العلامة ابن بيه وبرنامج «همومنا»
عبد الله بن بيه، ليس سياسيا فقط، قدر ما له في الفقه وعلوم الشريعة والدين، وهذا ما جعله يختلف عن أقرانه الآخرين ومختلفا عنهم أيضا، فالرجل لا تقدر ثروته بالمليارات، قدر ثروته المعرفية، وتواضعه الجم، واتباعه منهج العلماء الاجلاء في البحث العلمي، والابتعاد عن الشطط وركوب الموجة، ووضع علمه الشرعي في خدمة الدعاية السياسية، والسياسة بطبيعتها متحولة ومتغيرة وقصيرة الأجل، وهذا لا ينطبق على الدين، والسياسة دائمة التدخل في المناطق الملتهبة والمحرمات، وعبور نقاط المتشابهات والتلاعب بعواطف الناس، والهاب حماستهم، أو دفعهم للهياج والفوضى.
في الحلقة الأولى من سلسلة حلقات برنامج همومنا بجزئه الرابع، والذي استضيف فيها العلامة والشيخ عبد الله بن بيه، استاذ الفقه الاسلامي، وعضو المجامع الفقهية، تطرق فيها إلى أسباب الفوضى التي تعيشها المنطقة، وبخاصة في جانبها الديني، مؤكدا أن كثيرا من الفتاوى الراهنة، باحثة عن الأضواء والجمهور، وفيها استعجال وقصور في التأصيل، وهي بذلك فتاوى خادعة ومزيفة، وهدفها إحداث بلبلة بين الناس، لان الفتاوى لها ضوابط وأسس، ولا ترتبط بالأحداث السياسية والموقف منها، ما جعلها فتاوى مفخخة وقاتلة، ومغررة بشبابنا، ومؤدية في ذات الوقت الى إهدار طاقات الأمة، وتفرقها.
وينطلق ابن بيه من ثوابت رئيسة في معالجته الفكرية لما يسمى بالفتاوى الطائرة، والباحثة عن الشهرة، بأن ظاهرها ايجابي، وباطنها سلبي، كونها مؤثرة في العامة من الناس، ومسببة الاختلاط وتزييفا للوعي، وهادفة إلى ضرب مؤسسات الفتوى الرئيسة في العالم الاسلامي، والتطاول على المرجعيات، ومخالفة الاصول، من خلال اعتمادها على جزئيات لتكون محور الحكم الشرعي، بينما ينظر العلماء وكبار العلماء الى الجزئي من خلال الكلي وليس العكس.
من شروط الكمال فيمن يفتي أن يكون ذا أناة وتؤدة متوخيا الوسطية، وفي اللقاء الضافي يؤكد ابن بيه على أن السبب في الاعتماد على الجزئيات هو ضعف في الوعي الشرعي، وأيضا سوء في المنهجية التأصيلية المتبعة، ورغبة في الظهور والغلبة والاختلاف، ومخالفة العلماء، والخروج على الدولة والمجتمع باستسهال تكفيرهما، ومحاربتهم لها، وكأن هذا هو هدف الاسلام، بينما ما لم يقله ابن بيه أن بعضا من مفتي الفضائيات ومشاهير الاعلام الجديد، أصبحوا أدوات مجندة لخدمة سياسات دولية واقليمية، وان العبث بالأمن الفكري والشرعي للناس، هو هدف خلق الفوضى بين الناس، فعندما تختلط عليهم الفتاوى، يصبح الناس في حيرة من أمرهم، لكن العقلاء ممن يتخذون الفتوى من مؤسسات مستقرة ليست ذات علاقة باجندات سياسية أو أمنية أو من على ساحات الاعلام الجديد، بل على العكس ان الفوضى غير الخلاقة، تؤكد وتعزز مكانة العلماء الاجلاء، ومؤسسات الفتوى المرموقة.
وهنا يؤكد ابن بيه أن انضباط الفتوى ومنهجيتها، وعدم استعجال اطلاق الفتاوى قبل البحث المعمق، وقبل ادراك تحولات الحالة السياسية، ومعرفة طرائق العابثين بالأمن والاستقرار في المنطقة، يؤكد أن الانسان غير مطلق الحرية في تقرير أمر العامة انطلاقا من علو سلطة الكلي على الجزئي، ومن ينظرون لمصلحة الأمة، ويبتعدون عن الانخراط في سفاسف الأمور، ولا ينساقون بخديعة أو بمعرفة لتوجيهات خارجية، تهدف لضرب تقدم وتطور المنطقة من خلال فوضى الفتاوى، هم من يؤخذ برأيهم الشرعي، خاصة وأن الجهاد في الأصل كما يقول ابن بيه هو تدبير حكومي وليس للأفراد أن يقوموا به على ما يرونه أو يعتقدون بصحته، لان الجهاد الطلبي والفردي هو حالة من العبث والجنون ولا يقره الشرع.
وفي ذات السياق وفي مقابلات صحافية سابقة يؤكد ابن بيه على رد الفتوى لأهلها، ويرى أن من شروط الكمال فيمن يفتي أن يكون ذا أناة وتؤدة متوخيا الوسطية بصيرا بالمصالح وعارفا بالواقع متطلعا إلى الكليات ومطلعا على الجزئيات موازنا بين المقاصد والوسائل والنصوص الخاصة، ذلك هو الفقيه المستبصر ،لا بل ويطالب الجهات المختصة بأن تردع وتمنع غير الأهل من الفتوى.
ومن الآداب الواجب أن يتحلى بها المفتي من وجهة نظر العلامة ابن بيه قوله: ما قاله الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة. والثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته. والرابعة: الكفاية (أي من العيش) وإلا مضغه الناس. والخامسة: معرفة الناس.
ابن بيه علامة من نوع خاص، وهو شخصية اتسم سلوكها بالاعتدال والاستقلالية والنظرة الثاقبة، وهو شخصية لها تجربة في مقارعة الاستعمار وبناء الدولة، والمؤسسات المالية والاقتصادية الاسلامية، بفهم وسطي معتدل وليس بفكر ايديولوجي أو انفعالي، وانما كان شخصية معاصرة، لها في الثقافة والمعرفة والاتصال الانساني، وكان له موقف ورؤية واضحة من العلاقة مع ايران بعد اتخاذها الجانب المذهبي اداة لتحقيق نفوذها وتأثيرها في المنطقة.
هذا النوع من العقلاء والعلماء، هو من يسطع نوره، بمنطقه الشرعي، وابتعاده عن المخادمة المهلكة، والازدواجية المقيتة، وهذا النوع من العلماء الاجلاء ممن تحتاجهم الأمة، ويدرس على ايديهم العلوم الشرعية، ومقاربتها للأحوال السياسية والاجتماعية دون انفعال أو فتنة.
نقلا عن جريدة “اليوم” السعودية