ابن العقيد كادير يقدم رؤيته لأسباب وخلفيات 16 مارس
البروفسور سيدي محمد ولد عبد القادر
يفرض علينا حب بلادنا، الجمهورية الاسلامية الموريتانية، أن نساهم في محاولة كتابة جزء من تاريخها، وتقديمه إلى قراء عصرنا الحالي، خصوصا من جيل الشباب.
ونحن في محاولتنا هذه نسعى ـ وبكل موضوعية ـ للتفكير في ذلك الجزء من التاريخ، من أجل إعادة قراءة الوقائع والأحداث المفصلية التي أثرت بعمق في المجتمع الموريتاني. مسعانا يتجلي في تقديم معلومات وأفكار للقارئ، خاصة من الجيل الجديد، وجيل المستقبل، حول الأحداث والرجال الذين صنعوها، وضحوا من أجل كرامة وسلامة ووحدة أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية. تشكل أحداث 16 مارس 1981، جزءاً مفصليا من التاريخ الوطني المعاصر، ويعتبر الراحل العقيد محمد ولد أباه ولد عبد القادر الملقب “كادير” رحمه الله تعالى، عقلها المدبر والمسؤول الأول عنها. جاءت تلك الأحداث في سياق تلاقت فيه طموحات عسكريين وسياسيين مدنيين بشكل وحدوي فريد من نوعه، لا يمكن لأي عسكري أو مدني موريتاني إنكاره. كان كادير عضوا في اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، ووزيرا لمرتين، واختار طواعية الاستقالة من وظيفتيه العسكرية (في اللجنة ) و المدنية (في الحكومة). وقد ترك الوظيفتين الساميتين في إدارة البلد، “تفاديا للاشتراك في نظام بات يسعى بشكل واضح إلى تدمير موريتانيا” حسب ما كتب في رسالة استقالته. غادر البلد نحو المنفى الخارجي، ليس بحثا عن حياة الرفاهية ورغد العيش، وإنما عاد لاحقا على رأس كوماندوز من عشرة رجال بعدة متواضعة، ساعين لإسقاط حكم عسكري استبدادي يشكل خطرا على كينونة موريتانيا. يقول العقيد كادير ردا على سؤال للصحافي هووارد سشيسيل من صحيفة “لوموند ديبلوماتيك” : “في مواجهة الدراما المحزنة في بلدي، لا أستطيع أن أحيد عن الخط الذي رسمته لنفسي، في سبيل خدمة التطلعات المشروعة للشعب الموريتاني، ويمكنني في إطار ذلك أن أضحي بنفسي وفاءً لأداء واجبي”. يحيل هذا المقتطف من الإجابة التي أدلى بها العقيد كادير إلى أنه كان دائما يحمل روح التضحية الشجاعة والعطاء. ولا يعوزنا الدليل على ذلك، ففي حرب الصحراء كانت له أيام مشهودة. وهو الضابط الموريتاني الوحيد الذي وردت الإشارة إليه مرتين في مذكرات الراحل أبو الأمة المختار ولد داداه، حيث يقول إنه يستحق “إشادة وإجلالاً على ما قام به من محاولة لاستعادة الشرعية بجدارة كبيرة”. (مذكرات الرئيس الراحل. الصفحة 639 النسخة الفرنسية). ولفهم أسباب ودوافع 16 مارس 1981، لا بد لنا من لفتة على التاريخ، لاستجلاء سياق وخلفية الأحداث. فقد شكلت “اتفاقية السلام” الموقعة في الجزائر بتاريخ 5 أغسطس 1979، بين النظام العسكري للمقدم محمد خونه ولد هيداله، وجبهة البوليساريو، حدثا مفصلياً في تاريخ حرب الصحراء، بشكل عام، وعلى الجمهورية الإسلامية الموريتانية، بوجه أخص. وبناء على هذه الاتفاقية، اتخذت السلطة القائمة حينها قرارا بالخروج نهائيا من حرب الصحراء (التي اندلعت بعد الاتفاقية الثلاثية الدولية، في مدريد عام 1975، وساهمت في إعادة توحيد الأراضي الموريتانية). ويمكن القول إن اتفاق الجزائر لم يكن عادلاً، واعتمد سياسة الحياد في وجه صراع الصحراء، أي عدم الدخول في أي تحالف عسكري وعد دعم أي من الخصوم. لكن على النقيض من ذلك فقد احتوت الاتفاقية على بند سري يتضمن تعهدا يقضي بأن “تنسحب موريتانيا نهائيا من الجزء الذي يقع تحت سيطرتها، وذلك في غضون 7 أشهر، وتسليمها لجبهة البوليساريو” حسب هذا البند. والأسوأ من ذلك، أن هذه الاتفاقية تنص حرفيا على عدم استشارة الشعب الموريتاني في هذه القرارات خاصة البند السري، حيث “تم دون أي استشارة ويجب أن يبقى بندا سريا إلى ما لا نهاية” حسب ما ورد في مقابلة مع الراحل العقيد أحمد سالم ولد سيدي النائب الأول لرئيس اللجنة العسكرية، والموقع على الاتفاقية. (مجلة جون آفريك العدد 1016 بتاريخ 25 يونيو 1970). ما معنى هذه الاتفاقية إذاً..؟ هل كانت ترجمة لإرادة حقيقية للخروج من حرب الصحراء والانتقال إلى حالة حياد فعال؟ أم أنه حياد يقود للراحة من النزاع..؟ في البداية؛ لا بد من ملاحظة أن جبهة البوليساريو والنظام العسكري الموريتاني لم يحسبا أي حساب لمقتضيات القانون الدولي، خلال توقيعهما للاتفاقية المذكورة. فالقانون الدولي لا يمنحهما القدرة على توقيعها. فهذه الاتفاقية لم تخضع لمقتضيات القانون الدولي، التي تفرض أن يكون الاتفاق بين دول، وتكون تعهدات تلك الدول مطروحة على المنظومة الدولية، وتستجيب لمتطلبات أي اتفاقية قانونية متعددة الأطراف. كذلك فإن “اتفاقية السلام” الموقعة بين النظام العسكري حينها والصحراويين، بنيت على أساس انتهاك صارخ للدستور الموريتاني الذي ينص على أنه “لا يمكن تحويل أو تغيير ملكية أراض موريتانية أو إضافة أراض جديدة دون العودة للشعب من خلال استفتاء مباشر”. المنطقة التي كانت تحت سيطرة موريتانيا والمعروفة قانونيا باسم “تيرس الغربية”، بحسب الاتفاقية الدولية في مدريد عام 1975، والتي احترمت خيار الشعب الصحراوي المعبر عنه من خلال “أجماعة” وهي جمعية تمثل الشعب الصحراوي. كذلك فقد وافق مجلس “الكورتيس” في الصحراء، على هذه الاتفاقية في 19 نوفمبر من العام نفسه. وأيدتها الأمم المتحدة التي رعت عودة الأراضي إلى الجمهورية الاسلامية الموريتانية، وما يقتضيه ذلك من الناحيتين السياسية والقانونية. من الواضح إذا أن البند السري في “اتفاقية” السلام” في الخامس أغسطس 1979، كان مجرد مؤامرة تستهدف الشعب الموريتاني وقواته العسكرية. ومن هنا جاءت السياسة التي تبناها العقيد كادير، وأعلن عنها في بيان للصحافة الدولية في مواجهة الخيانة وسياسة الاستسلام والخنوع وتقطيع أوصال الوطن. ويعبر عنها بالقول “إنه اضطراب خطير لاستقرار موريتانيا والمنطقة، وتهديد لوجود بلدنا ، وهذا السلوك غير مسؤول للسلطات التي تسيطر في نواكشوط، ويضر بالتحالفات، وينتهك الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها موريتانيا”. وفي حالة كانت البوليساريو قد نجحت في السيطرة على تيرس الغربية، كما ورد في البند السري لاتفاقية الخامس أغسطس، فإن ذلك كان سيؤدي إلى حالة من التخريب المتواصل، وستجعل منها نقطة ارتكاز وانطلاق لعمليات تهديد، ليس للمنطقة فقط وإنما للقارة الإفريقية ككل. لقد كان دخول اتفاقية الجزائر حيز التنفيذ، يعني تقويض التوازن الإقليمي، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى زيادة مخاطر المواجهة والحرب. يضاف إلى ذلك أنها كانت هروبا مشينا من المسؤولية الفعلية الملقاة على عاتق موريتانيا بفعل اتفاقية مدريد الثلاثية، عبر التخلي عن جزء من الصحراء تحت السيادة الموريتانية، لصالح البوليساريو، وهو ما يعني فقدان رئيس الحكومة (هيداله) لجزء مهم وحساس من الأراضي الموريتانية، وتعريض البلاد لخطر حقيقي ودائم. لقد خطط رئيس الحكومة لاتفاقية غير مقبولة قانونيا، على عكس الاتفاقية الدولية في مدريد التي منحت لموريتانيا صفة إدارية. وقد أدت اتفاقية الجزائر العبثية إلى وضع نهاية لأي طموح وطني للشعب الموريتاني. ومن الواضح جدا أننا كنا بعيدين من أي موقف محايد، يقف وراء النية الحقيقية في الخروج من حرب الصحراء. وبهذا الموقف المتعمد من طرف رئيس الحكومة الموريتانية (ولد هيداله)، حشر النظام في زاوية ضيقة محاذية لأطروحات جبهة البوليساريو. هذا الموقف أدى إلى تفاقم الضغط في المنطقة، وكان يتعارض مع المصالح الاستيراتيجية لبلدنا موريتانيا. وكانت موريتانيا في مواجهة هذه المخاطر ذات الطابع الدولي، والتي تضر بها مباشرة (وبشكل أخطر من هجمات البوليساريو) كما يشهد على ذلك كل من يتمتع بالفطنة والحس. في المقابل، كان هناك أولئك الذين أيدوا السلام، واعتبروا أنه يأتي بالاسترضاء الجبان والإذلال، لكنهم كانوا بعيدين عن حالة سلام حقيقي، مما أدى إلى تفاقم أطماع البوليساريو. كان من أولئك من هم سذج، وعديمو الخبرة، وجبناء لا يميزون الخطر الحقيقي، ولا يتجنبون المخاطر الأساسية التي يواجهها البلد…كان من بينهم أيضا متواطئون ومتساهلون. لكن أيضا كان هناك أولئك الذين يؤيدون السلام، لكن بشرف وليس بأي ثمن. ومنهم العقيد كادير ورفاقه. أحداث 16 مارس كانت تعبيرا عن محاولة للحفاظ على المصالح العليا للوطن، وبقاء الأمة الموريتانية قوية. وذلك عبر تحقيق ثلاثة أهداف أساسية. الهدف الأول : إسقاط نظام ولد هيداله، الذي كان قد تحول إلى خطر حقيقي على الوطن والأمة. الهدف الثاني : تنفيذ مخطط داخلي لإعادة الشرعية ممثلة في نظام الرئيس الراحل أبو الأمة المختار ولد داداه، (يمكن العودة لمذكرات الرئيس الصفحة 639 ، النسخة الفرنسية). ويمثل تحقيق هذا الهدف ضمان استقرار سياسي داخلي، نابع من إرادة الشعب الذي هو مصدر السلطة السياسية والدستور الذي ينظمها ويؤطرها. الهدف الثالث : على المستوى الدولي، ويقضي بانتهاج سياسية حياد فعال في نزاع الصحراء، يُـجنب موريتانيا الدخول في حرب جديدة ضد أي من الخصمين الطرفين في الصراع. نظرا للحساسية وحالة الضعف التي كانت تعرفها الجمهورية الإسلامية الموريتانية في تلك الفترة. وهو ما يتطلب تبني سياسة من شأنها أن تعمل على التوصل إلى حل دائم وشامل يضمن السلام في المنطقة، بدلا من الحل الجزئي. ورغم فشل محاولة 16 مارس 1981، وإعدام قادتها في محاكمة شكلية وبإجراءات سريعة، إلا أن قوة ولد هيداله بدأت تنهار ولم تدم طويلا، حيث اهتزت سلطته السياسية، وتزعزعت، حتى أطيح به في 12 ديسمبر 1984، في حالة تغيير أزاحت عن الجمهورية الاسلامية الموريتانية نظاماً كان يشكل تهديدا لقيمها، وسلامة أراضيها.. بل وهدد حتى وجودها.
ترجمة : يعقوب ولد باهداه
المقال الأصلي باللغة الفرنسية تحت عنوان : محاولة انقلاب 16 مارس.. ونزاع الصحراء