الفقيه والمجتمع في الحواضر الصحراوية : محمد يحيى “الفقيه” ومجتمع «ولاتة» نموذجا

الحواضر الصحراوية:

شهدت منطقة الغرب الإفريقي ظاهرة “الحواضر الصحراوية”، أو “مدن القوافل” في مرحلة مبكرة من تاريخ التواصل الصحراوي السوداني. ولعل النموذج الأولي لهذا النمط العمراني بأبعاده الاقتصادية والثقافية كان حاضرة “غانة” نفسها التي كانت تنقسم إلى مدينتين: مدينة الملك ومدينة التجار المسلمين. في المدينة الأخيرة كان للفقهاء دور كبير في إقامة الشعائر الدينية وتقنين المعاملات التجارية، بمراعاة أحكام الشريعة الإسلامية، دون تدخل من سلطات غانة الوثنية.

 

تعرضت دولة غانة في منتصف القرن الهجري الخامس لأزمة متعددة الأبعاد أدت إلى تقويض النموذج الثقافي الغاني القائم على التعايش والاختلاط بين الأديان (الإسلام والوثنية)، والمذاهب (السنة والشيعة) والأعراق (السودان والبربر والعرب) والإثنيات ( صنهاجة وزناتة).

وتجسد رد الفعل المعارض لهذا النموذج في حركة طهرية إسلامية هي حركة المرابطين التي هاجمت أطراف الدولة الشمالية فحطمت أودغست كبرى مدن التجار المسلمين، حيث يذكر البكري أن المرابطين “استباح(وا…) حريمها وجعلوا جميع ما أصابوا فيها فيئا (…)، وإنما نقموا عليهم أنهم كانوا تحت طاعة صاحب غانة وحكمه”2.

وبالمقابل، نشأت في جنوبي الدولة الهرمة حركة طهرية مضادة ذات منزع وثني، هي حركة الصوصو المناوئة للسياسة الغانية المنفتحة على المسلمين. والمفترض أن الصوصو هم من أخضع غانا الوثنية وحطم مدينة غانا الإسلامية.

 

2.”بيرو”، “إيولاتن”، «ولاتة»، أسماء وعصور:

كانت «ولاتة» أو “بيرو” كما كانت تدعى في “العهد الغاني”، بمثابة امتداد لمدينة التجار المسلمين في “غانة”. فقد لجأ إليها تجار العاصمة الغانية الخائفين من بطش “الصوصو” حيث شكلوا جيشا لحمايتهم من المخاطر التي تتربصبهم من الجنوب والشمال، قبل أن يسيطر ملك مالي، أو التكرور كما يسميه المقري الجد، على “كورة إيولاتن وأعمالها”3.

في هذا العهد “التكروري” أصبحت “بيرو” تدعى “إيولاتن” حيث تبدو مدينة صنهاجية مسوفية تحت سيطرة ممثل السلطان المالي الذي كان يكتفي بحفظ الأمن والجباية، أما غير ذلك من الشؤون العامة فقد كان موكولا للقاضي. واستمر هذا النظام طيلة حكم السونغاي، بل زاد اعتبار “أساكي السونغاي” لمكانة رجال الدين في المدن التجارية.

وعند ما تراجعت «المنظومة التكرورية» إثر سقوط دولة السونغاي (999 هـ./1592م.) بدأت «المنظومة الشنقيطية» في التبلور بملامحها الثقافية المميزة (انتشار العربية اللهجية، تغلب نموذج عمود النسب والقبيلة العربيين، انتشار الأدب العربي الفصيح “النهضة الشعرية”، البداوة العالمة ، التعمق في المباحث العلمية المتنوعة: علم الكلام، التصوف، المساجلات الفكرية والأدبية، إلخ..).

عربت كلمة “إيولاتن” لتصبح «ولاتة» في بدايات “العهد الشنقيطي” ، وكانت المدينة في مستهل هذا العهد بمثابة رأس الجسر. فعن طريق علمائها انتقلت أسانيد «المنظومة التكرورية» الأثيلة إلى علماء «المنظومة الشنقيطية» الناشئة، وفي مدارسها تشكلت التقاليد العلمية الجديدة (التفنن في المباحث الكلامية، انتشار الشعر العربي الفصيح والتأنق في تطوير أشكاله رغم التهيّب الواضح فيما يتعلق بالمضامين ).

وتفاعلت «ولاتة» مع المراكز الثقافية الأخرى ضمن الفضاء الشنقيطي فاستقبلت طلبة الحواضر والبوادي القريبة والبعيدة، كما فتحت مدارسها للعلماء المدرسين الوافدين من الحواضر الأخرى4 و من البادية العالمة5.

وتعرضت مكانة الفقه والفقهاء في «المنظومة الشنقيطية» إلى تحولات بنيوية ووظيفية عميقة. فعلى المستوى البنيوي أصبح الخطاب الفقهي عرضة لمزاحمة أنواع الخطاب الأخرى (الخطاب الصوفي، و الكلامي، والأدبي..). وعلى المستوى الوظيفي لم تعد للفقيه مكانة ثابتة ضمن أجهزة الدولة المركزية كما كان عليه الحال في عهد سيادة «المنظومة التكرورية»، لأن الدولة المركزية هي الغائب الأكبر في مشهد «المنظومة الشنقيطية».

غير أن فك الارتباط مع الدولة المركزية الآفلة لا يعني انفكاك الفقيه عن شؤون مجتمعه وشجونه، لاسيما قضية التوفيق بين واقع المجتمع ومقتضيات الشرع. وقد تبلور التعاطي العلمي مع هذه القضية الجوهرية في جملة مشاريع فكرية يمكن تصنيفها إلى مجموعتين:

* مشاريع ذرائعية تركيبية تتوخى التسويغ البعدي للأوضاع والممارسات الاجتماعية عبر تكييف النص لتشريع واقع المجتمع، في نوع من محاكمة النص بدل المجتمع، كما في نوازل ابن الأعمش والشريف حمى الله، و كما نجد عند الشيخ محمد المامي في كتاب البادية أو رسالة الذب بالشريعة عن العشيرة.

* مشاريع نقدية تفكيكية ترمي إلى تغيير واقع المجتمع لينسجم مع مقتضيات النص الشرعي، عبر محاكمة الفكر السائد والمجتمع القائم، كما نجد عند المجيدري و ابن الحاج إبراهيم.

وقد سعى مشايخ التصوف الطرقي منذ الشيخ المختار الكنتي إلى التوفيق بين هذه المشاريع، لتتعايش فيما بينها وتتسامح مع المشروع الصوفي نفسه.

و ساهم ازدهار الطرق الصوفية في تحول أبرزها إلى مشاريع سياسية، كما هي حال القادرية الكنتية والتجانية العمرية اللتين اصطدمتا فيما بينهما – في النهاية – كما اصطرعتا مع دولة ماسينا الإسلامية، وكانت نتيجة ذلك انهيار القوى الإسلامية الثلاث، مما أغرق «ولاتة» وأحوازها في حالة من الخوف واضطراب شبكة التموين بالحبوب والمواد الأساسية، وازدياد الخوف من خطر المستعمر المتربص. في هذا السياق نشأ الولاتي.

3.الولاتي: سياق النشأة وملامح المشروع.

نشأ الولاتي في حاضرة كانت قد بدأت في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري تجتر تاريخها الحافل بالعلم والعلماء كما سجله ابن المدينة البرتلي في بداية هذا القرن ضمن كتاب فتح الشكور الذي يمكن اعتباره محاولة لمغالبة نسيان ماضي المدينة المشرق بصورة لا تخلو من بعض الشجن.

وواصلت “دور التلاميذ”6 استقبال طلاب العلم بصورة آلية، ولو بعدد أقل من المدارس والطلاب. ومع أن «ولاتة» لهذا العهد لم تعد كما كانت، فإن عطاءها لم يكن قد توقف، فما زال في مدارسها شيوخ وما زال في مكتباتها ذخائر.

في هذه المدينة التي كانت تعتز بماضيها وتشفق لحاضرها وتقلق لمستقبلها، نشأ محمد يحيى بن محمد المختار بن الطالب عبد الله العلوشي الداودي، المعروف خارج مدينته بـــنسبته إليها (الولاتي)، وداخلها بلقبه العلمي (الفقيه) (1259- 1330هـ./1843- 1912م.)7. ويبدو أن المنية عاجلت أباه فنشأ الولد يتيما، ضمن أسرة علمية مرموقة، حيث كان جدّه8 وعمّه9 من مشاهير علماء المدينة.

غير أن هذا اليتم الشخصي الذي حرم الفتى من الأخذ مباشرة عن أسلافه، ويتْم مدينته العام الناتج عن تراجع مكانتها بالنسبة لما كانت عليه، لم يمنعاه من النهل مما ظلت مدارس المدينة ومكتباتها تزخر به من تراث علمي يانع رغم عاديات الزمن.

بل إننا لنعتقد أن هذا اليتْم المزدوج قد وجه الرجل وجهة عصامية في تحصيله ومساره العام. هكذا اختار بعد مراحل الطلب الأولى أن يعول على الدراية أكثر من الرواية، فأقبل على ذخائر مكتبات المدينة العامرة، متخذا من مطالعة الكتب منهجا للتحصيل ومن نسخها مهنة ومصدر رزق.

ولعله قد تولد لديه من كل ذلك ميل أصيل إلى الاستقلال في النظر والتعمق في البحث والإمعان في المطالعة الحرة المستقصية، والتعويل على الوصول إلى الحقيقة دون محاباة أو مغالطة.

ولا يبعد أن يكون لهذا التوجه بعض الأثر فيما عرف عن الولاتي من قوة العارضة في الحجاج وتوخي الانسجام في صياغة الخطاب، والتحرر من وصاية العلماء في عصره وقطره.

وقد تعزز هذا المنحى لدى الولاتي بعد رحلته الحجية المشهورة.

4.الرحلة: سياحة في فضاءات العالم والعلم:

لم يكن توجه الولاتي إلى الحج مجرد تنقل في المكان، بل كان فضلا عن ذلك رحلة في الوعي، ومناسبة للتماس مع هموم العصر.

ولم يكن الولاتي بدعا في ذلك، بل سبقه كثيرون من قومه دوّن بعضهم رحلته وبعضهم لهم يفعل. وكانت الرحلة حاسمة في التطور الفكري لبعضهم، كما هو حال التنواجيوي والمجيدري اللذين رجعا من الرحلة بدعوات جديدة، على عكس آخرين، وهم الأكثر، ممن لا يبدو أن الرحلة قد تركت كبير أثر في مسارهم الفكري.

فأين كان الولاتي من هذين النموذجين؟

لاشك أنّ الرحلة الحجية لم تقلب مسلمات الولاتي ولم تغير رؤيته بصورة حاسمة. ذلك أن الرجل كان قد بلغ مرحلة النضج سنّا وعلما قبل توجهه إلى الحج، وكان ملاقوه في الرحلة، بمن فيهم الفقهاء، يتعلمون أو يستفتون، تثبّتا في أكثر الأحيان، وتحديا أو عنادا في حالات نادرة. أي أنه في علاقاته ولقاءاته أثناء الرحلة كان في الغالب معلما لا متعلما.

ومع ذلك لا يمكن إغفال التأثير القوي لهذه الرحلة في تشكيل المنظومة الفكرية التي صاغها الولاتي في العشريتين الأخيرتين من حياته. غير أنّ هذا التأثير يبدو أقرب إلى تأكيد توجهات سبق منه التعبير عنها قبل الحج ثم بلورها أثناءه أو بعده بصورة أكثر بروزا.

وما دام أن منهج الرجل المفضل في التحصيل هو المطالعة، فلا غرو إن كانت أقصر الطرق إلى عقله هي إمداده بالكتب. ولعل العلماء والأفاضل الذين التقوه في هذه الرحلة قد انتبهوا لذلك فتباروا في إتحافه بأمهات الكتب التي كان أغلبها حديث النشر.

وسنتوقف سريعا عند محطتي الإسكندرية وتونس من هذه الرحلة، على طريق الإياب.

4.1 الحوار مع الشاطبي:

نزل الولاتي في الإسكندرية عند السيد أحمد حمزة، أحد فضلاء المدينة وأدبائها النابهين، المتشوفين للقاء علماء الحجاج الشناقطة. إذ لا يبعد أن يكون هو نفس الأديب أحمد حمزة المذكور في رحلة عالم شنقيطي آخر 10.

ولم يقتصر أحمد حمزة هذه المرة على استضافة الولاتي، والاستفادة من علمه، بل أصر على استدعاء نخبة العلماء للاجتماع به. ويسرد الولاتي أسماء بضعة وعشرين ممن لقيهم من علماء مدينة الإسكندرية وأعيانها، وإجازاته لبعضهم، واستجازته من البعض منهم في الفقه الشافعي خاصة.

وقد تبارى الفضلاء الإسكندرانيون في إتحاف الولاتي بنفائس الكتب، فعد منها في رحلته ما يناهز الخمسين من المجلدات المهداة إليه في هذه المحطة. ويستشف من كلام الولاتي أن هذه الكتب كانت إهداء من مكتبات مضيفيه، إلا كتاب الموافقات للشاطبي فإنه يذكر أن أحد مضيفيه اشتراه له، مما يعني أنه كان مهتما بالحصول عليه خاصة، حتى لقي من اشتراه له من سوق الكتب.

ويعتبر كتاب الموافقات لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت. 790 هـ.) ضريبا لمقدمة معاصره ابن خلدون(ت. 808 هـ.) باعتبار ما تعرضا له من الإهمال طيلة القرون الخمسة التي تلت تأليفهما، وما استقبلا به من الحفاوة عندما طبعا لأول مرة. فقد اقتصرت العناية بالموافقات بعيد تأليفه على نظم وضعه تلميذ للمؤلف من مدينة وادي آش، وبقيت من هذا النظم نسخة يتيمة بخط الناظم الذي لم يحسم أمر هويته بعد.

غير أنه ما إن طبع كتاب الموافقات، لأول مرة بتونس سنة 1302 هـ، حتى تلقفه دعاة النهضة الإسلامية وتواصوا على العناية به وتكوين النشء عليه، وأصبح المدخل المقاصدي من أهم مداخل مشروع الإصلاح لدى قادة التجديد في الفكر الإسلامي منذ الإمام محمد عبده حتى الجابري11.

ومن اللافت اهتمام علماء الشناقطة بهذا الكتاب في مرحلة مبكرة من تاريخ الاعتناء به. فقد اكتشف محمد محمود التركزي الشنقيطي في رحلته العلمية للبحث عن الكتب العربية في خزائن اسبانيا سنة 1305 هـ. مخطوطة نظم الوادي الآشي الفريد لكتاب الموافقات في مكتبة الأسكوريال، بخط الناظم نفسه. ونبه الشنقيطي إلى أهمية هذا المخطوط، لأنه: “سفر لا نظير له في الدنيا”ومن الواجب “أن يستنسخ ويطبع في بلاد المسلمين لاحتياجهم إليه عموما، خصوصا المالكيين منهم، والحنفيين”12.

وفي السنة الموالية (1306 هـ.) يذكر الشيخ ماء العينين أنه حظي بنسخة من كتاب الموافقات مبديا إعجابا كبيرا بهذا الكتاب13، وألف نظما للكتاب أسماه موافق الموافقات، ثم شرحه بكتاب المرافق على الموافق،14.

وقد كان الولاتي ضمن هذا الرعيل الأول من المعتنين بكتاب الموافقات تلخيصا ومناقشة وتعليقا، بتأليفه كتاب توضيح المشكلات في اختصار الموافقات.

مع أن الولاتي لم يفصل القول حول منهجه في تلخيص الموافقات، كما فعل في مقدمة تلخيصه لكتاب نشر البنود على مراقي السعود، إلا أن الظاهر أنه اعتمد في توضيح المشكلات أسلوبا مقاربا لمنهجه في فتح الودود، وهو المنهج الذي أوضحه بقوله: “أردت أن أختصره مع الإيضاح والتفسير لعبارته بعبارة ذات بيان وتحرير ليسهل الإقراء به ومطالعته على المبتدئين، وتتضح معانيه ومقاصده للعلماء المنتهين، مع أني استكملته في التقييد إلا قليلاً مما لا يجدي لكونه لا يثمر أو لكونه عليلاً”15.

ويتعيّن مثل هذا المنهج أكثر في حق كتاب الموافقات الذي قيل إن من أسباب إهماله بعيد تأليفه تعقيد بعض عباراته وغموض كثير من إشاراته.

ولم يكتف الولاتي بصقل عبارات الشاطبي وتـجليتها، بل ناقشه في كثير من أحكامه ورد عليه بعض آرائه.

فمن ذلك رده على قول الشاطبي بجواز وصال الصوم وسرمدة العبادة، حيث يقول الولاتي “ما ذكره المصنف من أن الوصال في الصوم وسرمدة العبادة يجوز لمن لا تلحقه مشقة تصده عن حوائجه وضروراته (..) إلى آخر كلامه، خطأ واضح، لأن الوصل حرام بصريح الحديث الصحيح، وليست العلة في تحريمه مجرد المشقة (..) بل للإعراض عن ضيافة الله تعالى للصائم بما شرع له من الفطور والسحور (..) فمن واصل من الزهاد (..) فقد اقتحم النهي وأعرض عن ضيافة الله تعالى له بالفطور والسحور، فلا يعد ذلك كرامة، بل هو نقص وتنطع وابتداع.”16

ويصرح بالرد على الشاطبي في مسألة تصريح الولي بكرامته، حيث يذكر أن “قول الشاطبي: إلخ…، خطأ واضح، لأن السبب الذي أظهر النبي صلى الله عليه وسلم الخارق لأجله، وهو الوحي والتشريع، منــتف في حق الولي قطعا، فمن رأيته يتسبب في إظهار

الكرامة ويقصد إليها فاعلم أنه ليس من حزب الله و لا من أوليائه”17 . ثم يختم الولاتي حواره مع الشاطبي حول هذه النقطة بأسلوب بعيد عن منطق المحاباة: “فما قاله المصنف (= الشاطبي) من أن الولي يجوز له القصد إلى إظهار الخارق لمعنى شرعي لا لحظ نفسه، لا أصل له شرعا”18

4.2 مع رجالات “العروة الوثقى”

توجه الولاتي من الإسكندرية إلى القاهرة، لكن إقامته بها كانت قصيرة جدا، فلم يلتق بعلمائها ومصلحيها.

أما في تونس، فقد أقام نحو ثلاثة أشهر (من 14 رجب19 إلى 11 من ذي القعدة20 سنة 1314)، فأتاحت له هذه المدة فرصة اللقاء مع كبار العلماء والوجهاء.

وكما في الإسكندرية تبارى العلماء في إكرام الولاتي وإتحافه بالهدايا الثمينة، لاسيما الكتب، وأثبت كل ذلك في الرحلة. ونوه الولاتي في تونس بأحد “فضلائها وعلمائها سيدي محمد باشا طبج ” قائلا إنه “أحبنا محبة عظيمة وعاشرنا معاشرة حسنة طيبة، وتوسط لنا في هدايا أوصلها إلينا من بعض أعيان الناس”21. وقد ترجم باش طبجي للولاتي ترجمة حافلة22 تظهر مدى إعجابه بعلمه وفكره وشخصه، كما ذكر جانبا من مطارحاتهما حول المذاهب الفقهية، لاسيما المالكي والحنفي، مقارنة بين قواعدهما، وسبل إجراء أحكامهما، حيث كان باش طبجي حنفيا في مذهبه، لكنه كان مستقلا في فكره، إصلاحيا في توجهه. وله تأليف في الأصول23 يظهر تأثره بموافقات الشاطبي كما هو حال أغلب المصلحين في عصره.

وقد يكون لهذه المذاكرة حول أصول المذهب الحنفي بعض الأثر في ميل الولاتي إلى طريقة الحنفية في علم الأصول، المعروفة بطريقة الفقهاء24، كما يظهر من شرحه لأصول البزدوي25.

غير أن الأهمية الخاصة لهذه المحطة في رحلة الولاتي إنما تعود في الحقيقة إلى لقائه مع رواد الإصلاح في تونس لذلك الوقت بزعامة الشيخ سالم بوحاجب26 الذي يعتبره الولاتي “من فضلاء (تونس) وعلمائها الذي تنتهي إليه الكلمة عندهم في الفتوى”27 ومحمد السنوسي28 الذي تحدث عنه باعتباره “من فضلاء تونس وعلمائها”29، وأنه أهداه كتبا منها “كتاب المجلة في جزء”30.

كان الشيخ بوحاجب وتلميذه السنوسي من كبار مناصري دعوة الإمام محمد عبده، وقد اشرفا على تأسيس الفرع التونسي السري لجمعية “العروة الوثقى”31.

وصادف ورود الولاتي إلى تونس تأسيس “الجمعية الخلدونية”32 التي كانت بمثابة الذراع التربوي العلني لجمعية “العروة الوثقى”33، حيث تولى سالم بوحاجب إلقاء درسها الافتتاحي.

إن هذه الرحلة، بمختلف محطاتها، قد أتاحت للولاتي أن يطلع على أوضاع العالم الإسلامي، وكبريات القضايا الفكرية المطروحة عليه، ومقارنتها بأوضاع بلده وقضاياه.

ولعلها قد ساهمت في بلورة رؤية الولاتي النقدية الصارمة ووعيه الحاد بالفجوة الواسعة بين مقتضيات الشرع ومنظومة الأعراف الجاري بها العمل في مدينته وبلده، بما يختلط فيها من حق وباطل، وما ينجر عن ذلك من حيف في حق العباد وتهاون في أمور العبادة.

وقد جسد الولاتي هذه الرؤية في مشروع فكري يرمي إلى إحياء رسوم الدين في المدينة وصولا إلى إصلاح أوضاع المجتمع.

5. المدينة والمجتمع

في عصر الولاتي وقطره، كان أغلب العلماء تقليديين يقرؤون النصوص القديمة، بعيون مؤلفيها في العصور الغابرة، ويستعيدون متونها غافلين عن التطورات اللاحقة، ويفتخرون بأنهم لم يزيدوا حرفا واحدا على ما كتب سابقوهم، وأن العهدة على المنقول عنهم، “وكفى الله المؤمنين القتال”.

أما الولاتي فمن الواضح أنه لم يكن يقرأ النصوص إلا ليتدبرها بهدف استثمارها في إصلاح أوضاع مجتمعه.

كان يطالع بعينين فاحصتين وعقل يقظ: عين تنظر في النص وأخرى ترنو إلى الواقع، وعقل يقارن بينهما محللا ناقدا. أي أنه كان أقرب إلى ما يمكن أن نسميه “الفقيه العضوي”.

وتجسد رد الفعل المعارض لهذا النموذج في حركة طهرية إسلامية هي حركة المرابطين التي هاجمت أطراف الدولة الشمالية فحطمت أودغست كبرى مدن التجار المسلمين، حيث يذكر البكري أن المرابطين “استباح(وا…) حريمها وجعلوا جميع ما أصابوا فيها فيئا (…)، وإنما نقموا عليهم أنهم كانوا تحت طاعة صاحب غانة وحكمه” .

وبالمقابل، نشأت في جنوبي الدولة الهرمة حركة طهرية مضادة ذات منزع وثني، هي حركة الصوصو المناوئة للسياسة الغانية المنفتحة على المسلمين. والمفترض أن الصوصو هم من أخضع غانا الوثنية وحطم مدينة غانا الإسلامية.

2. “بيرو”، “إيولاتن”، «ولاتة»، أسماء وعصور:

كانت «ولاتة» أو “بيرو” كما كانت تدعى في “العهد الغاني”، بمثابة امتداد لمدينة التجار المسلمين في “غانة”. فقد لجأ إليها تجار العاصمة الغانية الخائفين من بطش “الصوصو” حيث شكلوا جيشا لحمايتهم من المخاطر التي تتربص بهم من الجنوب والشمال، قبل أن يسيطر ملك مالي، أو التكرور كما يسميه المقري الجد، على “كورة إيولاتن وأعمالها” .

في هذا العهد “التكروري” أصبحت “بيرو” تدعى “إيولاتن” حيث تبدو مدينة صنهاجية مسوفية تحت سيطرة ممثل السلطان المالي الذي كان يكتفي بحفظ الأمن والجباية، أما غير ذلك من الشؤون العامة فقد كان موكولا للقاضي. واستمر هذا النظام طيلة حكم السونغاي، بل زاد اعتبار “أساكي السونغاي” لمكانة رجال الدين في المدن التجارية.

وعند ما تراجعت «المنظومة التكرورية» إثر سقوط دولة السونغاي (999 هـ./1592م.) بدأت «المنظومة الشنقيطية» في التبلور بملامحها الثقافية المميزة (انتشار العربية اللهجية، تغلب نموذج عمود النسب والقبيلة العربيين، انتشار الأدب العربي الفصيح “النهضة الشعرية”، البداوة العالمة ، التعمق في المباحث العلمية المتنوعة: علم الكلام، التصوف، المساجلات الفكرية والأدبية، إلخ..).

عربت كلمة “إيولاتن” لتصبح «ولاتة» في بدايات “العهد الشنقيطي” ، وكانت المدينة في مستهل هذا العهد بمثابة رأس الجسر. فعن طريق علمائها انتقلت أسانيد «المنظومة التكرورية» الأثيلة إلى علماء «المنظومة الشنقيطية» الناشئة، وفي مدارسها تشكلت التقاليد العلمية الجديدة (التفنن في المباحث الكلامية، انتشار الشعر العربي الفصيح والتأنق في تطوير أشكاله رغم التهيّب الواضح فيما يتعلق بالمضامين ).

وتفاعلت «ولاتة» مع المراكز الثقافية الأخرى ضمن الفضاء الشنقيطي فاستقبلت طلبة الحواضر والبوادي القريبة والبعيدة، كما فتحت مدارسها للعلماء المدرسين الوافدين من الحواضر الأخرى و من البادية العالمة .

وتعرضت مكانة الفقه والفقهاء في «المنظومة الشنقيطية» إلى تحولات بنيوية ووظيفية عميقة. فعلى المستوى البنيوي أصبح الخطاب الفقهي عرضة لمزاحمة أنواع الخطاب الأخرى (الخطاب الصوفي، و الكلامي، والأدبي..). وعلى المستوى الوظيفي لم تعد للفقيه مكانة ثابتة ضمن أجهزة الدولة المركزية كما كان عليه الحال في عهد سيادة «المنظومة التكرورية»، لأن الدولة المركزية هي الغائب الأكبر في مشهد «المنظومة الشنقيطية».

غير أن فك الارتباط مع الدولة المركزية الآفلة لا يعني انفكاك الفقيه عن شؤون مجتمعه وشجونه، لاسيما قضية التوفيق بين واقع المجتمع ومقتضيات الشرع. وقد تبلور التعاطي العلمي مع هذه القضية الجوهرية في جملة مشاريع فكرية يمكن تصنيفها إلى مجموعتين:

• مشاريع ذرائعية تركيبية تتوخى التسويغ البعدي للأوضاع والممارسات الاجتماعية عبر تكييف النص لتشريع واقع المجتمع، في نوع من محاكمة النص بدل المجتمع، كما في نوازل ابن الأعمش والشريف حمى الله، و كما نجد عند الشيخ محمد المامي في كتاب البادية أو رسالة الذب بالشريعة عن العشيرة.

• مشاريع نقدية تفكيكية ترمي إلى تغيير واقع المجتمع لينسجم مع مقتضيات النص الشرعي، عبر محاكمة الفكر السائد والمجتمع القائم، كما نجد عند المجيدري و ابن الحاج إبراهيم.

وقد سعى مشايخ التصوف الطرقي منذ الشيخ المختار الكنتي إلى التوفيق بين هذه المشاريع، لتتعايش فيما بينها وتتسامح مع المشروع الصوفي نفسه.

و ساهم ازدهار الطرق الصوفية في تحول أبرزها إلى مشاريع سياسية، كما هي حال القادرية الكنتية والتجانية العمرية اللتين اصطدمتا فيما بينهما – في النهاية – كما اصطرعتا مع دولة ماسينا الإسلامية، وكانت نتيجة ذلك انهيار القوى الإسلامية الثلاث، مما أغرق «ولاتة» وأحوازها في حالة من الخوف واضطراب شبكة التموين بالحبوب والمواد الأساسية، وازدياد الخوف من خطر المستعمر المتربص. في هذا السياق نشأ الولاتي.

3. الولاتي: سياق النشأة وملامح المشروع.

نشأ الولاتي في حاضرة كانت قد بدأت في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري تجتر تاريخها الحافل بالعلم والعلماء كما سجله ابن المدينة البرتلي في بداية هذا القرن ضمن كتاب فتح الشكور الذي يمكن اعتباره محاولة لمغالبة نسيان ماضي المدينة المشرق بصورة لا تخلو من بعض الشجن.

وواصلت “دور التلاميذ” استقبال طلاب العلم بصورة آلية، ولو بعدد أقل من المدارس والطلاب. ومع أن «ولاتة» لهذا العهد لم تعد كما كانت، فإن عطاءها لم يكن قد توقف، فما زال في مدارسها شيوخ وما زال في مكتباتها ذخائر.

في هذه المدينة التي كانت تعتز بماضيها وتشفق لحاضرها وتقلق لمستقبلها، نشأ محمد يحيى بن محمد المختار بن الطالب عبد الله العلوشي الداودي، المعروف خارج مدينته بـــنسبته إليها (الولاتي)، وداخلها بلقبه العلمي (الفقيه) (1259- 1330هـ./1843- 1912م.) . ويبدو أن المنية عاجلت أباه فنشأ الولد يتيما، ضمن أسرة علمية مرموقة، حيث كان جدّه وعمّه من مشاهير علماء المدينة.

غير أن هذا اليتم الشخصي الذي حرم الفتى من الأخذ مباشرة عن أسلافه، ويتْم مدينته العام الناتج عن تراجع مكانتها بالنسبة لما كانت عليه، لم يمنعاه من النهل مما ظلت مدارس المدينة ومكتباتها تزخر به من تراث علمي يانع رغم عاديات الزمن.

بل إننا لنعتقد أن هذا اليتْم المزدوج قد وجه الرجل وجهة عصامية في تحصيله ومساره العام. هكذا اختار بعد مراحل الطلب الأولى أن يعول على الدراية أكثر من الرواية، فأقبل على ذخائر مكتبات المدينة العامرة، متخذا من مطالعة الكتب منهجا للتحصيل ومن نسخها مهنة ومصدر رزق.

ولعله قد تولد لديه من كل ذلك ميل أصيل إلى الاستقلال في النظر والتعمق في البحث والإمعان في المطالعة الحرة المستقصية، والتعويل على الوصول إلى الحقيقة دون محاباة أو مغالطة.

ولا يبعد أن يكون لهذا التوجه بعض الأثر فيما عرف عن الولاتي من قوة العارضة في الحجاج وتوخي الانسجام في صياغة الخطاب، والتحرر من وصاية العلماء في عصره وقطره.

عبد الودود ولد عبد الله (ددود) جامعة نواكشوط  /.  لاستكمال النص يرجى الضغط على مستند “الوورد”  التالي:

Word - 279 كيلوبايت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى