الإخوان.. على درب بولس…
بين السياسة والفكر وشائج كثيرة.. تستثمر السياسة الفكر في الواقع محاولة تجسيد رؤاه بتوفيق نسبي. لكن الفكر، حين بناء تلك الرؤى يتجنب السياسة فيَزْوَرُّ عنها لاختلاف طرائقهما في بناء الخطاب. لذلك يجد المفكر صعوبة في ممارسة السياسة، ولا يفلح السياسي غالبا، حين يحاول التنظير…
ولعل مقاربات جميل تظهر بجلاء ما يلاقيه السياسي من عنت حين يتكلف التنظير… يلتزم السيد جميل حذر السياسيين منذ سطوره الأولى، فلا يحدد الذين يحاورهم بدقة، مخافة أن يخسر دعما، أو تعاطفا، وهو المقبل على انتخابات رئاسية وشيكة، فيستخدم التبعيض بإفراط..” بعض الإسلاميين… طائفة من السلفيين… يخلط البعض… بعض العلمانيين…” هذه لغة السياسة التي تترك الباب مشرعا لكل التأويلات، وهي بخلاف لغة العلم الدقيقة الهادفة إلى تحديد الإشكال بوضوح… فلا يمكن بناء معرفة علمية دقيقة على “بعض، وطائفة”. يستمر السيد جميل في ممارسة السياسة حيث يدعي التنظير فيستعين بصديق عند محاولته تعريف الديمقراطية! فلا يمكن الركون معرفيا، في تعريف الديمقراطية إلى مرجع واحد يبحث في “أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي”. فالسياسة هي موضوع الكتاب، وتأصيل الديمقراطية في الإسلام ليس من السياسة، وإنما هو عمل علمي أصيل، وعند التأصيل يستأنس الباحث بالمصادر المعتمدة في بابه، بدل الاستعانة بمراجع، و مجاهيل…
ينفي جميل عن نفسه البساطة ببساطة..”لست من البساطة بحيث…” لا يدرك أن لمصطلح الديمقراطية تاريخا. لكنه يجزم، فعل السياسي، أن الفصل بين المصطلح وتاريخه ممكن! ولتأكيد هذا الإمكان، يستعين من جديد بصديق آخر ومرجع جديد. ثم يكشف عن “مقاصده” بلغة متحفظة كعادة السياسيين الذين نشئوا في أحضان حركة سرية..”نود تصحيح العلاقة بين الإسلام والديمقراطية- من وجهة نظر معينة طبعا-…” في مقال من عدة صفحات سيصحح سيادته العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، من وجهة نظر يخاف الإفصاح عنها!!!
تبدأ عملية التصحيح بمفارقة عجيبة.. فقد أخبرنا، قبل سطور، مشكورا، أنه ليس من البساطة بحيث لا يدرك ارتباط المصطلح بتاريخه، لكنه يبادر فيؤكد إمكانية فصل المصطلح عن تاريخه، ليعود و يعترف، عند مباشرته الإصلاح..”أن للزمان وإضافاته، والمكان وخصوصياته والفكر وتطوراته دور في الاجتهاد السياسي في الإسلام.”
يدخل جميل صلب موضوعه فيستدعي الشورى مدخلا لتأصيل الديمقراطية، فيستعين، لأول مرة، بمصدر هو لسان العرب، يتتبع فيه معنى الكلمة بين العسل والشارة، ثم يستشهد بنقول يفهم منها وجوب الشورى، “وإنما هي أصل من أصول الدين” معتمدا على نصوص لشيوخه المحدثين (للقارئ أن يضبط حركة الدال كيف يشاء)، الترابي وسيد قطب رحمه الله، والغنوشي، ليصل، في ضوء تلك النقول إلى تكييف الممارسة السياسية أيام الخلافة الراشدة لتصوره المسبق، ليجزم أن تلك الممارسة “مترجمة لهذه الشورى”، فيلخص طريقة اختيار الخلفاء الراشدين تلخيصا مخلا لا يليق ببحث يدعي التأصيل، وينشد الإصلاح. يقول: “ففي السقيفة اجتمع رؤوس المهاجرين والأنصار لينتهي تداولهم ونقاشهم إلى اختيار أبي بكر رضي الله عنه، وليبايعه الناس في المسجد،…” لا يجهل متعلمو المسلمين ما دار في سقيفة بني ساعدة، وكيف انتهى الأمر إلى بيعة أبي بكر بالخلافة، وليس اختياره، كما يدعي جميل في محاولة تدليس على المسلمين بدعوى أن بيعة أبي بكر لم تنعقد في السقيفة، وإنما انعقدت بعد يوم من ذلك في المسجد. فلم يستخدم أحد لفظ “اختيار” في السقيفة، وإنما استخدموا لفظ “بيعة، وبايع”، فالروايات مشهورة، والمصادر معروفة نختار منها أوثقها عند أهل السنة؛ ن عمر ع فيما رواه رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهخاري بصحيح ال -عليه وسلم الله صلى -: “قد كان من خَبَرِنا حين تَوَفَّى اللهُ نبيه رضي الله عنهنا علي أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف ع: يا أبا والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكرما دنونا منهم بكر، انطَلِق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فل
ريدون يا معشر ن صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تلَقِيَنَا منهم رجلا تقرَبوهم، المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم ألاقيفة بني ساعدة، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينَّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سبادة، فقلت: قلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عفإذا رجل مُزَّمِّل بين ظهرانَيْهم، فالله بما هو أهله، ما له؟ قالوا: يُوعَك، فلما جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبهم، فأثنى على -هاجرين معشر الم -ثم قال: أما بعدُ؛ فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم ا، وأن تزلونا من أصلنرهطٌ، وقد دفَّت دافَّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يخجبتني وكنت قد زوَّرت مقالة أع -يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردتُ أن أتكلم ردت أن وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أ -أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر كر، فكان هو أحلمَ أتكلم قال أبو بكر: على رِسْلِك فكرهت أن أُغْضِبَه، فتكلم أبو بيهته مثلها، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بدمني وأوقر، ل، ولن أو أفضل منها، حتى سكت فقال: ما ذكَرْتُم فيكم من خير فأنتم له أهد إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وق الأمر يعرف هذايد أبي عبيدة بن فأخذ بيدي و -رَضِيتُ لكم أحد هذين الرجلين، فبايِعُوا أيهما شئتم فتُضرَب فلم أكره مما قال غيرَها، كان والله أن أُقدَّمَ -الجراح وهو جالس بيننا م أبو بكر، عنقي، لا يُقرِّبُني ذلك من إثم، أحبَّ إليَّ من أن أتأمَّرَ على قوم فيهائل من اللهم إلا أن تُسوِّل إلي نفسي عند الموت شيئًا لا أجِدُه الآن، فقال قمير يا معشر الأنصار: أنا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّك، وعُذَيقُها الْمُرَجَّب، منا أمير، ومنكم أ، فقلت: ابسُطْ قريش، فكثر اللَّغَط، وارتفعت الأصوات، حتى فَرِقْتُ من الاختلافتْه الأنصار”؛ يدك يا أبا بكر، فبسَط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثم بايعَ
لا يرد في الحديث أي ذكر للشورى، ولو كانت واجبة عند . 6830ي البخاراختيار الخليفة ما خفي ذلك على المهاجرين والأنصار، ولو كانت من أصول الدين لكان الاحتجاج بها آكد. لكن الذي حدث هو أن كل طرف بحث عن حجج تدعم موقفه، وأهليته للخلافة. ولا يستخدم لفظ الجمع في الحديث للدلالة على الأمة، وإنما للدلالة على المهاجرين أو الأنصار، وينهض الأفراد بدور رئيس في إدارة النقاش، وطرح المقترحات. فالصديق يقترح، بدل التحاكم إلى الشورى الواجبة في زعم جميل، اختيار أحد رجلين بناء على رأيه، وتنتهي بيعته إلى مبادرة عمر، أما البيعة العامة بعد يوم فهي تصديق على ما تم إبرامه في السقيفة. والدليل على أن ما حدث في السقيفة هو الأصل أن جميع المصادر تتحدث عن بيعة الصديق في السقيفة، وليس في المسجد، وهو ما جعل عمر بن الخطاب يصفها بأنها فلتة وقى الله شرها، والفلتة كانت في السقيفة ولم تكن في المسجد. وعلى هذا تأسست مكانة أهل الحل والعقد. (أنظر:ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1 و الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2).
يستمر جميل في رواية التاريخ على هواه..”وفي مرض وفاته دعا أبو بكر الناس إلى الاجتماع ليؤكد لهم ضرورة اختيار خليفة له قائلا “إن شئتم اجتهدت لكم رأيي” وكان الجواب “أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا” فأوصى لعمر رضي الله عنه…” فهل هذه شورى، أم طلب تفويض؟.. فالصديق يجمع الناس ليعرض عليهم “تفويضه”، لاختيار خليفته بدلا منهم، ويفوضونه فيعين عمر بن الخطاب. لنترك هوى جميل إلى رواية التاريخ لنعرف كيف أوصى الصديق لعمر. ما يجتزئه ابن منصور، اجتزاء مخلا، رواية ترد عند ابن قتيبة، في الإمامة والسياسة،
ج1، ص:19. فبعد أن ضمن الصديق موافقة كبار الصحابة على بيعة عمر، كما سيرد لاحقا في رواية الطبري، خطب في الناس، فقال:”أيها الناس قد حضرني من قضاء الله ما ترون، وأنه لابد لكم من رجل يلي أموركم ويصلي بكم ويقاتل عدوكم فيأمركم. وإن شئتم اجتمعتم فأتمرتم ثم وليتم عليكم من أردتم وإن شئتم اجتهدت لكم رأيي. فقالوا أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا.” لم تحدث شورى إذن، وإنما فوض الصديق من قبل العامة بعد أن اتفق مع الخاصة على شخص الخليفة القادم، لذلك استدعى عمر فدفع إليه كتاب تعيينه الذي لا ذكر فيه لشورى عامة ولا خاصة، وإنما هو الخليفة يوصي لخليفة من بعده دون أن يكون ملزما بالاستشارات التي قام بها لتطييب الخواطر..”بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة، آخر عهده في الدنيا نازحا عنها وأول عهده بالآخرة داخلا فيها: إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن تروه عدل فيكم فذلك ظني به ورجائي فيه، وإن بدل وغير فالخير أردت ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.” ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص19.
يستنتج من كتاب التكليف أن الصديق مارس صلاحياته، دون الإشارة إلى الشورى الخاصة التي أجراها مع كبار الصحابة، أو العامة مع الناس، وهو دليل على أنها غير ملزمة له، ولا تأثير لها في شرعية قراره الذي ينسبه لنفسه. كما أنه لا يأمرهم بخلع عمر إن بدل وغير، ولو كان ذلك من الدين، كما يزعم الإخوان وجوب الخروج على الحاكم الظالم، ما تركه.
تختلف رواية الطبري عن رواية ابن منصور اختلافا شديدا..” روى الطبري عن أبي السفر قال: “أشرف أبو بكر على الناس من كَنِيفِهِ وأسماءُ بنت عُمَيْسٍ ممسكته موشومةُ اليدين، وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإني والله ما آلَوْتُ من جهد الرأي، ولا وَلَّيْتُ ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سَمِعْنا وأطعنا”؛ تاريخ الطبري، ج2، ص:352. لا يرد في رواية الطبري شيء من هوى جميل. فهي لا تقول إنه دعا ليؤكد لهم ضرورة اختيار خليفة له، وإنما أشرف عليهم من كنيفه، و سألهم سؤال من لا يقف كثيرا عند الجواب، ثم انتقل سريعا إلى أسلوب خبري يبلغهم به اختياره، ويبرره لهم تطييبا لخواطرهم، وانتهت الشورى بأمر، وسمع وطاعة. وتقول رواية أخرى للطبري أن الصديق استشار بعض كبار الصحابة من تلقاء نفسه، وأمرهم بكتمان مشورته..” روى الطبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: “لما نزل بأبي بكر رضي الله عنه الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال أخبرني عن عمر، فقال: يا خليفة رسول الله، هو – واللهِ – أفضل مِنْ رَأْيِكَ فيه من رجل، ولكن فيه غلظة، فقال أبو بكر:..، لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئًا، قال: نعم، ثم دعا عثمان بن عفان، قال: يا أبا عبد الله، أخبِرْني عن عمر، قال: أنت أَخبَرُ به، فقال أبو بكر: علي ذاك يا أبا عبد الله، قال: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنْ ليس فينا مثلُه، قال أبو بكر رضي الله عنه: رحمك الله يا أبا عبد الله، لا تذكر مما ذكرْتُ لك شيئًا، قال: أفعَلُ، …” . في هذه الرواية نحن أمام أمر من أمور الخاصة، لا يتعدى الثلاثة يؤكد فيه الخليفة على الكتمان الشديد، وهو ما يعني أن لا دخل للعامة في شأن الخلافة. كل ذلك يدل على أن تدابير
الصديق في شأن من يخلفه كانت من اجتهاده، بدليل أن عمر سيتخذ تدابير أخرى مختلفة تماما. وقد برر اختلاف تدابيره عن تدابير سلفه بقوله:”ما أريد أن أتحملها حيا وميتا”، في إشارة إلى أن استخلاف الصديق له كان من اجتهاده، ولم يكن عن شورى تتحمل الأمة نتائجها لأنها واجبة وأصل من أصول الدين زعم جميل، نقلا عن شيخه الغنوشي!
عين عمر رضي الله عنه، وهو على فراش الموت، دون أن يستشير أحدا، ستة من أجلاء الصحابة..عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، وعلل اختياره بقوله:”إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنكم.” الطبري، ج2، ص580. و لا عبرة بعد ذلك برضى العامة وسخطها. و ما تلبث الشورى تنتهي بتفويض مرة أخرى. فقد حدد عمر ثلاثة أيام للوصول إلى اختيار خليفة من الستة، وحين وصلوا إلى اليوم الثالث دون اتفاق اقترح عبد الرحمن بن عوف طريقة للخروج من المأزق فتنازل عن حقه في الخلافة بشرط أن يختار هو الخليفة. قبل الخمسة المقترح، فاقترح عبد الرحمن أن يتنازل ثلاثة لثلاثة، فتنازل الزبير لعلي، وتنازل طلحة لعثمان، وتنازل سعد لعبد الرحمن، وبذلك انحصر التنافس في علي وعثمان.” ابن قتيبة الإمامة والسياسة، ج1، ص46.
لا يوثق ابن منصور روايته، كعادته، عند ممارسته الإصلاح والتأصيل، وإنما يقول: “…أشرف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على شورى عامة فخرج يتلقى الناس في أثقاب المدينة متلثما لا يعرفه أحد، فما ترك أحدا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من ضعاف الناس ورعاعهم إلا وسألهم واستشارهم، وفي رواية
أخرى حتى خلص إلى النساء المخدرات في الحجاب…” إلى أن نعرف صحة هذه الرواية من بطلانها سنضرب عنها صفحا لنورد رواية أخرى موثقة. يقول الطبري: “بعث عبد الرحمن إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار وإلى أمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التجّ المسجد بأهله فقال: أيها الناس، إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فقال سعيد بن زيد: إنا نراك أهلا لها. فقال: أشيروا علي بغير هذا. فقال عمار: إن أردت ألا يختلف المسلمون فبايع عليا، فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، إن بايعت عليا قلنا سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: إن أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عبد بن أبي ربيعة: صدق. إن بايعت عثمانا قلنا سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين؟ فتكلم بنو هاشم وبنو أمية…” ج2، ص583.
تظهر الرواية تسليم الناس الشورى للستة، وقبولهم تفويضهم الشورى لرجل واحد، ولم يحتج أحد بأن الشورى للمسلمين عامة، ولا أنها واجبة، أو هي أصل من أصول الدين، ولا ذكر للرعاع، وضعاف الناس، بله المخدرات، كما في هوى جميل، وإنما تحزب الناس وفق ولاءاتهم القبلية، “فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن أفرغ قبل أن يفتتن الناس”، فدعا عليا واشترط عليه العمل بالكتاب والسنة وسيرة الخليفتين، فقال “أرجو أن أفعل وأعمل بقدر علمي وطاقتي. ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال: نعم. فبايعه…” الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص583. وحين احتج علي على اختيار عبد الرحمن لعثمان، رد عبد الرحمن بأنه استشار الناس، فوجدهم لا يعدلون بعثمان. رغم ذلك ترك عبد الرحمن عثمان ودعا عليا ليبايعه، ولو علم الشورى ملزمة له ما تحول عن عثمان أول أمره.
ينتهي ابن منصور إلى حكم جازم، فعل السياسيين..” و لا عبرة بالضرورات والممارسات التي انتهى البعض إلى اعتبارها مصدرا للشرعية وما هي كذلك سواء في ذلك ولاية العهد أو شوكة المتغلب.” يطلق ابن منصور هذا الحكم دون الاستناد إلى دليل واحد ضاربا عرض الحائط بتاريخ الدولة الإسلامية التي اعترف فقهاؤها بشرعية المتغلب، وأقروا بيعته. والقول أن لا عبرة بالضرورات استئناف على الله ورسوله، فالقرآن يقول: “وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين ” الأنعام 119. والقاعدة الفقهية: “” الضرورات تبيح المحظورات” هذه القاعدة هي إحدى القواعد الكلية الفرعية؛ فقد أدرجها بعض العلماء تحت قاعدة “الضرر يزال” وبعضهم تحت قاعدة “المشقة تجلب التيسير” أو تحت قاعدة “إذا ضاق الأمر اتسع” … و بمعناها قول ابن القيم وابن سعدي: “لا واجب مع عجز، ولا حرام مع ضرورة.”
وقد أجمع السلف الصالح على خلاف ما ذهب إليه ابن منصور، فرأوا وجوب طاعة المتغلب.” وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأنّ طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء”.الحافظ ابن حجر :الفتح)(13/ 7) . ونقل الإمام النووي -رحمه الله- الإجماع على ذلك فقال “وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق.” شرح النووي: 12/229.
يتجاهل ابن منصور الأحاديث المتواترة عن وجوب طاعة السلطان دون تقييد بشرعيته التي يحصرها ابن منصور دون سند في شورى يجعلها واجبة، وأصلا من أصول الدين، بينما لم يقل بوجوبها أي من المفسرين الذين فسروا الآيات التي
وردت فيها مادة الشورى، أما القول إنها من أصول الدين فلم يسبق إليه الغنوشي، ولا نعلم أحدا تابعه عليه سوى ابن منصور.
حاصل الأمر أن الإسلام لم يشتغل بالسلطة التنفيذية، ومصادر شرعيتها، وإنما اهتم بالشريعة، وإقامتها، والأمة والحفاظ على وحدتها. وما يحاوله الإخوان اليوم هو استبدال الشرعية بالشريعة بعد تبنيهم المتأخر للديمقراطية تدليسا على الغرب كما دلسوا على المسلمين. فقد مكث الإخوان عقودا ينادون بشعار “الإسلام هو الحل”، ويحملون راية تطبيق الشريعة، ويدعون إلى “الإنقلاب الإسلامي”، حتى إذا فشلوا في الوصول إلى السلطة بهذه الطرائق، أصبحوا ليبراليين ديمقراطيين، يعبثون بشورى المسلمين لتطابق ديمقراطية الأثينيين توصلا إلى الحكم، فلم يتحرجوا من التنكر للمعلوم من الدين إذا تعارض مع الديمقراطية. يقول جميل:”…أود أن أشير إلى أن رفض الديمقراطية بحجة حد الردة لا يستقيم…” ليخلص إلى نتيجة يعلن فيها خياره بوضوح شديد.”… وعموما إذا كان العالم على استعداد للاتفاق على قيم الحرية ورفض الإكراه والعنف فلا أخال [إخال] الإسلام والفاهمين من أهله إلا على استعداد لعقد من هذا النوع يعلي قيم الحرية و الإنصاف وقبول الآخر وسنجد في كتاب الله ما يؤسس ويشجع…” ثم يورد آيات من الذكر الحكيم يحتج بها لما يذهب إليه من رفض حد الردة يرد بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “من بدل دينه فاقتلوه”…
لقد تظاهر الإخوان على هدم القرآن بدعوى المقاصد، وعلى هدم السنة بدعوى أحاديث الآحاد التي لم يردها أحد من السلف باستثناء المعتزلة ردوها في العقائد حين تتعارض مع عقولهم، ويردها الإخوان اليوم حين تتعارض مع مصالحهم التي وجدوها عند الغرب.
ما يفعله الإخوان حقيقة هو ما فعله بولس مع النصرانية حين فصلها عن شريعة موسى طلبا للقبول والرواج عند العامة. فهم يحاربون الشريعة باسم الديمقراطية طلبا للقبول عند الغرب، وتأويل الإسلام ليصبح بروتستانتيا.. يختم جميل مقالته الإصلاحية بقوله: “ولا سبيل لفرض الخيارات على الناس وإرغامهم على ما لا يريدون أيا كان وأيا كانوا،…” وهي نفس دعوى لوثر الإصلاحية! والله يقول: “وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ” المؤمنون 71. ويقول:” ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ” محمد 9. كره الشنقيطي حد الرجم والردة فجعلهما من بنيات الطريق، ومن المصائب، وأحب جميل الديمقراطية فجعلها من أصول الدين، بتوسط الشورى الواجبة… “أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون”.. .صدق اله العظيم.
طه محمد