عشاء أهل عبد الله وجدلية الصمت
ليلة الأربعاء رن الهاتف وبعد السلام قال لي أحد الوسطاء: “العشاء ليلة الخميس عند منزل إشريف ولد عبد الله”، ويبدو أن الدعوة كانت مفتوحة إلى حد كبير، ولعدد كبير من أطر أبناء شمس الدين (شبابا وشيبا على السواء)، وقد حضر البارحة زهاء ثلاثمائة رجل لهذا العشاء الصامت الهادئ، فلم تبرمج كلمة لا ترحيبا ولا تعبيرا عن توجه أو منشط اجتماعي أو سياسي معين، وقد استحسن البعض هذا الأسلوب بينما استغربه آخرون.
الصمت صمتان، صمت يوافق الحديث الشريف: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”، متفق عليه، أو الصمت عن قول الحق، وقيل فيه في الأثر، مما ينسبه البعض إلى الحديث النبوي الشريف: “الساكت عن الحق شيطان أخرس”، أي أصم.
وقد أمر المولى في بعض الحالات بالصمت تعبدا وابتعادا عن لغو المجتمعات والمجالس، وحرصا على الخير والذكر فحسب، وفي ذلك قربى إلى الله.
والصامتون والأقل كلاما، أكثر وقارا من الثرثارين، في كل واد يهيمون.
وقد استجاب المدعوون لهذا المذهب الصامت، فما تكلم جهريا بكلام جامع أحد، طيلة الجلسة الواسعة السخية.
ولكن هذا كله، قد لا يمنع المتابعين من التعليق والتساؤل على الأقل.
فلماذا فضل هذا الجمع الكريم من الشرفاء الصمت؟.
أهو بإرادة فحسب من الداعي وتوجس منه من عدم الاتفاق على دعم النظام القائم، الذي عرف إشريف بعد إطلاق سراحه إثر ورطة 2009 بدعمه، دعما منقطع النظير، فقد بذل هو وأخوه الأكبر في “ترون” القرية التقليدية، مسكنا لأهل عبد الله بجوار أطار( 5 كلم) جهدا مضنيا صحبة ابن أختهم محمد عبد الله ولد انتهاه الملقب ولد جيلي لإنجاح النائب المعين وزير الإعلام الجديد سيد محمد ولد محم، على حساب بقية المرشحين للمقعد النيابي، توافقا مع خلفيتهم الخاصة “أولاد مومن” وإرضاء للنظام العزيزي “الزرك الكاتل طيرين”.
واليوم حسب تأويل البعض يرسل إشريف وأولاده وأبن أخته ولد جيلي وأبناء عمومته من أهل عبد الله، وبحضور جمع كبير من أبناء عمومتهم رسالة صامتة مفادها القريب، إننا موجودون وجاهزون، فاختلافنا السياسي الداخلي لم يمنعنا من اجتماع مشترك كبير، باركه كثيرون من مختلف مشارب الرأي والتوجه والاختصاص، فهل يمكن تجاهلنا أو التعدي علينا مرة أخرى؟.
ولعل بعض الحضور المعارض الراديكالي، قد اشترط السكوت للحضور، حتى يظل العشاء في حيز البعد العائلي الاجتماعي الصرف، ولو ظاهريا، حيث كان من بين الحضور البارزين، أحد أبرز قيادات المنسقية أو المعارضة الراديكالية الراهنة، زعيم المجموعة والوزير السابق أحمد ولد سيديا ولد سيد بابا.
أهل عبد الله نجحوا حسب تأويل البعض في جمع مختلف الطيف الاجتماعي من أسرتهم الكبيرة، أبناء شمس الدين، من مختلف الأطراف، فهل يكتنف الأمر سبقا سياسيا في وجه الانتخابات الرئاسية المرتقبة في يوليو القادم، أم أنه مجرد لقاء عائلي واسع، بعد مأدبة الملياردير محمد ولد نويكظ قبل شهر من الآن، أم هو مباركة وتنويه لتعيين المحامي سيد محمد ولد محم المحسوب عليهم-أي أهل عبد الله-، سياسيا واجتماعيا، أم في الحدث الاحتفالي الصامت تعزيزا لمكانة أهل عبد الله في المسرح السياسي والاجتماعي، خصوصا في ربوع ولاية آدرار وجماعتهم الخاصة، ودفعا للتهميش والنسيان؟!.
أم الخلفية المخفية، ليست هذا كله، وإنما وراء الأكمة ما وراءها، أم عشاؤهم الصامت الحذر مجرد مزيد من الدفء في العلاقات الداخلية الأسرية البحتة.
لقد ظلت الورقة الاجتماعية في موريتانيا على اختلاف صفاتها وأنماطها، وسيلة عند الجميع للوصول إلى مآربهم المشروعة وغير المشروعة أحيانا، ولكل أسلوبه، فمنهم من يتكلم بصوت مرتفع أو يحتج أحيانا بطريقة ولو فوضوية، ومنهم من يملك إيصال ما يريد بطريقة صامتة خافتة، فعالة أحيانا، أو ربما ذلك ما سمح به الظرف الاستثنائي.
إذن هل انتهى عندهم وقت الكلام وبدأ وقت الهمس، فمجرد حديث البعض بشكل حر في منزل أهل عبد الله، قد يكلفهم الكثير، إذن لا وجود للديمقراطية، وسكان المدن -بفتح الدال- يفهمون ذلك، فلا يسارعون لإيقاع أنفسهم في فخ جربوه مع مناصرة أحمد ولد داداه، عندما كشف ولد جيلي عن وجهه داعما لأحمد ولد داداه، وتوارى اشريف إلى العاصمة الفرنسية باريس، لكن ذلك لم ينقذه من السجن لاحقا، بتهم حيكت بعناية، حتى يكونوا عبرة لأهل المال، فلا يقفوا إلا في صف النظام، أما الفقراء فيكفيهم العشاء وبعض الرشاوى البسيطة تحت الطاولة، من قبل النظام أو اللاعبين من أجله.
وهل اختصرت جماعة قوية عريقة في هذا المشهد الضعيف المتردد، على “التقية” والخوف المفرط من عواقب الكلام الجريء المتوازن.
بصراحة إن مفهوم الخوف في أذهان الناس وسلوكهم لم يتغير كثيرا، خصوصا عند رجال الأعمال، لأن رأس المال جبان بطبعه كما يقال قدما، ولأن أصحاب الأملاك لديهم ما يفقدون في حالة المغامرة، فهم غير متحمسين للمزيد من الخسائر، التي قد توصلهم -ولو تدريجيا- إلى مستوى الفقراء، فلا يعود عنهم وقتها ما يمكنهم من استضافة الأقل حظا إلى عشاء صامت أو صاخب، والأيام دول وفرص وتقلبات بين محاذير الربح والخسارة، فهل من مدكر؟.
الأمن تغلغل في كل شيء، والخوف من سطوة النظام وزبانيته أصبح سيد موقف الحساب قبل الإقدام، إنه تعبير صريح مباشر عن فشل ديمقراطية العسكر المسمومة الخادعة، التي بشر بها معاوية وصحبه وإلى اليوم، فلا أحد يأمن على نفسه ورزقه، حسب تصور الناس، ربما لضعف عقيدتهم وواقعيتهم المفرطة من أبسط كلمة يبوح بها، دون أن يعلم علم اليقين أنها ستصل، وأنه سيحاسب سلبا عليها، إذا كانت لا تخدم السلطان.
هذا هو قمة المثال في التدليل على فشل شعار حرية التعبير والتجمع والمبادرة، المسطورة نظريا في القوانين، فكل ذلك مجرد أفخاخ، ومن أراد أن تلدغه الأفعى فليفعل، والمؤمن لا يلدغ في جحر واحد مرتين، ولذلك ربما فضلوا الصمت، لأنهم غير مجمعين على التصفيق والتزمير للنظام، ومن كان منهم مرغما على ذلك، تحت سيف الضرائب والحرمان من المشاريع أو السجن مباشرة ونهب الممتلكات، عبر المراسيم أو غوغائية الشارع، فلم يجد بدا من الاحتفاء بأهله، ولكن بشرط الصمت، ولو كان هذا الشرط غير معلن، ولكنه طبق بأمان وحذر، ملفت للإنتباه.
فإذا صمت الشرفاء وأصحاب التجارة والتجربة، فحري بالكثيرين أن يفضلوا طريق الاستسلام فحسب، للأسف البالغ.
إن أهل موريتانيا خصوصا تجارها يساقون كالقطيع، فهل نفهم مأساتهم فنرحمهم ولو نسبيا، أم نقول لهم حياة كريمة وكلمة حق عند سلطان جائر، نافسكم في المهنة، التي ترك لكم الآباء والأجداد، خير من هذا الذل وبيع الكرامة، مقابل بعض الدنانير والراحة الممنونة الناقصة المنغصة باستمرار، وبمختلف صنوف الابتزاز، وكل يوم يسك لكم طريقا جديدا للاستحواذ على أموالكم المحدودة المستنزفة، إما عن طريق ضرائب مجحفة، أو عبر تمويل حملات مرهقة أو مناسبات “ثقافية” أو غيرها، والتي لا تنتهي ولا تتوقف ولا تفيد حقيقة.
فهل تقبلون نصيحتي بالتمرد، ولو كلف ما كلف، بل لن يكلف الكثير، فالعيش بالقليل المبارك، خير من العيش بأكثر من ذلك مع المن غير المبرر، والاعتداء المتكرر المتنوع، وتكلموا وعارضوا إن شئتم، أو أيدوا لكن بجدارة وجرأة، ونقاش وشروط دون ضعف أو استسلام ومجانية، وكأنكم رقيق في سوق النخاسة والهوان والاستعباد، بعد أن حرم الاستعباد ومختلف صنوف الاستغلال.
إن نظام عزيز ذاهب يوما ما، فلا تخافوا، عارضوا إن شئتم، أو أيدوا، لكن بأسلوب حضاري قوي مفعم بالندية والإباء والوضوح والصرامة، حتى لا تتركوا لنا مسبة الدهر، فيقال خافوا على بقية أموالهم، فخافوا حتى من الكلام في جلساتهم الجامعة، واكتفوا بالهمس والتأييد المجاني الضعيف المذل ولو في أغلبهم أو بعضهم، حسب إختلاف الإحصاءات، أم في الواقع العزيزي الحالي من المخاطر، خصوصا على أصحاب المصالح وسدنتها، ما يبرر المزيد من الصمت والهوان والخنوع.
اللهم إني معارض ورافض لمذهب الخنوع هذا، وسأسير على دربي المعروف المريح
–نفسيا- ولو كان مرهقا ماديا، على نهج الأحرار من أهلنا، مهما قلوا في هذا الزمان، الذي أصبح فيه مجرد الكلام محظورا، أو محسوبا بدقة وحذر شديد مقرف.
ويمكن القول بإيجاز بأن إشريف وأسرته، من المشرفين على اللقاء، فضلوا الصمت حذرا وابتعادا عن اللغو ربما، من باب حسن الظن على الأقل.
كان عشاؤهم لإخوانهم كبيرا ومنظما، ولكنني وأمثالي من الفقراء الثوريين تفاؤلا، فضلنا أن لو حصل كلاما، وإن كان محسوبا وبحكمة، لنكون مثالا على الأقل لباقي أهلنا وسواهم، حتى لا نكون أسوة في الجبن والحسابات المبالغ فيها، وأمتنا كانت وستظل وسطا، فلا للغو على مذهب “من كان يؤمن بالله فليقل خيرا أو ليصمت”، فما باله على الأقل، أي هذا الجمع المتنوع الكفاءات والمهن، لا يقول خيرا، وبعد ذلك –إن شاء- صمت، تفاديا لما قد يضر ضررا بالغا أو يعتبر لغوا بامتياز.
وعلى وجه راجح كانت هذه العشوة الجماعية فرصة للمزيد من التعارف والتراحم والتعاون ولو مستقبلا، ونبذ الكراهية بسبب الاختلاف السياسي الشكلي، ونموذجا في الاجتماع والرغبة في التآلف، رغم تناقض التوجهات، لكن اشريف ولد عبد الله ومستشاريه وجدوا لذلك مخرجا بالصمت، خصوصا إذا تعلق الأمر بوضع انتخابي حساس كالحالي، والله ولي التوفيق لأهلنا والمجتمع بأسره والوطن برمته وسائر المسلمين.
ومن الملفت في هذا اللقاء الودي حضور قمة المعارضة أحمد ولد سيدي باب وقمة موالاة النظام، عائليا وسياسيا والد حرم الرئيس المتغلب ماء العينين ولد النور ولد أحمد صحبة الأمين العام لوزارة العدل محمد الأمين ولد سيدي باب، وبين ذلك رجال الأعمال الكبار والمتوسطين -ولو بعضهم- ينفقون على مناسبات النظام خوفا وطمعا، ويجتمعون مع أهلهم من الرافضين، فلا يمنع التباعد السياسي في بعض الآراء من التقارب الاجتماعي والمودة، إن اقتضت الضرورة.
فهل هو درس للآخرين، بأن الخلاف لا يفسد للود قضية، كما قال العالم المصري الراحل محمد الغزالي رحمه الله.
وفي الختام باختصار أقول، في غياب قوة الدولة وضعف دور الطبقة السياسية المعاصرة، والأحزاب بدور خاص، يرجع الناس كرها إلى الأطر التقليدية، التي لا انفكاك عنها، بصورة كلية، وإن حاول البعض الاستعاضة عنها بطرق التجمع الجديدة المأذونة قانونيا ومدنيا، ولعل هؤلاء بعشائهم هذا، الجامع للموالي منهم والمعارض على السواء، يقولون بلسان الحال قبل لسان المقال: “إننا موجودون متوحدون ولو نسبيا رغم اختلاف الآراء، وقد لا يكون دورنا هذه المرة مجانيا، أو تلقائيا”.
وأخيرا إنها مجرد تأملات للوحة إنسانية لاجتماع صامت، تحت قهر الاستبداد والمصالح. بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن المديرالناشر ورئيس تحرير صحيفة “الأقصى”