يهود الحجاز …وكفار قريش..(القصة الكاملة)
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله تعالى على نبينا الحبيب إن اتساع مجال الاتصال بين السذَّج ودعاة حرية الرأي والتطفل على العلوم، والاستطالةَ في تزوير الوقائع وبتر التاريخ، وطغيان المادة وهيمنتها على العقول، قلب الحقائق في أذهان كثير من العوام وغيَّر لديهم الذوق والفهم لشؤون هذه الحياة الدنيا فضلا عن الإيمان بالمغيبات، فنشأ عن ذلك ضعف الإيمان وتحكيم العقل المجرد، وصار الذب عن الجناب النبوي المعظم يستدعي كشفا لما أدركنا من أسرار أحكامه العادلة تحصينا للعامة ودرء لمكايد الأعداء.
وردعا للمتعاطفين مع من انتهكوا حرمات الله , فلم يغضبوا لله ورسوله -تحت غطاء القانون الدولي وحقوق الإنسان – ومن أمثالنا الشعبية : (الِّي ماهُ مَفْكُوعْ اصْلِيحْ) قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود الحجاز هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة – بمقتضى بيعة العقبة في الظروف المدونة في كتب السيرة- وفيها ثلاث قبائل من اليهود: بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج ، والنضير وقريظة وهم حلفاء الأوس . (الروض الأنف (2/ 398) معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم ليهود المدينة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم ما يضمن لهم الأمن على أنفسهم وأهليهم وأموالهم وهو ما يعرف الآن ب”حقوق المواطنة”. في صحيفة تضمنت نحو عشرة بنود. (السيرة الحلبية 2/291 ) نقض اليهود لهذه المعاهدة لم تمض السنة الثانية للهجرة حتى أخذ اليهود يُمِرُّون حبال الخداع وينصبون حبائل الغدر وينقضون العهود بأسوإ الأفعال وأبشع الأساليب. يتدرجون من سيء إلى أسوأ لا يراعون حرمة ضعيف ولا حقوق أمة ولا حسن جوار. “وهكذا اليهود أهل غدر وخيانة ونقض للعهود منذ بعث فيهم موسى عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة هم أغدر الناس بالعهد وأخونهم للأمانة ولذلك لا يوثق منهم أبدا لا صرفا ولا عدلا ومن وثق بهم أو وثق منهم فإنه في الحقيقة لم يعرف سيرتهمَ منذ عهد قديم” (شرح رياض الصالحين للعثيمين 2/363) غدر بني قينقاع لما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في بدر ونصره الله عز وجل عليهم جمع اليهود في سوق بني قينقاع، وقال لهم: (أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً) فقالوا: يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك إن قاتلتنا لعرفت أننا الناس فأنزل الله عز وجل في ذلك: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12].(سنن أبي داود باب كيف إخراج اليهود من المدينة من كتاب الخراج والفيء والإمارة برقم 3001) فكان أول من غدر منهم بنو قينقاع، وقد تمثل غدرهم في انتهاك حرمة امرأة , وقتل نفس . (المواهب اللدنية 1/232 ) – وأين ذلك من الإنسانية وحقوق المرأة؟ ومن كلام نبينا عليه الصلاة والسلام : [اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة] (أخرجه الحاكم في المستدرك 1/131) و [استوصوا بالنساء خيرا] (أخرجه مسلم باب الوصية بالنساء من كتاب الرضاع برقم 3644)- فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة وأجلاهم إلى أذرعات من غير أن يقتل منهم نفسا واحدة ولا أخذ شيئا من مالهم مع القدرة التامة على ذلك. ثم استمروا على حالهم فكانوا يتآمرون مع المنافقين في المدينة ويؤلبون الأعداء في الخارج على المسلمين. (سبل الهدى والرشاد 4/180) غدر بني النضير وبعد هذا على رأس ستة أشهر من وقعة بدر غدر بنو النضير بمحاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاهم في ما ينوهم بمقتضى المعاهدة من دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري غير عالم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمَّنهما. – وكان قتلهما أمرا بالإمكان أن يمر عابرا لولا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الوفاء بالذمم مع العلم أن هذه الدية مسلمة إلى أعداء معتدين قتلوا خيارا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومما يسهل الأمر أن بين بني النضير وبني عامر حلفا- . فلما كلم النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير قالوا: نعم يا أبا القاسم , فاجتمعوا وقالوا :من رجل يصعد على ظهر البيت فيلقي على محمد صخرة فيقتله فيريحنا منه فإنا لا نجد فرصة أمكن منه الآن فانتدب لذلك عمرو بن جحاش . فأوحى الله إلى نبيه بكيدهم فخرج كأنه يريد حاجة لئلا يؤذوا أصحابه وأخذ يجهز إليهم جيشا من المدينة فحاصرهم ست ليال. ثم بعث محمد بن مسلمة ليشرف على ترحيلهم وأجَّلهم عشرا ليخرجوا ولهم دماؤهم وما حملت الإبل إلا الحلقة فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام ولم يقتل منهم أحدا.(صحيح البخاري باب حديث بني النضير من كتاب المغازي الحديث رقم 4028) و (الروض الأنف 2/411) غدر بني قريظة لما أُجْلِيَ اليهود من المدينة سار جمع من كبرائهم :-حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف…- إلى قريش في مكة يدعونهم ويحرضونهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتوهم بأن دينهم خير وأهدى من دين النبي صلى الله عليه جاعلين من قلب الحقائق الدينية التي قرؤوا في كتبهم وسيلة لاستمالة قلوب أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وتأليبهم عليه وقالوا إنا سنكون معكم حتى نستأصله ثم جاؤوا إلى غطفان وقالوا لهم مثل ذلك وجعلوا لهم نصف تمر خيبر فجمعوا منهم ومن غيرهم عشرة آلاف رجل وزحفوا إلى المدينة وأهلها لا يزيدون على ثلاثة آلاف والإسلام محصور في المدينة يومئذ. أرادوا أن تكون هذه المعركة حاسمة في استئصال المسلمين , والقضاء على الإسلام في مهده. فأخذ المسلمون في حفر الخندق في ظروف صعبة وتركوا ناحية بني قريظة لأنهم لا يزالون على العهد ظاهرا، وعادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعامل الناس بظواهرهم. بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني قريظة غدروا فأراد أن يتثبت في الأمر فبعث لهم رجالا من أكابر الأنصار: سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد عبادة سيد الخزرج، وعبد الله بن رواحة، وأسيد بن حضير، وأوصاهم: إذا رأيتموهم على العهد فصرحوا بذلك وإلا فالحنوا لي ولا تفتوا في أعضاد الناس. فوجدوهم على أخبث ما يكون ؛ قالوا: من رسول الله لا عهد بيننا وأخذوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم , فرجعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: عضل والقارة وهي إشارة إلى أنهم نقضوا العهد كنقض أولئك الذين فتكوا ببعث الرجيع فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ابشروا!!! . (سبل الهدى والرشاد 4/374) لم تعد للمسلمين بعد نقض بني قريظة للعهد منطقة آمنة {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} فخرق الله العادة لنبيه ورد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا. رجع النبي صلى الله عليه وسلم لبيته , فدخل يغتسل بعد حصار دام عشرين يوما بين الحر والبرد والجوع والخوف. فبينما هو يغسل رأسه إذ أتاه جبريل عليه السلام يدعو للنفير إلى بني قريظة .(صحيح البخاري باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب , الحديث رقم 4117) هل يسوغ بعد ما قرأنا من الأخبار المسندة في كتب الأحاديث والسير أن يقال : إن بني قريظة “هموا بالغدر ولم يفعلوا”؟ نعم غدروا لكن وقى الله نبيه صلى الله عليه وسلم شر غدرهم فانكشف عنهم الأحزاب وبقوا ينتظرون سوء العاقبة , ما الرأي إذا في هؤلاء بعد ما رأينا من غدرهم في أحرج الأوقات مع ما كانوا عليه من خبث طويتهم وسوء معاملتهم , وهم مكرمون، وحقوقهم مكفولة لهم، وعهودهم مرعية؟ هل يتركون في المدينة ثغرا مفتوحا للأعداء يهدد كيانها، يدبرون المكايد بالتنسيق مع المنافقين الذين تربطهم بهم علائق متينة؟ فتذال أرواح ثلاثة آلاف مسلم مسالم بالحفاظ على أرواح عدد محصور من الكفار المعتدين الذين أثبت التاريخ والواقع أنهم ضرر محض؟ أم يُخرَجون إلى بلاد أخرى ليخلو لهم الجو لتأليب العرب على النبي صلى الله عليه وسلم وإشعال الحروب ضده كما فعل بنو النضير ومن معهم, وما عهد الأحزاب ببعيد؟. لا شك أن مجردالمنطق السياسي-بغض النظر عن كون الأمر وحيا إلهيا – يحكم بضرورة قتل هؤلاء الخونة الذين لا يعتبر آخرهم بأولهم، ولا يجدي في ردهم إلى سواء السبيل الرفق وحسن المعاملة و الحكمة والموعظة الحسنة،. خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم امتثالا للأمر الإلهي , فحاصرهم وناداهم: «يا إخوة القردة والخنازير» إيماء إلى قوله تعالى {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ} فهم إخوتهم من حيث وقوع المسخ في طائفتهم الذين اعتدوا في السبت (شرح الشفا للقاري (2/ 422) وهذا تذكير منه صلى الله عليه وسلم لهم بما جربوا من شؤم المخالفة ليتعظوا “وقد صبر لهم صلى الله عليه وسلم على سحره وسمه وهو أعظم من سبه”(الشفا بتعريف حقوق المضطفى 2/504) وقد أعذر لهم , وتبين في غدرهم , وجعل أمرهم إلى حلفائهم من الأوس فقال لهم : أما ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا بلى , فقال : ذلك إلى سعد بن معاذ – وهو سيد الأوس حينئذ- فرضوا بذلك فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم –وقد كان سعد مريضا من جرح أصابه في غزوة الخندق- فلما أتى سعد قال : فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وتسبى النساء والذرية. (صحيح البخاري باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب من كتاب المغازي الحديث رقم 4122) والسيرة الحلبية 2/ 478) فهل ترك سعد رضي الله عنه حين قال في حكمه ” تقتل المقاتلة” مجالا للقول إن بني قريظة قتلوا “سيان منهم من هم بنقض العهد أو من لم يهم” أو للاستدلال في شأنهم بقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى}؟! وهل تصدق كلمة “الإبادة” على قتل الرجال المقاتلين وترك النساء والذكور غير المقاتلين؟ وقد بقي جمع منهم في المدينة لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمنهم ,- كما في شرح النووي على مسلم (12/ 91) – وبقوا في المدينة يعاملون أحسن معاملة ؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (لاتنسي جارنا اليهودي) , وقال لصحبه ذات يوم (اذهبوا بنا نعود جارنا اليهودي) عمل اليوم والليلة لابن السني (ص: 504) وقبض -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي. (صحيح البخاري باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الجهاد , برقم 2916) وهل بعد هذا التسلسل – إذا حكّمنا العقل ونظرنا إلى مجرد مقتضيات السياسة والأمن العام- خيار غير هذا الحكم؟ .. ألم يكن سعد في حكمه هذا أرأف ببني قريظة من رئيسهم كعب بن أسد الذي جعل لهم خيارا “بأن يحصدوا النساء والصبيان” , وهي جريمة بشعة ضد البرآء؟ , أين هذا من المدنية الحربية التي رسم النبي صلى الله عليه وسلم أسسها وأوصى بها جيوش المسلمين؟ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال [اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا و لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا] (أخرجه مسلم في صحيحه , باب تأمير الأمراء من كتاب الجهاد برقم1731) وقد نهى – صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء والصبيان وإنما قتل منهم الرجال المقاتلين خصوصا. هذا مع أن سر القضاء في أحكام الله تعالى لا يلزم إدراكه. فموسى لما وجد قومه يعبدون العجل غضب وألقى الألواح ودعاهم إلى التوبة قال {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} [البقرة: 54]فكان بعضهم يقتل بعضا من غير مبالاة حتى قتلت منهم سبعون ألفا. وهذا في التورية الموجودة عندهم. ( جامع البيان للطبري (10/ 463) فأي سرٍّ يفهم من هذا؟ أما أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فكلها معقولة لأن رسالته عامة باقية إلى قيام الساعة. يهود خيبر ووادي القرى بعد قتل المقاتلة من بني قريظة لم يعد اليهود يشكلون خطرا على المدينة من الداخل لكن رجوعهم بغيظهم في غزوة الأحزاب ووجود ملاذات آمنة لهم في خيبر ووادي القرى وتنسيقهم مع قريش وغطفان وغيرهم من أعداء الإسلام لا يزال يمثل تهديدا حقيقيا للدولة الإسلامية. بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية-حيث عقد الصلح مع قريش- في الأيام الأخيرة من السنة السادسة للهجرة استنفر إلى خيبر فتحصنت يهود في حصونهم وكانت حصونا كثيرة، ففتحها النبي صلى الله عليه وسلم حصنا حصنا واستشهدت عشرون من أصحابه رضوان الله عليهم ثم نزل أهل خيبر على حكمه صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم، ففعل.(الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر /197-200) فلم يقتل منها بعد فتحها شخصا واحدا لأنها صارت أرض صلح , بل عفا عن اليهودية التي حاولت قتله بالسم وقد اعترفت له بذلك ؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها فقيل: ألا نقتلها، قال: لا. ( صحيح البخاري باب قبول هبة المشركين من كتاب الهبة برقم 2617 ) وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، فافتتحها عنوة، وقسمها، وأصيب بها غلام له أسود يسمى مدعما أصابه سهم غرب فقتله.( الدرر في اختصار المغازي والسير (ص: 207) ولم يقتل بعد فتحها أحدا لأنها أُمنت بالفتح . هذا –باختصار- هو السياق الكامل لقصة النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود الحجاز سلما وحربا وصلحا , لئلا تكون لأعداء النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حجة على ضعَفة المسلمين , ببترهم للتاريخ وتقطيعه حسب أهوائهم الزائغة وأمزجتهم المنحرفة. قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش حصلت بين النبي صلى عليه وسلم وقريش عدة وقائع أشهرها بدر وأحد وفتح مكة , وسنقتصر من هذه الوقائع على مواضع الشبه التي يثيرها الأعداء. غزوة بدر كان أول مشهد قتالي عظيم يجمعه بقريش غزوة بدر الكبرى , فمنح الله عز وجل فيها المسلمين النصر وهزم المشركين وقُتل منهم سبعون منهم سادات قريش من بني عبد مناف وغيرهم وأُسر سبعون (الدرر في اختصار المغازي والسير (ص: 106) لمار جع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر بأسرى قريش وقد قتل بعضهم كالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط خير الله المسلمين بين قتل الأسرى وأخذ فدائهم فاختاروا الفداء ؛فعن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن جبرائيل هبط عليه، فقال له: خيرهم – يعني أصحابك – في أسارى بدر بين القتل أو الفداء على أن يقتل منهم قابلا مثلهم، قالوا: الفداء ويقتل منا ” (سنن الترمذي , باب ما جاء في قتل الأسارى والفداء من أبواب السير برقم 1567) ولم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ للأنصار في محاباة عمه العباس في الفداء ؛ فعن أنس رضي الله عنه: أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ائذن لنا، فلنترك لابن أختنا عباس فداءه، فقال: (لا تدعون منه درهما) ( صحيح البخاري باب إذا أسر أخو الرجل من كتاب العتق برقم 2537) أما فداء زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها لأبي العاص بن الربيع -كرما ومروءة وحسن عشرة- بالعقد الذي أرسلته من مكة , وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة [إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ]-وإن حاول أعداء النبي صلى الله عليه وسلم اليوم أن يثيروا منه شبهة – فلا إشكال فيه لأن القلادة مال مسلم، فلا يؤخذ في فداء كافر، مع أنه صلى الله عليه وسلم هو وليها فله رد تصرفها. وإنما الفداء حقيقة رد زينب إلى المدينة “فقد أخذ عليه النبي صلى الله عليه وسلم عند إطلاقه أن يردها فوفى بذلك”.(مغازي الواقدي 5/164) وإليه الإشارة في الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه وسلم في حقه (حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي) فتح الباري لابن حجر (9/ 423) وأبو العاص لا يعرف له سابق عداء للمسلمين. والنبي صلى الله عليه وسلم له المن على الأسير من غير فداء ؛ فقد قال لأسارى بدر لو كان مطعم بن عدي حيا ثم حكمني في هؤلاء النَّتْنَى لأطلقتهم له. وفيه دليل على جواز إطلاق الأسير والمن عليه من غير فداء .(معالم السنن 2/289) وإذا نزلنا إلى مستوى الملحدين المكابرين : أليس لمن وهب أربعمائة دارع وثلاثمائة حاسر من يهود قينقاع بمالهم وأسلحتهم لعبد الله بن أبي المنافق – بعدما نقضوا العهد وأقدر الله نبيه عليهم – أن يرد لابنة النبي صلى الله عليه وسلم عقدا بعثت به من غربتها في الدين والأهل بين أعداء أبيها ليكون وسيلة لاستنقاذها منهم ؟! غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة خرجت قريش لغزو المدينة ثأرا لمن قتل من رؤسائها يوم بدر فالتقى الجمعان عند جبل أحد , فاستشهدت سبعون من المسلمين كما هو مقتضى التخيير الذي مضى في أسرى بدر , ومن مشاهير الشهداء يومئذ حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ,حدث وحشي بن حرب عن قتله لحمزة فقال: ” قال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، قال: فلما أن خرج الناس خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال كمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي، فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذاك العهد به) (صحيح البخاري , باب قتل حمزة بن عبد المطلب من كتاب المغازي برقم 4072) فوحشي يعترف بأنه إنما خرج أجيرا بعتق رقبته لقتل حمزة لا طلبا لثأر ولا حمية لقوم ولا دفاعا عن مبدأ, وأن مستأجره سيده جبير بن مطعم لا هند بنت عتبة كما يقول أعداء النبي صلى الله عليه وسلم اليوم. نعم مثلت هند بالشهداء وأعطت حليها لوحشي بعد انقضاء المعركة , لكنها لم تقتل , ولم تحرض على قتل حمزة بخصوصه ابتداء , وهي امرأة موتورة قتل يوم بدر أبوها عتبة وعمها شيبة وأخوها الوليد بن عتبة وابنها البكر. فلا وجه لمقارنة أعداء النبي صلى الله عليه وسلم اليوم بين وحشي وهند ؛فإن وحشيا قد قتل حمزة أجيرا وإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عنه مع ذلك لفسقه، فقد كان لا يفتر عن شرب الخمر حتى قطع عمر في خلافته عطاءه بسبب ذلك. قال عمر رضي الله عنه: قد علمت أنه لم يكن الله ليدع قاتل حمزة رضي الله عنه: أي لم يكن ليتركه من الابتلاء. وهذا أي تكرر حدّه في شرب الخمر. وإخراجه من ديوان المجاهدين من أقبح أنواع الابتلاء، عافانا الله من ذلك. السيرة الحلبية (2/ 339) فالإعراض عن وحشي من هجران الفاسق، وقد أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن من هو خير من وحشي كالثلاثة الذين خلفوا، وابن عمه أبي سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية المغيرة ونفى الحكم بن أبي العاص -عم عثمان بن عفان رضي الله عنه- إلى الطائف لتصرفات غير مرضية كانت له في المدينة , وتبرأ من فعل خالد بن الوليد -مع أنه سيف الله- لما قتل بني جذيمة بعد الأسر فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات. سيرة ابن هشام (2/ 430) نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم لوحشي –لما وصف له كيف قتل حمزة- إن استطعت أن تغيب عني وجهك (صحيح البخاري باب قتل حمزة بن عبد المطلب من كتاب المغازي برقم 4072)..لكنه كان في المدينة يمشي حيث شاء . وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع جماعة إلى مسجد الضرار وقال لهم: انطلقوا إلى المسجد الظالم أهله فأحرقوه (السيرة الحلبية (3/ 203) وحضر قتل مسيلمة وكان له قصر عظيم في حمص بين المسلمين وكان يحدث بقتله لحمزة بكل حرية.كما في الباب المتقدم ذكره من صحيح البخاري. أما هند فقد قدمت بها قريش مع نساء للتحريض ولئلا يفر الرجال في الميدان فلم تقاتل، وقد أسلمت وحسن إسلامها وقالت: يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك. ولم يولها النبي صلى الله عليه وسلم ولاية ولا شهد لها بالجنة. فأين العز في الإسلام –غير عز الإسلام الثابت لجميع المسلمين- الذي يدعي أعداء النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطي لهند. ومن أطلق عليها لقب “عزيزة في الكفر عزيزة في الإسلام” ؟! أما خالد بن الوليد ففضله وغناؤه بعد إسلامه مشهور , والإسلام يجب ما قبله, سمي سيف الله يوم أخذ الراية في غزوة موتة ففتح عليه بعد ما استشهد حملة اللواء من المسلمين ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره) فتح الباري لابن حجر (7/ 513) وشهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتح مكّة، فأبلى فيها، ، ثم شهد حنينا والطائف و هدم العزّى.وله رواية عن النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في الصّحيحين وغيرهما ، أرسله أبو بكر إلى قتال أهل الردة فأبلى في قتالهم بلاء عظيما، ثم ولّاه حرب فارس والرّوم فأثر فيهم تأثيرا شديدا وفتح دمشق.( الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (2/ 216) فأين حربة وحشي التي شارك بها في قتل مسيلمة –تحت لواء خالد- من مشاهد خالد بن الوليد مع النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه , حتى يستحق لقبا كلقب خالد.؟ وهل لوحشي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مقام يحمد له فيذكر به مع خالد؟ فلينشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم في شأن من ينتصرون له: فلو أن قومي أنطقتْني رماحُهم نطقتُ ولكنَّ الرماح أجَرَّت فتح مكة أما أهل مكة فقد كانت دارهم دار كفر، ولهم سوابق، لكنها فتحت بالسيف ؛ فعن أبى هريرة أنه حدث بفتح مكة قال: (ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالد ابن الوليد على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة بن الجراح على الحسر، وأخذوا بطن الوادى، فأمرنى رسول الله، فناديت بالأنصار فلما طافت به قال: أترون أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال: بيده إحداهما على الأخرى -: احصدوهم حصدا، حتى توافونى بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم من شاء إلا قتله. (شرح صحيح البخارى لابن بطال (5/ 205) فلما فتحت صارت دار إسلام , فحقن النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم -كما حقن دماء يهود خيبر ووادي القرى بعد فتحهما- وليس القتل مطلوبا إلا حيث تعذر غيره وهو نبي رحمة فمنَّ عليهم . وقال لهم -وقد اجتمعوا في المسجد فرارا من القتل- اذهبوا فأنتم الطلقاء.( المنتقى شرح الموطإ (3/ 220) وفي مباينة مكة فى أحكامها لسائر البلاد ما فيه مقنع , من أنها حرام، وأنها مناخ من سبق فلا تباع رباعها، ولا تكرى بيوتها، ولا تحل لقطتها، ولا تحل غنائمها، فليست تشبه مكة شيئا من البلاد. (شرح صحيح البخارى لابن بطال (5/ 205) قال الماوردي في أعلام النبوءة –بعدما ذكر حلم النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه عن قريش يوم الفتح , وقتله لبني قريظة – : إنما فعل ذلك –يعني قتل بني قريظة- في حقوق الله تعالى وقد كانت بنو قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل ومن لم تجر عليه استرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة فلم يجز أن يعفو عن حق وجب الله تعالى عليهم، وإنما يختص عفوه بحق نفسه.(أعلام النبوءة للماوردي /221-222) أما سؤال أعداء النبي صلى الله عليه وسلم : (أين راحت الرحمة) فجوابه-وإن كان سؤال ملحد مكابر- أن الرحمة حيث العصمةُ من تحكيم العواطف في مخالفة أحكام الله تعالى وحيث قال الله تعالى {لَقَدْ جاءكُمْ رسولٌ منْ أَنفُسِكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم} لكن “صبره- صلى الله عليه وسلم- على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان لله فإنه يمتثل فيه أمر الله تعالى من الشدة كما قال له تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وقد وقع له- صلى الله عليه وسلم- أنه غضب لأسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان فى أمر الله، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد فى الزجر. فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة- صلى الله عليه وسلم- ومن تأمل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحش الشارد، والطبع المتنافر والمتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاءهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا فى رضاه أوطانهم وأحباءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يُتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين، ولما كان عقله- صلى الله عليه وسلم- أوسع العقول لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعا لا يضيق عن شىء. فمن ذلك: اتساع خلقه العظيم فى الحلم والعفو مع القدرة وصبره- صلى الله عليه وسلم- على ما يكره، وحسبك صبره وعفوه- عليه السّلام- عن الكافرين به المقاتلين المحاربين له فى أشد ما نالوه به من الجراح بحيث كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد، حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شق ذلك على أصحابه شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إنى لم أبعث لعانا، ولكنى بعثت داعيا ورحمة، اللهم اغفر لقومى، أو اهد قومى فإنهم لا يعلمون” . (المواهب اللدنية 2/104/106) “وكان رحيما حتى بأعدائه ؛ قال ابن عربي: فلا ملك أوسع من ملك محمد صلى الله عليه وسلم فإن له الإحاطة بالمحاسن والمعارف والتودد والرحمة والرفق {وكان بالمؤمنين رحيما} وما أظهر في وقت غلظة على أحد إلا عن أمر إلهي حين قال له {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} فأُمر بما لم يقتض طبعه . (فيض القدير (5/ 171) ولو كان العداء للنبي صلى الله عليه وسلم وطول المكث عليه قاطعا لطريق عفوه وحلمه صلى الله عليه وسلم لقطعت رؤوس بما كسبت في حقه: ولو ان انتقامه لهوى النفـ ـس لدامت قطيعة وجفاء فهذا أبو سفيان بن حرب وقد قاد الحرب ضد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين وحزّب الأحزاب، وقد بعث من يقتل النبي صلى الله عليه وسلم غيلة يحظى بقول النبي صلى الله عليه وسلم –بعد إسلامه- [من دخل دار أبي سفيان فهو آمن]. وقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن هبار بن الأسود بن المطلب الذي نخس الجمل ببنته زينب رضي الله عنها لما أرسلها زوجها أبو العاص بن الربيع إلى المدينة فأسقطت وبقيت مريضة إلى أن ماتت وهذه جريمة مركبة من إهانة نبي، وهتك حرمة امرأة، وجناية إنسانية دنيئة مع أن هبارا هو ابن عدو مستهزئ . قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا هبار عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجب ما كان قبله) وجعل له حصانة من مجرد الإيذاء القولي بقوله صلى الله عليه وسلم له سب من سبك يا هبار. (السيرة الحلبية3/132, والروض الأنف 5/197) فمن الذي يسعه أن يغتفر هذه الفعلة الشنيعة.. ولو بعد حين؟ خلاصة القول أن من تأمل وقائع السيرة النبوية في سياقاتها الكاملة أدرك أن المبدأ الذي تقوم عليه سياسة العهد النبوي سلما وحربا هو أن تكون كلمة الله هي العليا وأن النبي صلى الله عليه وسلم يعفو ويصفح ويصبر على الأذى ما دام الحق له-وذلك له هو وليس لنا نحن العفو عن حقه- فإذا كان الحق لله انتقم لله. وأنه لا يقتل إلا حيث لا يكون من القتل بد وأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يتصرف انتصارا لنفسه أو الأخوة والعمومة…. لقتل أبا سفيان بن حرب الذي حاول قتله مرارا وحاربه ثماني سنين , ولقتل اليهود الذين سحروه في المدينة حتى تضرر من ذلك , واليهودية التي قدمت له السم في خيبر , ولقتل يهود بني النضير الذين وجد في خيبر وقد ألبوا عليه الأعداء وغزوه مع الأحزاب ولقتل هبار بن الأسود الذي أهان ابنته زينب رضي الله عنها وكان السبب في موتها , ولأذن للأنصار أن يتركوا الفداء لعمه العباس …إلخ محمد ولد بتار