رأي القدس العربي في أحداث مريتانيا الأخيرة
لعب تاريخ موريتانيا على أطراف إفريقيا السوداء عاملاً كبيراً في التمييز بين الحكام والمحكومين فيها، وما لبث التمييز السياسي والعرقيّ أن توسّع ليصبح أشبه بنظام طبقات مغلق على نفسه، لا يميّز بين الحكام (العرب والأمازيغ المستعربين) والمحكومين من ‘الزوايا’ (أهل التعليم) و’الحراطين’ (أهل الزراعة) و’المعلمين’ (أهل الصناعات الحرفية) فحسب بل يحبس كل طبقة ضمن إطار لا تحيد عنه بما يؤسس لتناقضات اجتماعية ومعاناة من ازدراء كل طبقة للأخرى وتهميشها والإساءة اليها، بما يمنع الحراك الاجتماعيّ والارتقاء الطبيعي للإنسان، وهو أمر أقسى من الاستبداد السياسي لأنه مفروض بقوة العرف والاجتماع لا بقوة السياسة وحدها.
ولا يمكن فهم تداعيات الاحتجاجات على محمد الشيخ ولد امخيطير، المتهم بمقالة تسيء الى النبي محمد (والأحداث المستمرة التي تلتها)، من دون فهم هذا الوضع السياسي والاجتماعي الفريد لموريتانيا، فولد امخيطير، وهو من طبقة ‘المعلمين’، قام، انطلاقاً من وضعه الاجتماعي الهامشي، واحتجاجاً عليه، بانتقاد جوانب في التاريخ ليصل الى نتيجة مفادها ان المشكلة الطبقية في موريتانيا مبنية على سوابق تاريخية اسلامية، وهو تحليل يستلهم من أعمال كتاب ومفكرين اسلاميين وليبراليين وماركسيين، بينهم سيد محمود القمني وحسين مروة وأحمد عباس صالح وغيرهم كثيرون. لكن ولد امخيطير، بطيش الشباب وتمرده، تعمّد أن يضغط على عصب حساس وخطير في المجتمع الموريتاني المسلم، وفتح أبواباً خطيرة لا يمكنه استيعاب نهايتها، فبفعلته تلك أثار مجددا الإحساس الواسع لدى الجمهور العام بالاستهداف الكبير الذي يتعرض له الإسلام، وفي هذا الظرف بالذات، تتحول أي قضية مثل هذه الى مجال للتحريض المنفلت وتهييج الغرائز اللاعقلانية والمزاودات السياسية بغض النظر عن حيثياتها وتفاصيلها. وقد اختلطت ردود الدفاع عن الاسلام والنبي الكريم مع ردود أخرى من طبيعة طبقية فنسب البعض ما صدر عن مخيطير الى ‘عقدة الدونية’ كونه من طبقة ‘المعلمين’، والى أنه تقصد تفنيد بعض الموروث الثقافي الذي جعلت منه طبقة ‘الزوايا’ تراثاً مقدساً تستخدمه في سلطتها الدينية ضد ‘المعلمين’ ومن ذلك قولهم ‘لا خير في الحداد ولو كان عالما’. ولا ندري في زمن ضياع الموازين هذا مدى فائدة التذكير باختلاف ردود الفعل الحاليّة عن أفعال النبي العربي الكريم التي لا تحصى مثل عفوه عن الشاعر كعب بن زهير الذي هجاه هجاء مقذعاً، فكان أن مدحه بعدها بقصيدة من عيون الشعر العربي، فالرسول لم يحكم على هاجيه بالقتل كما يفعل إسلاميو القرن الحالي مع خصومهم، وكان على عكس المدافعين عنه حالياً، يتعامل مع الناس بالحكمة والمغفرة ويؤلف قلوبهم ويستقبل توبتهم النصوح بالحسنى. انتهزت أطراف عديدة القضية وقامت بتأجيجها كما اقتنصت السلطات الموريتانية الأمر، وتركته مزاداً مفتوحاً لتأجيج عاطفة الجمهور، كما ركبت على القضية مصالح تجارية، كما حصل من حرق هواتف شركة سامسونغ وغيرها. دافعت منظمات حقوقية وسياسية موريتانية مثل ‘نجدة العبيد’ و’ضمير مقاومة’ و’رابطة النساء معيلات الأسر’ و’الرابطة الموريتانية لحقوق الانسان’ عن الشاب وطالبت باطلاق سراحه وتوفير الحماية له أما المهاجمون لكاتب المقال اعتبروه كافرا يستحق الإعدام ووصفوا المدافعين عنه بعملاء الغرب واسرائيل، وردّ المدافعون عنه بوصف الأولين ب’الظلاميين’ و’الاسلامويين’ و’التكفيريين’. القضيّة برمّتها نموذج لآليات الاستقطاب السياسي العنيف الذي نشهد أمثلة يوميّة عليه في بلادنا والذي شقّ المجتمعات العربية نصفين يتذابحان حتى الموت بيافطتين مزورتين، فالمجتمع العربي لا تحلّ مشاكله الأيديولوجيات وحدها، بل بتقديم حلول لقضايا الشعب الحقيقية من سكن وغذاء ودواء وأمان وكرامة. خطيئة ولد المخيطير انه أراد تغيير الواقع بنقد المقدّس، وهو منطق أهوج ولا تاريخي، فتغيير الواقع يتمّ بالعمل السياسي لا بمحاسبة وقائع تاريخية قديمة ارتبطت بالإسلام مما يفتح ابواب الاتهام بالردة والكفر ويحرف المشكلة عن طبيعتها الاجتماعية ويحوّلها الى قضية دينية بتوظيف سياسي غير محمود العواقب. ورغم طابعها المحلي فلا يمكن للمرء إلا أن يضع القضية ضمن سياق عام يتعرض خلاله المسلمون والإسلام إلى هجمات عنيفة في كافة أنحاء العالم. حركات الإسلام السياسي، وبالخصوص، جسمها الأكبر، جماعة ‘الإخوان المسلمين’، هي استجابة وردّ فعل لمحاولة الأنظمة المستبدة احتكار الإسلام وتدجينه لخدمة استبدادها وافراغه من معاني التغيير والعدالة الأرضية والسماوية، لكن القمع الشديد لاتجاهات الإسلام السياسي المعتدل والسلمي، ومفاقمة الأوضاع البائسة يؤدي بالضرورة الى ما نراه من إساءات للدين باسم الدين نفسه، ويتواجه فيه ردّ الفعل العنيف مع عنف الفعل القمعي، وهو أمر لا يؤدي الى نتيجة ايجابية، لا للشعوب ولا للإسلام ولا للدول.
القدس العربي