ديدي ولد اسويدي: عبقرية فذة رحلت في هدوء
سنة 1960 كان الشاب ديدي ولد اسويدي يعانق القلم ويداعب القرطاس، محررا بارزا ضمن الطاقم الصغير لإذاعة موريتانيا في مدينة سنلوي السنغالية الحدودية.أجل إنه من أوائل الصحفيين، في هذا البلد الجميل الغالي، وقد ترك بصمته في الإعلام، أداءا وخلقا وتأسيسا لأول منبر إذاعي لصالح الجمهورية الوليدة.
الرجل رحمه الله يعمل كثيرا، ويتكلم قليلا في هدوء، وكأنه تعود على التحدث بصوت خافت، بعيدا عن التوتر أو الصراخ ودون تفريط أو تساهل.
يعطي بسخاء دون صعوبة، أو كدر أو من، وتربطه صلات واسعة بمختلف مكونات الطيف الوطني، حتى بدا صديق الجميع، وفي بعض الأوقات لا ترى معه إلا بعض الزنوج أو العرب السمر.
وكأنه يؤدي رسالة آمن بها –بعمق وعلى طريقته العملية- في مجال تعزيز وتكريس اللحمة والوحدة الوطنية.
هذا الموضوع لمن يعرف ديدي رحمه الله، معروف وحقيقي ويأخذ كثيرا من وقته، فهو يحرص على التواصل خصوصا مع الزنوج والعرب السمر، ولا يقبل لهم العزلة، ويريد لهم النفع والاندماج المهني والاجتماعي والمالي.
علاقاته في هذا الصدد واسعة وإيجابية، وستكشف عنها أيام التعزية بوجه خاص.
ثم انتقل منذ سنة 1967 تقريبا إلى ميدان اترانزيت والنقل البري والزراعة، حيث أسس عدة شركات في هذا الميدان، وقدم جهدا كبيرا إيجابيا لصالح التجار الموريتانيين، من خلال تسهيل عمليات دخول البضائع بصورة قانونية، وتولى كثيرا الضمانة على حقوق الجمركة واترانزيت، مما أوقعه لاحقا في بعض الخسائر المالية بسبب التسامح وعدم الاستعداد لمتابعة كثيرين، ممن لم يفوا بالتزاماتهم المالية تجاهه، في ميدان اترانزيت على سبيل المثال لا الحصر.
وللتذكير فهو المالك الأصلي لرخصة “سوجوكو” قبل أن يتنازل عنها لرجل الأعمال إسماعيل ولد اعبيدن.
وقد أسس شركة “روصو ترانزيت” التي مارست نشاطها ما بين سنة 1968 إلى غاية سنة 1990، وكان مقرها الرئيسي في روصو ولها فرع في نواكشوط، وعمل في ميدان الزراعة واستصلاح الأراضي عبر وكالة AMAR، منذ 1973 وقد كان له جهد معروف في ميدان السياحة والفندقة (فندق الأحمدي القائم حتى الآن مثلا)، إلى أن رجع إلى إصدار صحيفة مؤخرا، وأسس مطبعة النور، والتي تولت طباعة المصحف الشريف قبل أقل من سنة.
تحدثت معه قبل عدة أشهر في مكتبه “بكبتال” بمقر المطبعة، وقلت له يا ديدي، إن ما تقوم به مهم بشرط النية، وأعني طباعة المصحف، وقلت له لقد كان العالم الجليل اباه في مونغل بولاية غورغول يركز على ركن النية في العمل الصالح، ويقول هذه بقراءتي أطلقها من محبسها إلى الكلأ والمرعى ولكن بنية رضوان الله، وهكذا تأكيدا من العالم الورع المعروف على أهمية تحرير المقصد لله، وهو جد العلامة محمد فاضل ولد محمد الأمين ولد اباه.
فرد علي ديدي ولد سويدي بهدوء الواثق في حسن نيته في كل أعماله الخيرة: “طبعا إنه عمل لله”.
ندعو الله أن يجعله في ميزان حسناته، فهو عمل جليل، كل ما يدخل في خدمة كتاب الله العزيز.
وتقبل منه عمله خدمة لهذا الوطن والمجتمع، برضوان من الله، يدخل به الجنان ويسلم به -إن شاء الله – من سخط الله والنيران، وإنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيئ عنده بأجل مسمى.
لعب ديدي ولد اسويدي رحمه الله دورا سياسيا كبيرا أيام الرئيس معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع، فهو المولود لأمه أمامة بنت الطايع رحمها الله، وله روابط خؤولة مباشرة مع أهل الطايع، فكان رغم عناد ولد الطايع، ذي التكوين العسكري، موجها وناصحا، وجلب إليه الكثير من وجوه الزنوج المعارضة، وعضد حكم خاله بشتى الطرق الاجتماعية والسياسية الإيجابية المتئدة، رغم أن غيره من أبناء عمومته “الشطار” كان أكثر استفادة ماديا، من بعض منافع حكم ولد الطايع.
أتذكر مرة أني اتصلت على معاوية هاتفيا وأخبرته بأن ديدي مريض في عيادة “التيسرام”، عيادة ولد مكيه حينها، فما كان من الرئيس إلا أن أرسل نجله أحمد مساء نفس اليوم لعيادة ديدي.
كانت كله صلة وثقة مع معاوية، رحم الله الراحل وحفظ معاوية ذخرا للوطن إن شاء الله.
ثم جاء ولد عبد العزيز وأصر ديدي على ربط الصلة معه وديا، بل حرص على زيارة أطار لاستقباله ذات مرة، بعد طول غياب عن مدينة أطار التي ولد بها.
وظل ديدي يصر على هذا الموقف المؤيد، الذي لم يتقبله بعض الشباب المتحمس، ربما بسبب الإساءات البالغة المتكررة المستمرة، التي يوجهها ولد عبد العزيز إلى أصهاره، دون وجه مفهوم، إساءة تعمدها أمام الناس وأمام سجلات التاريخ، الذي لا يرحم.
ولكن ديدي ولد سويدي رحمه الله ظل طيب الصلة مع الحاكم الحالي، دون استفادة تذكر، إلا أنه سلبه بعض قطعه الأرضية، ولم يقدر مكانته -بشكل كاف- وإسهامه القوي في تنمية الوطن.
قبل ختام هذه السطور الموجزة، اتصل علي احد الرجال ممن لازموا الراحل خصوصا في روصو أيام السبعينات، يدعى دحمان ولد انتهاه، وهو من أبناء عمومته، قال لي: “أيام كانت الأحوال صعبة كان أكثر سخاءا وهدوءا من كثيرين، وكان لا يعرف رفض أي طلب، إلا أن يقول على الدوام: “أرجع لي، أرجع لي”، فهو يبحث على الدوام، عن الحل لكل معضلة أو أي مشكلة بسيطة أو كبيرة، تطرح من طرف أيا كان.
وأردف دحمان حفظه الله، كانت لنا صلات في تلك الولاية طيبة ومفيدة، من خلال ديدي ولد اسويدي رحمه الله، فكنا إذا أتينا إلى الأمير مثلا، رحمه الله احبيب ولد أحمد سالم، يثني على ديدي ويتعاطى إيجابيا، وكذلك حالة كافة الرموز والشخصيات الكبيرة، هناك في روصو بوجه خاص، الذين ربط معهم ديدي علاقات طيبة متوازنة وأخوية جدا” -انتهى الاستشهاد-.
وأقول مجددا لقد ترك ديدي ولد اسويدي برحيله المفاجئ، كما هي حالة الموت غالبا، فراغا كبيرا في العمل الاجتماعي والتواصل الاجتماعي الإيجابي الحقيقي، وترك فراغا قد لا يشعر به بعمق وحزن، “إنا لله وإنا إليه راجعون”، إلا من يعرفه بحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويتواصل رحيل الرموز، وتتجدد الحاجة للتأمل في حاضر ومستقبل موريتانيا، التي كادت أن تصبح ثكلى بكثرة موت ورحيل رجالاتها وشجعانها، حتى يكاد لا يبقى إلا غثاء يتهالك على المال والشهوات الزائلة، ولا نقبل القنوط تذكارا لقوله صلى الله عليه وسلم: “في الخير وفي أمتي إلى يوم القيامة”.
إنه واقع صعب يتطلب التسامح والتعاون والتكاتف، حتى لا تنفلت الأوضاع الساكنة نسبيا، من بين أيدينا.
آن لنا أن نرتفع إلى مستوى هؤلاء الأفذاذ الراحلين باستمرار، أو نحاول ذلك دون توقف، لأن الموت من سنن الحياة وناموسها الذي ينطبق على الجميع.
قال الله تعالى: “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام” من سورة الرحمن.
وقديما قال الشاعر:
وما الناس إلا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق
لنرى كيف نخلفهم على وجه حسن نافع ناجع إن شاء الله.
اللهم ارحم الفقيد وألهم ذويه الصبر والسلوان، وأدخله في رحمتك في أعلى الفردوس والجنان.
ونختم بها ونرددها مجددا: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
اللهم صبرا….صبرا…
بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن المدير الناشر ورئيس تحرير صحيفة “الأقصى”