مصارع الأوروبيين في موريتانيا قبل دخول الاستعمار
هذا المقال يتحدث عن الأوروبيين: فرنسيين وغيرهم ممن لقوا مصرعهم في موريتانيا في القرن التاسع عشر الميلادي أي قبل دخول الاستعمار الفرنسي لبلادنا. والواقع أن مصارع الفرنسيين في موريتانيا أثرت تأثيرا قويا في بعض إمارات البلاد، فقد استغلها الفرنسيون واستفادوا منها كثيرا ليغيروا في أغلب الأحيان طبيعة التعاون القائم معهم نحو مزيد من التوسع ومزيد من فرض الشروط السياسية والأمنية على بعض الإمارات الموريتانية.
مصرع فينسان.. وميزان القوى الفرنسي التروزي
كان الجو في بلدة لكصيبة الموريتانية قبالة قرية دگانة على ضفة النهر السنغالي متوترا جدا في مساء 23 فبرير 1894 فقد قتل امحمد بوراص ولد اعلي ولد محمد الحبيب حاكمَ قرية دگانة الفرنسي لويس فينسان فجأة. كان فينسان عسكريا فرنسيا عمل في الجزائر سنة 1880 ليعيَّنَ بعد ذلك إداريا في جزر القمر سنة 1886 قبل أن ينقل إلى مستعمرات فرنسية آخرها السنغال حيث كان حاكم دگانة. كانت تصرفات هذا الإداري مثيرة فقد جعل من نفسه حاكمًا مطلقا ومسيرا لا لقرية دگانة فحسب بل وللمنطقة المجاورة لها أيضا. ومعلوم أن مرفأ دگانة كان من أنشط مرافئ ضفة نهر السنغال وأكثرها حيوية، فكان مَرَادًا للتجار ومثابة للباعة، سواء العاكف فيه والبادي، يبيع به الموريتانيون من شتى الجهات بضائعهم من تمر وصمغ عربي “العلك” وحيوان وجلود وغيرها مقايضة ببضائع التجار الفرنسيين القادمين من مدينة سينلوي في مواسم تجارية مشهورة في القرون الماضية.
وقعت مشادة بسيطة بين موريتاني في لكصيبه وبين بعض سكان دگانة السنغاليين، فما كان من فينسان، الذي يعتبر نفسه سيد المنطقة، إلا أن عبر النهر ليطلع بعينه على ما حدث وليقرر ما يريد أن يقرر. كان سلوك فينسان مثيرا للأمير امحمد بوراص ولد اعلي ولد محمد الحبيب الذي رأى في تحركه استفزازا، بل رأى فيه تدخلا فرنسيا فظا في شؤون إمارة الترارزة وهي الإمارة التي كثيرا ما رفضت غطرسة الفرنسيين وتبجحهم.
كان امحمد بوراص حاضرا ساعة قدوم فينسان، وشاهدا على لحظة عبوره النهر نحو لكصيبه، ويبدو أنه استشعر الضيم وأحس بأن إمارة أجداده أصبحت مهددة من طرف التدخل المباشر في شؤون الناس الذي يمارسه الفرنسيون الموجودة بالضفة اليسرى منذ عشرات السنين. تقدم فينسان في أبهته وشارة رتبته العسكرية ونياشينه تزين مكنبيه وصدره نحو امحمد بوراص مادا يده، فما كان من بوراص إلا أن وجه نحوه بندقيه فأصابت طلقتها الأولى صدر فينسان فخر صريعا. كما أطلق البو ولد المختار انجاك، وهو رفيق امحمد بوراص، رصاصة أودت بحياة مرافق فينسان السنغالي أو آمْلُبُّطْ كما يقال في الحسانية، وكان حاضرا في نفس المكان وربما شعر ولد المختار انجاك أن المرافق كان يريد النيل من امحمد بوراص. وآمْلُبُّطْ هي تسمية الموريتانيين للمليشيات السنغالية المحلية التي تعمل تحت إدارة الفرنسيين هنالك في ذلك البلد، ويخيل إليَّ أن الفرنسيين أخذوا كلمة آمْلُبُّطْ من الموريتانيين وأدخلوها في لغتهم وصارت: (Laptot)؛ ويتضح ذلك لمن قرأ كتاب الجنرال فيديرب عن كلام آزناگة المنشور سنة 1877، ونصه موجود على الشبكة.
تحدث القاضي محمذن بن محمد فال بن محمذن بن أحمد بن العاقل الشهير بـ”امييْ” رحمه الله تعالى في تاريخه المنثور، وهو نص تاريخي في غاية الأهمية والفرادة، عن مصرع فينسان ذاكرا ما وقع سنة 1311 للهجرة أي 1894م من حوادث. وقد أشار بإيجاز غير مخل إلى مصرع فينسان وما انجر عنه من تداعيات أثرت على إمارة الترارزة في السنوات التالية.
أحدث مصرع فينسان هزة قوية في إمارة الترارزة حيث لم يقبل الفرنسيون إلا التحري عن امحمد بوراص وتتبع تحركه والسعي لاغتياله قصاصا لفينسان. بث الفرنسيون العديد من عيونهم متعقبةً تحركاتِ امحمد بوراص ورفيقه البو ولد المختار انجاك بين أحياء الترارزة، وكانت أخبارهما تصل سينلوي أولا بأول. وقد تم بالفعل اغتيال امحمد بوراص حيث ذكرت الصحف الفرنسية الصادرة في بداية مايو 1894 أن أخيارهم ولد المختار ولد سيدي، وزير أمير الترارزة القوي، هو من قتل امحمد بوراص رميا بالرصاص دون أن تذكر تلك الصحف هل كان ذلك بعد محاكمة أو أثناء مطاردة أو خلال مراماة. كما لم تذكر تلك الصحف أين قتل امحمد بوراص، وهل قتل معه البو ولد المختار انجاك؟ وهل كان أخوه الأمير أحمد سالم ولد اعلي (بيادة) على علم بالأمر أو أن السلطات الفرنسية هي من دبره أو أنه كان بمبادرة من الوزير اخيارهم نفسه؟ أم أن الأمر لم يتم بالصورة التي كتبتها الصحف الفرنسية، ويكون امحمد بوراص قد تم قتله غيلة من طرف العيون الفرنسية في المنطقة دون أن يكون للوزير اخيارهم قاتله، تماما كما حدث مع الزعيم مولاي ولد احميادة العلبي الذي مات شهيدا رحمه الله سنة . ذكر فريرجان في كتابه الشهير عن موريتانيا أن مولاي مات مسموما عند الركيز وزعم أن الوزير أخيارهم هو من سمَّه، وأنه ناوله شايا فيه سم فقضى عليه. ورواية الترارزة أن قائد الحامية العسكرية الفرنسي بسهوة الماء (الركيز) هو من وضع السم لمولاي بن احميادة فمات شهيدا.
الأمير احمد سالم ولد اعلي
من أهم تداعيات مصرع فينسان على إمارة الترارزة أن الأمير أحمد سالم ولد اعلي، كما ذكر القاضي اميي رحمه الله في تاريخه المنثور، تنازلَ للفرنسيين عن استغلال واستزراع بعض حقول الضفة اليمنى لنهر السنغال التي تقع في المجال التروزي. يقول القاضي محمذن بن محمد فال رحمه الله: “فترك أحمد سالم بسبب ذلك للفرانسة ما يسيل من أرض موريتانيا”.
وقد تجسد هذا التنازل الذي ذكره القاضي ابن محمد فال في اتفاقية دگانة الشهيرة التي وقعها الأمير أحمد سالم ولد اعلي من جانب الترارزة والزعيم السنغالي وحليف فرنسا القائد يمر امبودج (يمر ولد جاجه كما يقول الموريتانيون) عن الجانب الفرنسي. تم توقيع الاتفاق في اليوم الأول من يونيو 1894 بقرية دگانة، وهو اتفاق مجحف بإمارة الترارزة، ويتكون من سبع مواد ويقع في ست صفحات. أعطت المادة الأولى للسنغاليين من رعايا ومن أتباع يمر امبودج الحق في أن يزرعوا جانب هاما من الضفة الموريتانية يمتد من “كراع أنيرزيگ” في أسفل النهر إلى ما فوق دار السلام، وهما موضعان على ضفاف النهر يقعان الآن في بمقاطعة كرمسين بولاية الترارزة. فـ”كراع أنيرزيگ” ويسميه الفرنسيون (marigot des maringouins) أي بحيرة البعوض، يقع قرب مصب النهر السنغالي في المحيط الأطلسي، أما دار السلام أو دارا فتقع إلى الغرب من مدينة روصو. وهذا يعني أن الفرنسيين اغتصبوا بحكم هذا الاتفاق شريطا زراعيا يقارب 100 كلم يقع على الضفة الموريتانية ويوجد إلى الشمال والشمال الشرقي لمينة سينلوي.
(توضيح أول: “كراع أنيرزيگ” نسبة لقبيلة انيرزيگ وهم من أنباط الگبلة من بقايا المرابطين، كانوا في غاية القوة والمنعة. وفي المثل: “إبل انيرزيگ” يضرب للأمر لا مطمع فيه، لأن “انيرزيگ” ليسوا ضعفاء فتسلب منهم إبلهم، ولا كرماء فيجودون بها).
والغريب أن المادتين الأولى والثانية تنصان على أن تسيير هذه الحقول وما قد سيشيدُ فيها من مبان سيتبع لإدارة وتسيير الزعيم السنغالي يمر امبودج مع أنها مناطق غير داخلة في حوزته الترابية، مما يعني أن الفرنسيين يرغبون في النيل من أمير الترارزة بل ويهيئون أنفسهم لاحتلال موريتانيا منتهزين ذريعة مصرع فينسان للضغط على الأمير ولد اعلي. وتذكر المادة الثالثة أن اكصر ماديكه (Keur Madiké) متروك للأمير أحمد سالم ولجيشه حيث يمكنهم النزول به والتحرك في مجاله، واكصر ماديكَ قرية صغيرة مشهورة بجنوب شرق مدينة روصو.
وبعد سنتين من توقيع اتفاقية دگانة المجحفة بإمارة الترارزة، وفي سنة 1896 تحديدا، راجع الأمير أحمد سالم ولد اعلي هذه الاتفاقية مع الفرنسيين، وتم إلغاؤها بعد أن التزم الأمير ولد اعلي بتسديد ألف “بيصة” من قماش “النيلة” للسلطات الفرنسية مقابل تخليها عن استغلال حقول الضفة اليمنى للنهر. وقد سميت سنة 1313هـ أي 1896 في الترارزة بعام البيصة، حيث طلب ولد اعلي من جميع رعاياه إعانته في جمع هذا العدد الكبير من القماش للوفاء بالتزاماته تجاه الفونسيين. يقول محمذن بن محمد فال في تاريخ المنثور: “وفي عام ثلاثة عشر وثلاثمائة وألف: افتدى (أي الأمير أحمد سالم ولد اعلي) منهم (أي الفرنسيين) ذلك بألف بيصة جمعها على رعيته، وذلك العام يسمى الآن عام البيصة”.
(توضيح ثانٍ: “البيصة” لفظ ذو أصل فرنسي وهو (Pièce) ويبلغ خمسة عشر مترا ويكون عادة من قماش أسود داكن يسمى النيلة كان الموريتانيون يبتاعونه من التجار الأوروبيين في القرون الماضية ويستعملونه لباسا).
وفضلا عن اتفاقية دگانة المجحفة فقد دفع الأمير أحمد سالم ولد اعلي مبلغ عشرة آلاف فرنك لأرملة الحاكم فينسان كما تقول الصحف الفرنسية وهي فيما يبدو مقابل دية زوجها القتيل من طرف أخيه امحمد بوراص.
(توضيح ثالث: تاريخ القاضي محمذن بن محمد فال “امَّيَيْ” المنثور والذي استقيت منه بعض هذه المعلومات نص دقيق وموجز ويستعرض حوادث ووقائع وتفاصيل لا توجد عند غيره وهذا التاريخ يختلف كثيرا عن نظم امَّيَيْ التاريخي الشهير والذي مطلعه:
في عامِ شاكسٍ على البيظاَنِ ۞ قدْ طَلَعَ الكافرُ كبُّلاني
وقد زودني أخي الفاضل السيد امحمد ولد شماد ولد أحمدْ يورَه بنسخة مخطوطة من تاريخ امَّيَيْ المنثور وهو نص نادر وجميل).
غوردون لاينغ.. والموت في فيافي تنبكتو
كان الصحفي الرحالة غوردون لينغ من مواليد أدمبره في بريطانيا وكان شغوفا بالمغامرات ومتطلعا إلى أن يسافر إلى إفريقيا مثل غيره من الشباب الأوروبي الطموح إلى تحقيق رغبته في اختراق الآفاق ليحقق شهرة وينال ثروة ويخدم الإمبراطورية البريطانية في توسعها الاستعماري. تم تكليف لاينغ بالسفر إلى تنبكتو وعهد إليه بجمع كل المعلومات المتعلقة بمنبع نهر النيجر ومصبه، وأن –وهذا هو المهم في رحلته- يقدم معلوماتٍ دقيقةً عن مدينة تنبكتو التي اختلطت على الأوروبيين حقيقتها الواقعية برمزيتها الأسطورية، فكانوا حتى ذلك التاريخ يظنونها مدينة الذهب والثروات والكنوز والأحلام. فقد شاع في الأدبيات الأوروبية أن بتنبكتو منجما ذهبيا لا ينضب، وأن بها من الغرائب والعجائب ما لا يوقف له على حد. كان لاينغ أول أوروبي يتم الدفع به إلى هذه المغامرة المثيرة التي طالما تمناها كل شاب أوروبي مغامر، وكان ذلك قبل رحلة الفرنسي الشهير ريني كايي (René Caillié) نحو هذه المدينة بسنتين اثنتين. غادر لاينغ انجلترا في فبراير 1825، إلى طرابلس الغرب حيث تزوج هنالك إيما وارينغتون ابنة القنصل البريطاني بليبيا وقد ترك عروسه هناك بادئا رحلة الصحراء الممتعة والخطيرة وكان دليله شيخا من شيوخ الطوارق اتهمه البريطانيون فيما بعد أنه شارك في التخطيط في وقت لاحق لمصرع لاينغ. قطع لاينغ طريقه نحو غدامس بليبيا فواحات توات بالجزائر ومن هناك توجه نحو تنبكتو عبر صحراء تنزروفت الجزائرية.
وتذكر الأدبيات الأوروبية وخصوصا الفرنسية أن الزعيم أحمد ولد اعبيدَه، الذي تولى زعامة البرابيش بعد عمه امهمدْ الكبير، وتذكر كذلك أن سيدي أحمد الحبيب بن سيدي محمد بوعمامة الأرواني رئيس أروان كان ضالعين في اغتيال غوردون لاينغ. حيث تقول تلك الأدبيات إن الزعيم البربوشي امحمد رحال قتل لاينغ بأمر من محمد بن اعبيدة وبمباركة من الحبيب بن سيدي محمد بوعمامة.
والواقع أن حوليات أزواد وحوليات الحوض تشير إلى الظروف الغامضة التي تم فيها اغتيال لاينغ قرب تنبكتو في 30 سبتمبر 1826 دون تحديد مسؤولية الاغتيال. ومن المعلوم أن الحبيب بن سيدي محمد بوعمامة التقى بالرحالة الفرنسي رينيه كاييه (René Caillié) أو ولد كيجة النصراني، واستقبله بحفاوة في أروان يوم 9 مايو 1828.
جاك ماليفوار ورصاصة ريشارتول القاتلة
ترك المحامي والضابط والأديب الفرنسي الفريد غيشون دو غرانبون (Alfred Guichon de Grandpont) نصين مفيدين، وفيهما الكثير من تاريخ موريتانيا وأخبارها: مذكرات من مجلدين نادرين وقليلي التداول، ومقال عن مقتل الزعيم التروزي المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري الذي قتله الفرنسيون في ديسمبر 1832 قصاصا للفرنسي الخلاسي التاجر بسينلوي: جاك ماليفوار (Jacques Malivoire) أو انجاك ماليفوار كما يقول الموريتانيون. ومن هذا المقال ومن غيره من وثائق فرنسية استقينا هذه المادة:
كان ماليفوار في سفينته (تامونانت) أثناء رحلة تجارية كثيرا ما يقوم بها تجار سينلوي في القرن التاسع عشر لتفقد تجارتهم ومحلاتهم المنتشرة على طول النهر؛ حيث يكون لأغلبهم ممثلون يشترون له الصمغ العربي “العلك” وغيره من بضائع الموريتانيين هنا وهنا. كانت “التامونانت” تغالب الريح قبالة قرية ريشارتول السنغالية، فاضطرتها قوة التيار واتجاه الريح العاتية أن ترسوَ على الضفة اليمنى للنهر حيث المجال الموريتاني. تزامن رسو “تامونانت” ماليفوار مع وصول فرسان يقودهم المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري، الشاب المفعم بالحماس والمتطلع إلى أن يكون أمير الترارزة كما كان جده اعلي الكوري وعمه المختار وأبناء المختار الثلاثة، والمطالب كأبيه امحمد ولد اعلي الكوري بالإمارة بعد أن أصبحت من حظ أعمر ولد المختار ومن بعده الأمير محمد الحبيب أمير الترارزة في تلك الأيام.
كان الشاب المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري، الذي عاش طفولته في سينلوي حيث أتقن اللغة الفرنسية وتعود -وهو أمر نادر عند الموريتانيين في تلك الأيام- على اللباس المدني من سترة وربطة عنق، يعرف التاجر ماليفوار حق المعرفة، بل إن أباه امحمد ولد اعلي الكوري كان، أيام تحالفه مع الفرنسيين في سينلوي في حربه التي لم توفق ضد غريمه وابن عمه أعمر والد المختار، من أصدقاء هذا التاجر الأندري.
جرى حوار سريع بن المختار وبين ماليفوار انتهى بمصرع الأخير برصاصة من الأرجح أن تكون من رفيق المختار وابن خاله: أعمر ولد اعلي ولد أعمر بوشارب حسب شهود العيان، وهو ما نفته محكمة سينلوي الفرنسية التي أصرت على أن المختار هو من أطلقها.
ظل الفرنسيون يترصدون أخبار المختار وتحركاته، ونقضوا في نفس الوقت معاهدة معه كانت تقضي أن تدفع له إكراميات سنوية، وبعد سنة وسبعة عشر شهرا جاء المختار لسينلوي مطالبا بإكرامياته وراغبا في مقابلة الحاكم الفرنسي سين جيرمين “Saint Germain” حتى يوضح حجته وينفي عنه تهمة مقتل ماليفوار. اعتقل الفرنسيون المختار فور وصوله سينلوي وأودعوه السجن. ثم شكلت الإدارة الفرنسية في سينلوي تدعى المجلس الأعلى للمستعمرة للنظر في حيثيات هذه القضية. ومع أن القتل لم يتم في الأراضي الواقعة تحت السيطرة الفرنسية لأنه كان في الضفة اليمنى، ومع أن المختار في تلك الفترة لم يبلغ حسب بعض الشهود ست عشرة سنة مما يعني أنه ما زال قاصرا في نظر المدونة الجنائية الفرنسية، وينبغي معاملته على أساس أنه كان دون سن البلوغ عند وقوع القتل، إلا أن المحكمة قررت الحكم بالإعدام على المختار رحمه الله تعالى ونفذته نهارا جهارا يوم 19 ديسمبر 1832.
حرص الوالي الفرنسي سين جيرمين الذي يكن عداء خاصا لإمارة الترارزة على تنفيذ الحكم، رغم كل الشبهات القانونية والإجرائية التي تطعن في صحة حكم الإعدام الصادر بحق المختار ولد محمد ولد اعلي الكوري.
كانت محاكمة المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري سبعة عشر شهرا بعد مقتل ماليفوار. وقد فصلت بعض الوثائق الفرنسية وخصوصا منها النصوص الصادرة عن محاكمة المختار في أسباب القتل ودوافعه المباشرة وغير المباشرة. فقد كان اعلي ولد أعمر بوشارب ولد محمد بابانا ولد اعلي شنظورة شيخا مسنا من أعيان الترارزة، وقد هلكت فرسه برشارتول فطلب منه الحاكم الفرنسي أن يجر جثتها بعيدا عن القرية فامتنع من ذلك فسجنه الحاكم يوما وليلة. وكان اعلي ولد أعمر بوشارب خال المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري الذي غضب لإهانة خاله كما غضب له ابنه أعمر ولد اعلي ولد أعمر بوشارب الذي رمى ماليفوار وأصابه. كما اتهمت تلك الوثائق الأمير محمد الحبيب بالوقوف وراء اعتقال ومقتل المختار ليقضي بذلك على خصمه السياسي المطالب بإمارة آبائه، والذي كان يرى هو نفسه ويرى مناصروه أنه أحق من محمد الحبيب بإمارة الترارزة.
كان عمر المختارعند اغتيال والده امحمد بن اعلي الكوري سنة 1826 دون الست عشرة سنة فتم تقديمة خلفا لوالده كزعيم للتحالف المضاد للأمير أعمر بن المختار (والد محمد لحبيب)، ورغم وقوف كثير من أولاد أحمد بن دَمَان إلي جانبه ودعم إمارة إيدوعيش له وكذلك إمارة شمامه (والو)، ومع مساندة الفرنسيين بسينلوي لهذا التحالف فإن أعمر بن المختار ومن بعده ابنه الأمير محمد لحبيب حالفهما الحظ بحيث تخلت إمارة شمامه (والو) عن دعم حلف امحمد ولد اعلي الكوري بعد وفاة أميرها بانييك (Mbanyik) وتولي أميرها الجديد بندَافارا(Penda Fara) للسلطة، كما أن الفرنسيين وبدافع من تسهيل مصالحهم التجارية في المنطقة فضلوا التعامل مع الأمير التروزي محمد لحبيب مما هدد الحلف القائم حول الأمير الشاب المختار بن امحمد بن اعلي الكوري فأبرم صلحا مشهورا مع الأمير الأسن منه محمد لحبيب، وذلك سنة 1829. وقد تنازل المختار بموجب هذا الصلح عن مطالبته -ولو مؤقتا- بإمارة أسرته مقابل شروط منها تسليمه قاتل أبيه ليقتص منه بنفسه.
ومن بين أنصار المختار المتهمين معه حسب الوثائق الفرنسية أعمر ولد اعلي بن أعمر بوشارب وسيدي أحمد بن آغنيب سيدي أحمد بن آغنيب بن أعمر بوشارب وأحمد بن هيبه بن المختار الكوري (من أهل اعلي ولد أحمد من دمان). وقد تمت محاكمة المختار يوم 17 ديسمبر 1832 وحكم عليه بالإعدام وقد تم تنفيذ الحكم بشكل مأساوي وبطريقة قاسية.
وفي المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري يقول الأديب الفائق اعلي ولد مانو رحمه الله تهيدينة الوصية “لوصايَه” وهي من غرر ومحاسن تهيدين أهل مانو الجميل ومنها:
نَسْبگ بَاسْم الوَاحْدْ القَهَّارْ ۞ ال مَالُ فَاصْنَاعتُ اشْريك
سَميع الذَّاتْ بَصيرْ لَقْرارْ ۞ امَحَّدْ ابْقَدْرَتْ المَليك
يَعمَلُ إبَعَدْ بَرَزْتِي من النَارْ ۞ ؤُ يَعمَلُ يَصْلَحْ دَوْرْتِي فيك
يَللي مَا لَك فَازْمَانَك أنظَارْ ۞ جَيْتْ انسَلَم أعليك وانوَصِّيك
شَدْ لُصَايَ لاَ اتْعُودْ خَصَّارْ ۞ نَصِيحْتْ الدَّايْرْ ثَگَلتُ اعليك
أگَوَّم العَزَّ لاَ اتْعُودْ غَدَّارْ ۞ أگَرَّبْ اللي وُعَيْتْ اعليهْ يَبْغيك
واعرْف اللي بَيْنك امعَاهْ الاظفَارْ ۞ وارْدَحْ فالدَّنيَ تَكثْرْ اعليك
يَاسَرْ گاع لاَ ظَرُّوك الابْصَارْ ۞ غَيْرْ احْنَ ذَاك الرَّاجْيين فيك
مَالك لگصورْ أمَالك ادْيَارْ ۞ والمسلمين بالمالكْ ادَّاريك
أمَالك وَيْنهُوَّ اسْمين تَجَّارْ ۞ والنَاسْ حَالَّ اكرُوشْهَ اتْحَانيك
مَا اتْلالَك يَكُون اتْعُودْ خَصَّارْ ۞ ألاَّ لاَ يَفتْرُ گَبْلك أَيْديك
وُلاَ اتگُول عَن شي إزَوْلُ اتٌخْصَارْ ۞ وُلاَ تَصْحَبْ كُون فَارْهْ إسَهْديك
وُلاَ إرَخْسُوك اتْبَابيع فُجَّارْ ۞ ولاَ إرَشْدَك وزيرْ حَايْزْ اعليك
ألاَ ايْخَبْلُ اعليك النَاسْ لُكبَارْ ۞ واطرْحْ أمُورَك بَاط للمَليك
وُوَقْرْ ال يَحْتَاجْ التٌقَارْ ۞ واخدْم اصْلاَحْ أوَالف انعَاريك
ولمن أراد الوقوف على النص الكامل لمحاكمة المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري وكل ما يتعلق بتلك المحاكمة من وقائع بعنوان: المختار، حلقة من تاريخ السنغال (Moctar Épisode de l’Histoire du Sénégal)، وهو في هذا الرابط:
http://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k2075318.r=%22Jacques+Malivoire%22.langFR
كما أن زميلنا الباحث الممتاز الدكتور محمد المختار ولد السعد قد سبق له أن تناول موضوع المختار في مقال له مشهور ومنشور في وهو بعنوان: العلاقات الفرنسية التروزية في فترة الاستعمار الزراعي، مجلة مصادر، نشر جامعة انواكشوط وجامعة أكس الفرنسية 1995، ويمكن أن يراجع ذلك النص في مصدره الذي لم يكن عندي وأنا أكتب هذه المقالة حتى أستزيد منه وأستفيد.
انتهى.
سيدي أحمد ولد الأمير/ باحث موريتاني مقيم بقطر
للاتصال بسيدي أحمد ولد الأمير: