكونوا تتوقعون يوما ما أن تكون تونس بداية النهاية للديكتاتوريات العربية وبهذه المفاجأة التي أذهلت الجميع!. ج : صحيح ما كنا نتوقع أبدا أن تقوم الثورة لا من تونس ولا من سيدي بوزيد بالذات. لأنه وبصراحة حتى وإن كانت مدينة قفصة التي لا تبعد عنها كثيرا معروفة كمنطقة متمردة، فإن سيدي بوزيد لم تكن متمردة في علاقتها بالسلطة طوال عقود. ما حصل في تونس شكّل بداية لهذا الربيع العربي. أستطيع أن أدعي أنني أول من كتب عن هذا الربيع العربي. أول من سمى هذا الذي يحدث بأنه بداية ربيع عربي. أنا أخرجت مانفستو سميته “المانفستو الثقافي العربي يوم السابع عشر جانفي أي بعد ثلاثة أيام من الثورة التونسية. وقد سميته الربيع العربي انطلاقا من قراءات ومن ربيعات أخرى مرت بها الشعوب، وخاصة ربيع الأمم. فمن يقرأ شيئا من تراث الماركسية ومن تراث الثورات في أوروبا، يعرف أن هناك ربيع الأمم 1848 وهناك ربيع براغ 1968 وهناك أيضا ربيع القوقاز… ثم إنني نشرت كتابا عام 2005 عنوانه “خريف العرب”. وأنهيته بفصل “في انتظار ربيع عربي” أو في انتظار عرابيا. وعرابيا ماذا تعني؟ أنها بلاد العرب. عندما تزدهر فيها العروبة والإسلام والديمقراطية يمكن أن تكوّن عرابيا. لكن مع الزمن ومع ما حصل من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى اليمن إلى البحرين وأخيرا سوريا، لم يعد هذا المصطلح يبدو لي مليئا بما نرجوه وبما ننتظره أو بما يحمل من انتظارات لهذه الشعوب التي عاشت طويلا تحت هذا الاستبداد الذي لا يريد أن يمضي. اليوم هذا الربيع نصفه أو ثلثاه مؤثث بالمذابح وبالضبابية وبسيناريوهات التدخل الخارجي وأيضا بعدم وضوح الرؤية. هذا الربيع يحدث داخل السيناريو الكبير، سيناريو العولمة. وما يسمى بالخيار الآخر هو خيارالتدخل الامبريالي الإنساني. وأنت تعرف أنّ هذا التعبير ليس بجديد حيث ناقشه الفيلسوف دولوز وهو رد على ما ابتدعه كوشنار وبرنار هنري ليفي الذين قالوا إذا كنا نريد حقوق الإنسان فإننا يمكن أن نتدخل عسكريا لترتيب حقوق الإنسان وترتيب الديمقراطية كما نراها وكما يراها الغرب في هذه البلدان المستبدة. رفع هذا الشعار وسمي ذلك” بامبريالية ذات مهمات إنسانية”. وقال دولوز في هذا الشأن أن هذا المبدأ لا يختلف عن مبدأ الامبريالية في أساسه ولا على مبدأ الاستعمارات الأولى في أساسها. انتشر الاستعمار في الأساس من أجل التحديث ومن أجل التمدين. والآن أنتم تقولون يمكن أن نتدخل من أجل المدنيين ولكن في النهاية هي تدخلات من أجل مصالح إن كانت عسكرية أو إنسانية. ولا يمكن أن نحمي المدنيين بالصواريخ أو بالطيران . صحيح أن الثورة التونسية فاجأت الجميع وسبقت الجميع. الذين أرادوا أن يدقوا المسامير في عجلاتها، فاتهم القطار. كانت أسرع منهم. كانت ثورة خاطفة. فتونس تتميز بمجتمع مدني ناشط وبنظام بوليسي ثم بجيش ضعيف لا علاقة له بالسلطة ولا يمارسها.. ثم برئيس معزول. في تلك اللحظة الدكتاتور شعر أن لا أحد معه في هذه البلاد. ومن معه من رجال البوليس تفككوا في لحظة لم يكن هو يحسبها ولا غيره. لذلك هو طار أو هرب أو فرّ بسرعة، وترك البلاد. فما حدث في تونس هو انتفاضة ساعدتها استقالة أو حيادية من الجيش ثم ساعدها أيضا جبن أو عزل تام للرئيس تبعه التفكك في النواة الصلبة الأمنية. صحيح أن تونس أعطت النموذج ولكنه النموذج الخفيف، نموذج الثورة الناعمة ونموذج الثورة المفتوحة بل هو نموذج الثورة البريئة جدا جدا. عندما انتقلت الأمور إلى مناطق أخرى أصبحنا نرى الإشكاليات والتعقيدات والتدخلات والجيوش الخارجية والأحلاف الأجنبية والبيترودولار… منذ فبراير وبعد أن انطلقت الثورة الليبية أو ما يسمى بالثورة الليبية، (لأن الثورة الليبية نجحت بالكروز الأمريكي وبالحلف الأطلسي وبالفاشية الايطالية الفرنسية البريطانية). قلت أن هذه الثورات الجديدة تتبع خطا أخضر بدأ يزحف من غزة وسينتهي إلى المغرب. وقلت أن الإسلاميين قادمون لكي يحكموا هذه المنطقة. وكان في ذلك الوقت أيضا من الصعب حتى التخيل أنّ هذا ما سوف يحدث بل قلت أن كل شيء سينتقل إلى سوريا ويسكن هذا الصراع طويلا..! وهكذا سرعان ما بدأت رؤوس السلفية والرؤوس الإسلامية والإسلام السياسي تظهر وتطل وتخرج لتسيطر على الساحة. ثم رأينا في الثورة الليبية كيف أنّ الإعلام رفعت من قبل الإسلاميين وكيف أن الأبواق الإسلامية والبترودولار والقرضاوي ومن شابه ذلك هم الذين يقودون الثورة. قلت آنذاك أنّ الأمر بسيط في المغرب وهو أن الملكية في المغرب دائما وكما يقول عبد الله العروي هي ملكية ذكية بيدها المبادرة. وتنبأت بأن المغاربة سيجرون تحولا سلميا سريعا عن طريق الانتخابات ويأتون بالإسلاميين إلى المنصة الإسلامية. كما فعل الحسن الثاني مع اليساريين عندما كانت الموجة يسارية. وهذا ما فعله محمد السادس مع بنيكران. قلت أيضا في انتظار الحسم في ليبيا تكتمل الحلقات الإسلامية في شمال افريقيا ثم سنراها في أماكن أخرى. وفعلا رأيناها في سوريا. اليوم سوريا هي مائدة العرب، مائدة الشرق الدوارة. اليوم المعركة الكبرى ما بين الإسلام السياسي والعروبة السياسية أو الوطنية السياسية في العالم العربي أو ما تبقى منها. لذلك نرى أن العقدة لم تعد عقدة إقليمية فقط بل هي عقدة دولية. اليوم الحرب الباردة عادت على أرض سوريا. واليوم عندما نرى روسيا والصين على جهة والغرب على جهة أخرى واللاعبون الآخرون يلعبون في الوقت الضائع نعرف أن المعركة دولية وهي معركة حرب باردة أخرى في شكل آخر. وما معنى هذا؟ معنى هذا هو أن هذا الإسلام السياسي الذي أريد له أن يعود لكي يحكم أوطانه هو الآن على محك التجربة. هناك ناس راضون عن هذه المنهجية وهناك ناس غير راضين عن هذه المنهجية. الراضون منهم في تركيا إقليميا والسعودية وقطر عربيا والأمريكان دوليا. يقول الأمريكان في أطروحتهم الجديدة: يكفي من شيطنة الإسلام. يجب أن نعيده إلى بلده ويجب أن نعطيه الحكم لكي يتلون ولكي يلين عوده ولكي يكتسب مفاهيم أخرى للنعومة ويصبح أهليا. اليوم الإسلام لا زال بريا ومهاجرا وعنيدا. لا زال سلفيا ومتخلفا ولا زال سابحا في الجبال والشعوذة. وعندما يعود إلى الحكم سيكتسب الخبرة والطمأنينة وسيكتسب العقلانية ويدخل إلى عملية الاندماج بينه وبين الغرب. واشنطن ليس لديها مشكلة مع الإسلام لأن تركيا إسلامية وتتعايش مع الغرب، بل هي عضو في الحلف الأطلسي. والسعودية إسلامية وهي أهم حليف لأمريكا منذ حوالي 60 أو 70 عاما. وماليزيا أو أندونيسيا أو نيجريا أو غيرها دول إسلامية وتتعاون براحة وبمساحة من الترحيب مع أمريكا. إذا مشكلة أمريكا ليست مع الإسلام أن يحكم أو لا يحكم. بل بالعكس. فعندما يحكم الإسلام يصبح إسلاما أهليا وقابلا للترويض وقابلا للمفاوضة وقابلا للحوار وإنما عندما نعزله ماذا نملك وماذا نكسب؟ نكسب إرهابا في أوروبا وفي أمريكا ونكسب استبدادا في الداخل وابتزازا لأن المستبدين الذين كانوا في تونس أو في مصر أو غيرها كانوا يبتزون أيضا أمريكا والغرب. أي أنه إما نحن وأما الطوفان. أي إما نحن الاستبداد وإما سيأتيكم الشيطان الإسلامي. وهذه اللعبة تفطن لها الأمريكان فقالوا اليوم: علينا أن لا نشيطن الإسلام ولا نجعل منه عدوا. وباعتقادي أن الإسلام سيحكم وسيأخذ حقبة وتجربة وسنرى وجهه الحقيقي لأنه سيكشف عن مكنوناته وخبرته ووجه الحقيقي. بعد ذلك تقرر الشعوب. وإذا قررت في مصر بنسبة كذا أو في تونس أو في ليبيا بنسبة كذا، أيضا علينا أن ننتظر لنجرب، لأن سنة أولى ديمقراطية لا تكفي. نحن جميعا بصدد تعلم الديمقراطية. الإسلاميون أنفسهم عندما قبلوا بهذا الخيار الديمقراطي، قالوا أنهم مستعدون للمشاركة لنجاح الكل. نجاح في الداخل ونجاح للخارج ونجاح أيضا للإسلام وللثقافة الأهلية لهذه الشعوب. س : إلى أي حد ساهمت بعض الفضائيات والقنوات العربية بالخصوص في اطعام نار هذه الثورات بحطب خطط برامجها السياسية والإستراتيجية؟. ج : عندما نقول الحرة أو العربية أو الجزيرة أو .BBCفهذا نمط إعلامي واحد، وهذا النمط ا لإعلامي الواحد نحن نعرف من وراءه. سواء كانت السعودية أو قطر أو أمريكا أو بريطانيا. لأن هؤلاء كلهم مندمجون في سيناريو واحد وهو سيناريو أحداث التغيير في العالم العربي “بأيادي محلية وأجنبية” برؤية إسلامية وبوجوه وطنية. من يقود هذا ؟ تقوده قطر والسعودية وتركيا في المنطقة. إذا هؤلاء الذين تحدثوا على هذه الفضائيات سواء كان ذلك صادرا عن نيتهم الطيبة أو بحثا عن فرصتهم التي لم تكن موجودة أو متاحة في تلفزيونات أخرى. فهذا شأنهم، هناك من استأثر بالمقعد وبالشاشة. هناك من خسر هذه الفرصة. وهناك من ربح. وهناك من كشف عن مطامح وطموحات، والسؤال الذي نطرحه هو أن هؤلاء سواء منصف المرزوقي الذي قدمته الجزيرة ثم عاد رئيسا إلى بلاده أو برهان غليون الذي قدمته الجزيرة أيضا والذي قد يعود رئيسا إلى بلاده لم يكونا مبرمجين على أجندا خاصة. لا أعتقد ذلك. فبالنسبة لحمدين صباحي مثلا لم تقدمه الجزيرة. وهناك مثقفون رفضوا أن تقدمهم الجزيرة، أنا رفضت عدة مرات أن أتكلم في الجزيرة. لأنهم يضعونك أمام خيارات ضيقة، أو خيارات هم يستفيدون منها. والمثقف الذي لا يمسك بزمام اللعبة السياسية يفكر قبل أن يقدم نفسه في الجزيرة. ونحن رأينا نمطين. أما أن شخصا يدافع عن نظام في الجزيرة أو شخصا يشتم نظاما في الجزيرة!. خطاب العقل كان غائبا. فإما أن تذهب لكي تشتم فلانا أو تمدح فلانا. على أية حال فقد تساءلنا عن هذا الربيع العربي من أحدثه؟. أقول قد أحدثه الإعلام على مرحلتين : هناك مرحلة الجزيرة والعربية وما شابه ذلك وهي مرحلة الفضائيات. وأنا أعتقد بأنها الآن لم يعد لها الكثير ما تقوله. والمرحلة الثانية هي مرحلة المواقع الاجتماعية الفايس بوك والتويتر واليوتوب. وهذا هو الذي لعب دورا كبيرا. بحيث لم يعد يكفي أن تكون صحفيا ولم يعد يكفي أن تتكلم في استيديو أو تسب نظاما. قد تجد أناسا معك لكن لا تجد الكثير. إنما المواقع الاجتماعية فهي التي نزلت باللعبة وبالمعركة إلى الشارع. أصبحت لعبة مواقع متحركة ولعبة ملايين. ولم يعد الإعلام هو سلاح احتكاري في يد السلطة أو في يد النخبة، وهذا يعني أن مرحلة الفضائيات انتهى دورها. أعتقد أنها لعبت دورها منذ نيكولا تشاوسيسكو إلى ما قبل سقوط بن علي. لكن دور المواقع الاجتماعية والانترنات بدأ في مرحلة أخرى. بدأ من أوروبا الشرقية ثم نزل إلى العالم العربي وبداية في تونس. هي حرب المواقع الاجتماعية وحرب الانترنت، حرب الأممية الجديدة للإعلام. وحرب الجنود المجهولين، جنود الإعلام وجنود المعلومة والكاميرا. بوسائل بسيطة، وبإمكانيات بسيطة تستطيع أن تجيّش مجموعة.. وكل مجموعة تجيش مجموعة أخرى. ثم تنطلقون في الشارع وتقلبون كل المعادلات. لذلك نقول أن هذه الثورات كانت بلا قيادات. طبعا هي بلا قيادات…لم يكن لها لا الوقت وللتفكير ولا النظرية ولا القائد ولا المناخ. هي ثورة نصفها افتراضي لذلك كانت رقابتها صعبة بسبب سرعتها في الزمن ثم التحولات الخطيرة التي قامت بها. يبقى من الطبيعي أن بلدا مثل قطر تجند وسائل إعلامها. وقد جندت حتى جيشها. وأرسلت بجيشها وبطائراتها لكي تقاتل في ليبيا. والآن لو تتاح لها الفرصة لكي تقاتل في سوريا فإنها ستقاتل في سوريا أيضا. وهذا غير مخفي على أي أحد. هذا أمر معروف لكن يجب أن لا نعتقد أن ما تقوم به قطر أو السعودية أو غيرها هي الثورات. هذا سيرتد عليهم وسيعرفون بعد ذلك ما الذي سيحدث وكيف ستصفى وكيف سنمر إلى مراحل أخرى ونبدأ في حسابات أخرى وفي أسئلة أخرى، أسئلة ما بعد الثورة. اليوم نحن في هيجان، حتى الأسئلة العقلانية ما زالت لم تطرح بعد. لا بد أن نسأل من وراء هذا الربيع.؟ من الذي استفاد بهذا الربيع؟ كيف سيحوّل هذا الربيع أو كيف حوّل لصالح ناس آخرين أصحاب أجندات أخرى. س : في نفس السياق، أليست بعض الدول العربية محركة هذه الثورات على المستوى الإعلامي والديبلوماسي في حاجة هي أيضا إلى إصلاحات سياسية؟ ج : هي في حاجة إلى إصلاحات بنيوية. إصلاحات هيكلية. إصلاحات في الهوية وفي الديمغرافيا وفي الجغرافيا. الاستقلال الأول الذي تتمتع به سوريا أو مصر أو تونس منذ نصف قرن وما يزيد عن ذلك، ما زالت لا تتمتع به هذه الدول. أنها لا تملك قرار السيادة. نحن نعرف أنه كان هناك ضغط وتدخلات في تونس وفي مصر واتفاقيات وتعهدات.. لكن مع ذلك كانت هناك نسبة من الاستقلال السيادي موجودة في هذه البلدان. أما هذه البلدان فهي لا تتمتع حتى بسيادتها. هذه البلدان هي عبارة عن مكاتب للعلاقات العامة ومخازن للسلع ومنامات لحراس البترول. هذه البلدان تحتاج إلى الكثير. فما هي القوانين التي تحكم في قطر؟. ما هي الحقوق التي يتمتع بها العامل الوافد إلى قطر أو حتى إلى الإمارات؟. ما هي حقوق المرأة في السعودية أو في قطر؟ ما هي درجة الديمقراطية التي بلغوها؟ ما هي حقوق الأقليات في هذه البلدان؟ الأسئلة عويصة وعميقة في تلك البلدان. وبالتالي هذه مكاتب شركات دولية متعددة الجنسيات موجودة في هذه البلدان على الشواطئ. أعتقد أن معظم بلدان الخليج كانت “كنتوارات” على البحر وكان العديد منهم يشتغل في القرصنة. كذلك في التجارة وفي المبادلة مع القراصنة الآخرين الكبار. وهم لا زالوا كما لو أنهم مستمرون في هذا الدور. لا أعرف كيف تتطاول قطر على مصر أو على سوريا فهل هي أكثر حرية؟ أو أكثر سيادة؟ ما هو هذا الأمر المفارق؟ المفارقة اليوم في هذا العالم الجديد أنك تملك قليلا من المال وتأتي ببعض الخبراء التقنيين حتى لو كانوا من المريخ ثم تقوم ببعض المؤتمرات وتبني ثلاثة أو أربعة فنادق خمسة نجوم لكي تملك نخب العالم وتصبح تتحكم في عقول الكثير من الناس والشعوب، هذه هي السلطة الناعمة. صحيح أن قطر استطاعت أن تملك الإعلام في وقت لم يملكه العرب المكلسون أو الكلاسيكيون. فعندما كان “صوت القاهرة” قويا كانت مصر هي الأولى إعلاميا. كانت القاهرة تتحكم في العالم العربي. على الأقل تتحكم في مزاجه من الأغنية إلى الخطاب السياسي. واليوم عندما أصبحت قطر هي التي تملك الجزيرة، خطفت عيون العرب. وأصبحت تملك أيضا أمزجتهم وخيالهم. قطر قامت باختطاف خيال العرب للثورة. الثورة العربية ليست هكذا وما كان يجب أن تكون هكذا. ليست حفلات تنكرية من المهرجانات أو من الدماء. هي ليست صواريخ تبعث من هنا وهناك وتهديدات من الحدود. الثورات العربية يجب أن لا تكون هكذا وإلا فإننا سنكون وكأننا نعيش فصلا من بدايات القرن العشرين إبان الثورة العربية الكبرى والغدر الذي حصل للعرب من جميع الجهات. س : ننتقل إلى المنطقة المغاربية والسؤال حول المغرب، في رأيكم هل استطعنا في المغرب ترويض الثورة عن طريق الإصلاحات الدستورية والحقوقية التي أقدمت عليها الدولة وتوافق عليها الجميع كما تعلمون؟ ج : في المغرب حصل استيعاب من نوع آخر. هو استيعاب المخزن لعالم السيبة. يعني أنه كانت هناك عملية من الذي يسبق الآخر؟ صحيح أن الشعب المغربي خرج في عديد المسيرات والمظاهرات. لم يكن يملك لا الرؤية ولا البرنامج ولا الحد الأدنى أو الحد الأقصى. هل يذهب للإطاحة بالمكلية أو يذهب لتركيز إصلاحات. التقط المخزن هذه الفرصة. فرصة لهيب المنطقة العربية.. وكعادته استعاد زمام المبادرة. ثم دخل بالبلاد كلها في إصلاحات. أن تكون هذه الإصلاحات جيدة أو سيئة أو ناقصة فهي أفضل من الجمود على أية حال. ثم أن يكون المخزن المغربي أو الملكية المغربية عادة ما تستوعب وتستعيد زمام الأمور عند كل أزمة. فهذا من شطارتها، بل هذا هو الدور الأساسي لأي سلطة. وهو أن تسمع بدبيب الثورة من بعيد فتسبق وتطلق رياحها للتغيير. ما حدث في المغرب، لا أقول أنه تغيير كبير أو صغير ليس هذا هو الوصف، لكن أقول أنه تغيير مريح لأنه هذا ما يطلبه العالم. وهذا ما يريده العالم وما تريده دول الخليج أولا. الخليج اليوم هو ممول وصاحب صوت وصاحب تدبير وفكر وصاحب رأي في هذه المنطقة. إنه يقول لجميع بلدان العرب ولجميع مسؤوليهم في الغرف المغلقة : أنتم تأتون لأموالنا لكن لماذا لا تستشيروننا كيف تحكمون بلدانكم؟ هذا ما يقوله الخليجيون. فهم ليسوا صناديق دولارات فقط إنما هم يريدون رأيا ويريدون اصطفافا ويريدون تحالفات وتسويات لأن لديهم أعداء رسميين. أعداؤهم الكبار لا يوجودون لا في تونس ولا في المغرب ولا في الجزائر أعداؤهم يوجدون بالقرب منهم وهي إيران. وفي كل هذه العملية، وهذا الاصطفاف والاندفاع وراء الثورات العربية هو لتنظيف كل الجيوب لإصطفاف كل الشارع العربي في معركة لا زالت قادمة وسنشهدها هي معركة إيران. وعندما تهدأ الساحة السورية، سنسمع قرقعة المدافع وقد اندلعت هناك. كل هذا الربيع يبدو كمقدمة للجنون الأعظم الذي سيحصل في الخليج. المسألة هي إيران. والخليجيون يريدون أن ينسى العرب قضاياهم وينسوا إسرائيل ويتوجهون بهم جميعا إلى جبهة إيران وتلك هي المسألة.!