صيادو”النمادي”..الكلب والطريدة والنساء..رحلة تتبعت أسرارهم وآثارهم على رمل الصحراء
تحت سماء بلون الرمل تمتد الصحراء ديمومة أمام ناظريك لوحة شاسعة تمنحها الأعشاب الصغيرة والشجيرات “الحليقة” رونقاً وحزناً مردهما تداخل الأخضر اللوزي بالرمادي الفضي بالأصفر الباهت.
ويقول دليل بعثة “الوسط” في رحلة الـ 3000 كيلومتر بحثاً عن صيادي “النمادى”: “أخشى أن نبيت ضيوفاً على أشباح الصحراء إذا لم نتوقف قبل الليل في مكان مأهول”. ويضيف ونحن نعوم في بحر الصحراء بعيداً عن الطريق الرملي الذي يربط بين مدينتي “النعمة” و”ولاته” في أقصى الشرق الموريتاني: “من الصعب أن نلتقي “النمادى” في هذه المنطقة فهم أناس كثيرو التنقل يرومون الأماكن المعزولة”.
و”النمادى” مجموعتان احتفظت احداهما بهذا الاسم بينما يطلق على الأخرى “الرويصات”.
كتب “التيه” في الصحراء على “النمادى” منذ مئات السنين. وهم في سفرهم الدائم يتتبعون أثر الغزلان بكلابهم ، ويحملون أغراضهم البسيطة وأسرارهم وعاداتهم الغريبة في رحلتهم الأبدية داخل النطاق الصحراوي في خمس ولايات موريتانية هي “آدرار” في الشمال، “تكانت” في الوسط،، “العصابة” في الجنوب الشرقي، و”الحوضين” الشرقي والغربي في شرق البلاد. ويعيش بعضهم منذ فترة في أطراف مدن وقرى ريفية.
“ادوي كلاب”:
يحتقن وجه الشمس وتحمر عيونها إيذانا برحيل يوم ساخن وسط صفير الريح وأزيز محرك مجهد يصارع كثبان الرمل “الاخرس”.. وتمر الساعات متثاقلة بطيئة وفجأة يصيح الدليل: “أري نارا” وهو يقفز من مقعده جذلاً… وتختفي النار، تظهر، ثم تختفي وتظهر من جديد ونحن نعلو كثيباً أجرد يفضي الى سهل واسع تكسوه الحشائش والأشجار.
– “أهلا بالضيوف” يقول رئيس الخيمة. وينطلق في السلام البدوي الطويل في شكل منغم “رتيب”: “إياك الخير… إياك النعمة… إياك اسلامه… إياك الخير…”… ويهمس في أذن زوجته في شكل مسموع بعد أن يجلسنا في صدر خيمته الصغيرة: “قومي… اثنان يجب الاحسان اليهما: ضيف الظلام وضيف القيلولة”.
يجمع صبية كومة حطب. ويبدأ الشواء وتدار كؤوس الشاي فيما “يطربنا” ثغاء حملان مربوطة في الجوار وهدير جمل أبيض “ماجن” يغازل “بنات” القطيع. ويضحك مضيفنا حين نسأل عن أحياء “النمادى” ويقول: “ليست لهم أحياء. هم جماعات تطارد الوحوش في الصحارى”.
ويسأل بدوره: “لماذا الاهتمام بهم؟”. ثم يجيب نفسه: “لعلكم تريدون لحم الغزال”. ويحذر الشيخ الوقور: “لا تشتروا إلا لحم غزال رأيتموه قبل أن يسلخ فهم يبيعون لحم الخنزير البري على أنه لحم الغزال المجفف”.
وتشارك الزوجة في الحديث: “هل هم أدوي كلاب” (بسكون الدال) الذين نسمع عنهم ويقال ان نساءهم مثلنا لكن رجالهم كلاب ؟”. وتسرد المرأة قصة الضيف الذي “جاء الى حي رجاله كلاب شاهدها تأتي بالحطب والذبائح لإكرامه”. والقصة خيالية من دون شك، لكنها تترجم جانباً من تصور المجتمع لصيادي “النمادى” الذين يضربون على أنفسهم طوقاً من العزلة. وهي ذات صلة بالواقع لأنها تحيل الى الفترات التي يخرج فيها الرجال للصيد ويتركون النساء وبعض الكلاب. وكلاب هذه الجماعات مدربة على الكثير من الخدمات اضافة الى الصيد. وكلمة “أدوي كلاب” هي على ما يبدو تحريف لـ “ذوي كلاب”. أبناء “سيد الكلاب”:
نغادر خيمة البدو مع خيوط الفجر الأولى على وقع حنين إبل الحي وهدير جمل يحاكي أنغاماً آتية من بعيد تصدر عن طبل “تناجيه” جواري أمراء البادية في مواسم الأفراح والحروب… وتبتلعنا الصحراء الى حيث لا نرى الا خطوطاً عابرة رسمتها حيوانات متوحشة أو أفاع على صفحة الرمل ليلاً قبل أن تمحو رياح الصبح أسرار الليل. نحن هنا في مملكة “النمادى” التي يعرفونها عن ظهر قلب كثيباً ونقطة ماء كما يعرفون أشجارها وأعشابها “الطبية”… فلا يطأ أرضها الا رعاة الإبل والغزلان والأشباح.
وتاريخ “النمادى” مزيج من الأساطير والحقائق .. يقول بعض المؤرخين انهم كناريون، ويرى آخرون انهم من قبائل “الفلان” الافريقية التي توقفت في مدينتي “ولاته” و”تيشيت” الموريتانيتين خمسة قرون خلال احدى الهجرات.
ويروي “النمادى” هذا التاريخ بطريقتهم الخاصة. ويقول صيادو الجنوب الشرقي والوسط انهم ينتسبون الى محارب من قبيلة “شراتيت” (واحدة من أهم القبائل الموريتانية) يطلق عليه احمد ولد اياد. ويقولون انه بعد خوض حروب عدة “تعب من شرور الانسان” وآثر العزلة في الصحراء مقسماً وقته بين التأمل والصيد. وعندما شعر بالوحدة عاد الى قبيلته ليتخذ زوجة. وقد صحبه رجال من القبيلة الى الصحراء.
أما “نمادى” المناطق المحيطة بمدينة “ولاته” في الشرق فيقولون ان جدهم أمير “جاء من الشرق” ترافقه مجموعة من الكلاب القوية المدربة. واسم هذا الامير هو “نمادى” أي “سيد الكلاب” بلغة الآزير الافريقية القديمة. لكن البعض يرى ان “سيد الكلاب” لم يكن الا راعياً استأجرته احدى قوافل الملح فتاه في الصحراء وهو يبحث عن جمل مع كلبته. وعثر عليه بعد فترة وقد اصطاد الكثير من الغزلان وملأ جلودها باللحم المجفف الذي جاء به الى “ولاته” وباعه ثم نظم عصابة عاد بها الى الصحراء.
والرواية الأقرب الى الحقيقة هي -ربما- ان “النمادى” أفراد جمعتهم المهنة لا الأصول، وهم عرب هجروا قبائلهم الموريتانية لأسباب مختلفة منها الغضب والجريمة والرغبة في العزلة وحب الصيد.
بيوتهم من شجر ومصيبتهم… “قطر”.
فيما يواصل السائق مناوراته الماهرة وحديثه الصامت مع مقود سيارة “تطير” في نزق من تل الى سهل، الى… كثيب، يقول الدليل: “لم يعد النمادى كما كانوا. لقد تغيرت أحوالهم. فهناك فئة لجأت الى أطراف المدن النائية لتعيش حياة فقر تجمع بين الاستقرار والبداوة. والفئة الثانية توقفت عن ممارسة الصيد وأصبحت تجري خلف احياء البدو المتنقلة للحصول على قطرات حليب، ومنهم من أصبح يملك شياه غنم”. وهناك فئة ثالثة، يقول الدليل: “تمارس صيد الغزلان التي أصبحت نادرة وتحافظ جزئياً على نمط الحياة القديم مع الانفتاح قليلاً على العالم الخارجي ” أما الفئة الرابعة “فهي الأغرب والأكثر عزلة وتمسكاً بأدق الأمور في التقاليد القديمة وهي المعروفة بالرويصات”. ويضيف: “ستقطعون ضعف المسافة في العودة للبحث عن هذه الفئة”.
ويقطع حديث دليلنا المطلع الثرثار نباحُ كلاب ضارية انقضت على سيارتنا وقد أحاطت بها أخبية “النمادى”.
و”النمداوي” أو “النمداي” باللهجة المحلية في العادة صغير مفتول العضلات اكتسب قوته البدنية من تنقله الدائم في الصحراء، فهو يقطع آلاف الكيلومترات متتبعاً وحوش الصحراء.
يحمل رجال “النمادى” في رحيلهم الدائم صرر المتاع التي هي في الغالب أكياس من الجلد وبعض الأواني الخفيفة المصنوعة من سيقان الأشجار، فيما تحمل النساء الأطفال وصغار الكلاب وما خف من المتاع، وقد يكون لهم حمير أو يكترون جمالاً في مواسم الصيد بأسعار مرتفعة تصل الى نصف حمولة الجمل من القديد (اللحم المجفف).
ويستريح “النمادى” تحت الأشجار أو في حماية صخرة أو تحت عرائش صغيرة من أعواد الشجر والحشائش الميتة أو في دفيء خرق من القماش منصوبة على أعمدة خشبية.
ينهر أحد رجال الحي كلبة صفراء يتطاير الشرر من عينيها لتتوقف عن “الترحيب” بـ “ضيوف القيلولة” ويدعونا الى خيمته: “مرحبه بِكو امنين جيتو؟ (مرحبا بكم من أين جئتم؟)”.
ويتحدث “النمادى” لهجة عربية فقيرة متخلفة مقارنة بالعربية المحكية في موريتانيا. وهم – بخلاف سائر الموريتانيين – لا ينطقون الميم في كلمات مثل “جئتم، لكم الخ..”.
الصحراء الموريتانية – من الشيخ بكاي
مورينيوز