الزمن والكتابة والإبداع
كتبت أ. د. سناء الشعلان/ الأردن
الزمان أنفو_ المنجز الأدبي ليس كما يعتقد البعض هو صورة مكتوبة عن مخيال ذهني موجود في الذات، وكلّ المطلوب ينحصر في نقله في أيّ زمان ومكان وظروف إلى حالة حرفية مكتوبة، لو كان الأمر كذلك لهان الأمر، ولتغيّر تاريخ الأدب كلّه،لكن الحقيقة التي يدركها الأدباء والمبدعون أجمعون أنّ قدر المنجز الإبداعيّ يتحدّد بعدة عوامل منها زمام ومكان إنجازه فضلاً عن طائفة كبيرة من العوامل الأخرى.
كثيراً ما يكون المبدع قد نوى أن يوجّه الكتابة في اتجاه ما، ولكن لانقطاعه عنها لبعض الوقت توجّه دون إرادته إلى اتجاه آخر تماماً، كثيراً ما يكون المبدع في حالة نفسية ما أو فكرية أو ذهنية، ويكون قد وضع مخططاً للكتابة في اتجاه ما،ولكن انقطاعه عن الكتابة، وتأجيلها إلى زمن آخر قد وجّه الكتابة إلى اتجاه مغاير.والكثير من المبدعين يعبّرون عن اصطدامهم بالشّكل الذي خرج عليه إبداعهم بسبب الزّمن، وفي أحيان أخرى كان البعض منهم ينجح في التّصالح مع الشّكل الإبداعيّ الجديد في ضوء الإبداع المرتبط بالزّمن.
الزّمن عامل خطير وسحري في تحديد أقدار الكتابة،وله سطوة عجيبة في رسم ملامح الشكل النهائي للمنجز الأدبي،بل أحياناً يكون هو المحدّد الحاسم في تشكيل الملمح النهائي للمنجز الإبداعي، وعندما أتكلّم هنا عن هذا الزمن،وهنا لا نتحدّث عن الزّمن بمفهومه الكبير المتمدّد والمستطيل،بل أحياناً يكفي القليل من الوقت مثل الرّد على مكالمة في الهاتف أو استرجاع ذكرى أو فتح رسالة أو مشاهدة لقطة في التلفاز أو انفعال عابر ليصنع قطيعة زمنيّة في الكتابة، ويحوّل شكل الكتابة ويبدّل اتّجاهاتها، ولذلك الكثير من المبدعين يحرصون عدم قطع الكتابة مهما كان الدّاعي لذلك ، وذلك يحتاطون بأن يكتبوا في مناطق معزولة، وبعيدة عن تواصل الآخرين، كما هي بعيدة عن أدوات التواصل الأخرى مثل الهاتف أو التلفاز أو المواد المكتوبة.
أعتقد أن الزّمن هو صاحب الكلمة العليا في شكل المنجز، تماماً كما هو صاحب الكلمة الفاصلة في تشكيل أفكارنا، وتحديد مفاهيمنا، وبناء مداركنا، وصنع ظروفنا، وفي النهاية السير في أعمارنا إلى مستقرّها الطبيعي ، وهو الفناء والنهاية.
والمبدع المتمرّس يغدو مع الوقت قادراً على اللّعب مع الزّمن،بل يصبح قادراً على اصطياد الزّمن الذي يحتاجه للكتابة،فنجد الكثير من المبدعين يدركون اللحظات الاستفزازيّة القادرة على تشكيل دفقات الكتابة عندهم،ولذلك هم يعرضون أنفسهم لهذه الحالات الاستفزازيّة التي تدفعهم للكتابة مسميّن هذه الاستفزاز تجاوزاً أجواء الكتابة وطقوسها.وآخرون من المبدعين يدركون أنّ عليهم أن يصطادوا أزماناً معينة للكتابة فيها؛لما تحمل من ميراث إنسانيّ مهم،ولذلك يأرّخون للمراحل الزّمنيّة الحاسمة في عمر الشّعوب والأمم،فيكتبون عن الثّورات والحروب والتحوّلات التّاريخيّة المفصليّة في مصير الشّعوب،وفي الغالب تكون كتابتهم بصمة تاريخيّة،وأحياناً تقع في الظّل لتحوّلهم من مبدعين مبتكرين إلى مجرّد مؤرّخين من النّوع الرّديء.
لكن هناك طائفة نادرة من المبدعين قادرون على أن يصنعوا زمناً آخر في كتاباتهم،وهم في إبداعهم ينتصرون على أمرين، الأوّل: هو أزمة الصراع مع الزّمن في الكتابة،وهي أزمة ليست داخلية في النّص،بل هي أزمة كتابة النّص في هامش الزّمن،بحيث لا يؤثّر الزمن على شكل الإبداع إلاّ بكلّ قدر إيجابيّ.والثّاني: هو أزمة خلق أزمان جديدة لا تخضع لمنطق الزّمن الطّبيعيّ،وفي هذا الصّدد كثيراً يخرج المبدع إلى أزمان تخيّلية تخصّب النّص،وتفتح له تأويلات جديدة،والمبدع في هذا الصّدد إما أن يهرب إلى عوالم الفنتازيا التي تهبه مساحات غير منتهيّة من التّصوير،وإما أن يكون متوافراً على ثقافة تخيلية علميّة تمكّنه من الكتابة في جنس الخيال العلميّ.