الخطوط الجوية الموريتانية : من النشأة إلى الإفلاس
Il n’est de justice que dans la vérité. Il n’est de bonheur que dans la justice”. Emile Zola
“… الوصول إلى مطار نواكشوط هو حقا المدخل إلى (عالم الذهول)! هو أول عرض من أعراض (الصدمة الحضارية).. فُتح باب الطائرة فإذا بأرض المطار مليئة بالحفر والتشققات.. لا توجد حافلات تنقل الركاب من الطائرة إلى قاعة الوصول!.. بل يتناثر الناس في أرض المطار مشيا وركضا في فوضى رهيبة متجهين نحو باب القاعة.. الحقائب تفرغ من الطائرة على أرض المطار ويركض الناس بينها يعوقهم الظلام..
فليس هناك من أضواء تساعدك في تحاشي التعثر في حقيبة هنا أو هناك أو حفرة من تلك الحفر.. إلا من ضوء بعيد يأتي من عامود عند باب قاعة الوصول حوله نافورة اسطوانية.. تبدو من بعيد جميلة وسط
هذا المشهد الصادم، تسير على هدي هذا الضوء البعيد والنافورة التي تحيط به إلى أن تصل قريبا منه فتتجمد مكانك واقفا مذهولا مذعورا.. فالذي بدا من بعيد نافورة جميلة حول عامود النور ما هو إلا سرب من الحشرات حول النور! وقبل أن يعود مخك إلى العمل من جديد بعد لحظات التجمد والذعر تكتشف أنها ليست فراشات! إنها حشرات لا تعرف إن كانت ذبابا أو نملا أو صراصير.. فهي هجين من كل هذا.. تتردد، مستحيل أن أمضي إلى النهاية.. تشخص ببصرك إلى الطائرة.. يائسا من إمكانية العودة إلى طاقمها لتتوسل إليه:”رجعت في كلامي خدوني معاكم تاني” إنما عقلك يدرك ألا مجال هناك لهذا التراجع السريع! خائفا من التقدم وهذا السرب من الحشرة الهجينة ينتظرك على الباب .. على وجه القائل ابتسامة سخرية من ذعري! داخل القاعة توجد في السقف مراوح لا طائل من عملها أمام هذا الحر الخانق المفزع.. المطار غير مكيف! الأجساد تتلاصق وروائح تملأ المكان تكاد تقضي على البقية الباقية من الصمود! …” مقطع موفق من مقال هويدا طه “زيارة إلى موريتانيا الأولى .. و الأخيرة” (الحوار المتمدن 28/09/2006) أستهل به هذا التحقيق للغوص في قصة مأساتنا من بوابة الخطوط الجوية الموريتانية التي ظلت طويلا على رأس قائمة نخبة المؤسسات في البلد، قبل أن نتفاجأ (تماما مثل هويدا) مذهولين و مذعورين .. بأن “الذي بدا من بعيد نافورة جميلة حول عامود النور ما هو إلا سرب من الحشرات” .. و نكتشف أن سرب الحشرات في الخارج توازيه أسراب و قوافل من القوارض في الداخل تنهش العمود الفقري للبلد في ظلام موحش و صمت مطبق. ـ لا أحد يجرؤ على الكلام من بين جميع المعنيين بالملف و من يجرؤ على بعضه يقف دون البعض و هو الأسوأ، لكن لا شيء يمكن أن يغطي وجه الحقيقة إلى الأبد، وكل من يتستر خلف الأباطيل على موعد حتمي مع العراء طال الزمن أو قصر. ـ إن التعتيم على حقيقة نهب الخطوط الجوية الموريتانية الذي شابه الحرائق في أكثر من وجه، جريمة بكامل أركانها في حق هذا الوطن المستباح ، يجب أن لا تمر من دون عقوبة. فليعذرنا كل من يغضب لورود اسمه أمام أفعاله غير المسؤولة لأن تلك مسؤوليتنا التي نتحمل كامل مسؤوليتها أمام الله و أمام شعبنا الذي يجب أن يفهم أنها جرائم لا تسقط بالتقادم، لن يكون جديرا بالبقاء إذا لم يفرض محاكمة كل الضالعين فيها إحقاقا للحق و إكراما للوطن و ردعا للعابثين بكل أسباب الوجود و الاستقرار في هذا البلد الطيب. لقد حيرتني قدرة هذه المؤسسة العملاقة على البقاء رغم الضربات المؤلمة التي تتالت في مقاتلها ، لكن لا شيء يمكن أن يصمد إلى الأبد في وجه معاول الهدم المستمر. فشكرا لمن شيدوا الخطوط الجوية الموريتانية حتى أصبحت أفضل مؤسسة طيران في الغرب الإفريقي : شكرا لهم لأنهم أثبتوا لنا أننا قادرين على مواكبة العالم .. و شكرا لهم لأنهم علمونا أن علينا أن نعمل لنستحق حياة أفضل .. و شكرا لهم لأنهم مروا بهذه الأرض و لم يفسدوا و لم يطهدوا و لم يتجبروا و لم يظلموا، لنفهم أننا نعيب الدهر و العيب فينا.. و شكرا لهم لأنهم عاشوا نبلاء و سيموتون خالدين ليعلمونا أنه ما مات من أبقى ثناء مخلدا و لا عاش من قد عاش عيشا مذمما… و هي مناسبة لنقلب المنجل عن وجوه سماسرة زمن الانحطاط و منطق الارتزاق لنعدهم بأن زمن المحاسبة آت لا محالة لينالوا جزاء ما اغترفت أياديهم الوسخة من آثام في حق هذا الشعب المسكين الذي تقوده عصابات التجار و العسكر منذ إنشائه حتى اليوم، بالوعود الكاذبة و الممارسات القهرية و الدسائس الدنيئة في عملية استنزاف مستمرة لا يعرف أصحابها الرحمة. سأسمي الأشياء بأسمائها في هذا التحقيق لأنني أرفض أن يعيثوا في أرضنا فسادا و يشيدوا لنا قانونا يمنع علينا أن نتحدث عنها . و على من يشكك فيها أو يحتج عليها أن يطلب فتح تحقيق رسمي في القضية لتفهموا أننا نتهم بالتهويل في حين نعجز عن نقل دوني الحقيقة: لا أحد يستطيع أن ينقل عشر ما تقوم به هذه العصابات المحترفة من إجرام. على القانون و المتكلمين باسمه في موريتانيا أن يخجلوا حين تمر بهم كل هذه الجرائم من دون عقوبة .. أن يخرسوا لأنهم أكبر متواطئ مع الجريمة بوجود هؤلاء اليوم خارج القضبان .. أن يفهموا أنهم لو كانوا موجودين لما وصلنا إلى هذا الحد .. أنه لو كان هناك من يخافهم أو يحترمهم في هذا البلد لما حصلت فيه كل هذه المعجزات الحقيقية .. أن يفهموا أنه أصبح من حقنا ـ بعد استقالتهم الكاملة أمام مسؤولياتهم ـ أن ندافع عن أنفسنا و عن أرضنا و شعبنا غير مبالين بما يرضيهم أو ما يغضبهم. و على القانون و المتكلمين باسمه في موريتانيا أن يعتذروا اليوم لهذا الشعب عن ما حدث فيه من جرائم في حقهم أمام أعين قانون منزوع السلاح تحول في زمن الفساد من حارس لحقوق الناس إلى شاهد زور على عدالة اغتصابها. سأسمي الأشياء بأسمائها لأننا يمكن أن نخضع لقهر الظلم لكننا لن نسلم بعدالته و لن نساهم في حماية أهله و لن نخاف من تهديداتهم و سطوتهم و جبروتهم. سأروي الحقائق كما حصلت أمام أعين الجميع غير مبال بما عدا ذلك أو ما يعنيه أو يترتب عليه، فـ”لا عدالة إلا في الحقيقة ـ كما قال زولا ـ و لا سعادة إلا في العدالة”. إن وسيلة هؤلاء المجمرمين اليوم للإفلات من العقوبات هي التسابق لمراضاة كل نظام يأتي و التفاني في خدمة من يحكم بحثا عن غطاء سياسي لا يكاد ينتهي حتى يتحولون إلى من يأتي بعده و هكذا دواليك حتى يقبض عليهم الموت. لعل أسوأ ما في الانقلابات العسكرية هو أنها تأتي بأنظمة مهزوزة و مرفوضة ، تكون وسيلتها الوحيدة للبقاء هي البحث عن صيادي الفرص مثل هؤلاء ممن لا يفكرون في غير البقاء بأقل شروط فيصنعون منهم طوابير إذلال على امتداد طريق عبورهم و يتحكمون من خلالهم في أخيار الناس من دون أن يستطيعوا التخلص من هذه الورطة حتى يسقطوا . لأن من تكون هذه الزمرة بجنبه لا يمكن أن يتكلم عن إصلاح و لا عن أخلاق و لا عن ما دون ذلك بكثير ، فيجد نفسه سجين واقع يكذب كل ما يقول و يظل رفضه يزداد مع الزمن حتى يأتي من يختلعه بلا رحمة من دون أن يجد في البلد كله من يأسف على غير عدم قتله؟ و الحقيقة أنه ليس هناك رئيس مهما كانت بشاعته لا يتمنى أن ينمو بلده و يزدهر و يكون محبوبا عند شعبه و خالد الذكر في بلده ، لكن هذه العصابات توهمهم أن لا إمكانية لبقائهم من دونها و تقحمهم في صراع مع الشعب بلا نهاية فينسون أنهم مهما حكموا لا بد أن تأتي نهايتهم بكل ما يترتب عليها من حساب و عقاب !؟ علينا جميعا شعبا و نظاما أن نقف هنا وقفة تأمل لنفهم أن هؤلاء الأشرار استطاعوا أن يجعلونا في مواجهة بعضنا و في معركة بلا نهاية، هم وحدهم من يكسبون فيها لتبقى السلطة معزولة في قلعة عصيان لا بد أن تسقط يوما و يبقى الشعب محروما و مستباحا يتعالى صراخه في كل اتجاه. يجب أن نخرج هؤلاء من اللعبة لنرى أنه باستطاعتنا أن نكون أفضل على أكثر من صعيد .. أنه باستطاعتنا أن نحل كل مشاكلنا .. و نتخلص من كل أمراضنا و أسباب ضعفنا. فليخرج هؤلاء لأنهم لا يستحقون الحياة و لا يستحقون أن يعيشوا على أكتاف مجتمع أنهكته السياسات المعوقة بالنهب و الغبن و الفساد على أيادي هذه العصابات المريضة النزعة و الانتماء. لا تستطيع أي سلطة في موريتانيا أن تعمل مصالحة مع شعبها أكبر من الحرب على المفسدين : هذا هو الإرهاب الذي يهدد موريتانيا و هو الخراب الذي يهدد موريتانيا و هو العائق التنموي الأول و مصدر خلافنا الأول و الأخير : لسنا بحاجة إلى الديمقراطية و لا إلى السفسطائية؛ إن حاجتنا أولا هي إلى أن نثبت أننا بشر و أننا نميز بين الجيد و السيئ و بين الخير و الشر و بين من يبني و من يهدم. ليس فينا الآن من لا يدمر هذا البلد بيده على طريقته إما بسبب التحكم أو بسبب الرفض أو بسبب الانتقام أو بسبب الانتهازية أو بسبب الأنانية و كلها شرور إن لم تكن بالأسباب و الدوافع فبالنتيجة. و يخطي من يعتقد أن موريتانيا يمكن أن تستمر بعد اليوم في هذه الفوضى المفتوحة و هذه الاستباحة المطلقة . و يخطئ أكثر من يعتقد أنه يمكن أن يدخل عهد إصلاح من دون معاقبة أباطرة عهد الفساد المتحكمين اليوم بأموالهم الضخمة في اقتصاد البلد و سياسته و سلطته. إن موريتانيا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: ـ إما أن يظل الرئيس في زوبعة تجاذبات ماكرة لا حل لعقدها حتى تأتي لحظة نهايته الحتمية لترمي به في السجن أو تتركه في الشارع كالكلب الأجرب يرميه كل من يمر قربه بحجر مثل جميع الرؤساء الموريتانيين السابقين بدون استثناء. و لأن موريتانيا لم تعد تتحمل مزيدا من الفوضى و لأن المناخ الدولي أصبح يفرض منطقا آخر لا يمكن السير عكس تياره؛ ستكون النتيجة الحتمية ـ إذا استمر النظام في نهج الفوضى المحمية ـ هي تفجير الوضع الداخلي في البلد بكل متناقضاته ليكون النظام و أصحاب الأموال الضخمة و المافيا السياسية التي تعيش على ظهر الشعب بالأباطيل و الأوهام، هم أكثر الخاسرين . و ستكون التحديات أمام موريتانيا للخروج من تلك الكبوة في منتهى الصعوبة لا شك، لكنها ستخرجها من دون أي من الأطراف الثلاثة لا محالة و هو مكسب ـ مهما كانت الخسارة ـ لا يمكن تقديره بثمن. ـ الخيار الثاني أمام النظام ينظلق من تشخيص بسيط : منذ وجود هذا الشعب في إطار ما يسمى بالدولة و السياسيون يصرخون؛ أحزابا و تنظيمات سرية و كتلا سياسية، و لم يزعجوا يوما أضعف نظام عرفه البلد . إن الغضب الذي يخشاه النظام اليوم هو غضب الشعب و على النظام أن يدرك أن المعارضة لا تمثله و لا تمثل غير نفسها في هذه اللعبة . دعوها تطرح شروط الحل كما تريده لتروا من خلال عريضتها أن الشعب لا يمثل في أجندتها غير وسيلة للضغط على النظام من أجل الحصول على مكاسب غير مستحقة. و تعلم مخابرات البلد التمويلات الخارجية التي تحصل عليها الأحزاب و تعلم ما تحصل عليه من تحت طاولة النظام و تستطيع بسهولة إسكاتها إلى الأبد إذا كان النظام جادا في إصلاح يعتمد أجندة جريئة و واضحة تصنف هذه المعارضة المافيوية كأحد أهم عوامل تعطيل التنمية الاقتصادية المرتبطة عضويا باستقرار سياسي لا تتم التنمية بتلبية مطالبه الأنانية و لا يتم الاستقرار برفضها. لكن مواجهة “المعارضة” المدججة بعيوب النظام، بهذا القرار الجريئ لا يمكن أن يفعلها من يحمي هذا التاجر و يغطي على ذلك المفسد و يغض البصر عن تلاعب الأغلبية بمصالح البلد : إن هذه الأنظمة المريضة هي التي تصنع أسباب رفضها و تحرض على الوقوف في وجهها بما ترتكبه من تجاوزات كانت في غنى عنها، لا يمكن لمن يرتكبها و يحميها أن يتهم أسوأ الناس حتى لو كان وجهه من فلاذ !؟ و إذا كان من يغض البصر عن الفساد يساهم في تحكم الظلم فإن من يحاربه بانتقائية يساهم في تشويه وجه العدالة. لقد دمر ولد عبد العزيز اقتصاد البلد حين أفزع المفسدين من دون أن يوجه لهم أي ضربة فهربوا ممتلكاتهم إلى الخارج و تركوا البلاد خاوية على عروشها و هي جريمة أخرى يرتكبونها في حق هذا الوطن الذي نهبوا خيراته دون وجه حق و أذلوا أهله، بتكديس هذه الثروات الوطنية الهائلة في البنوك في الخارج دونما وخز من شعور بأي حد من المسؤولية. ـ سيكشف هذا التحقيق عن مستوى الاستباحة الذي وصلت إليه الأمور في عهد الشيطان الرجيم معاوية لكنه يؤكد أن وجود الفاعلين اليوم خارج القضبان ، لا يمكن أن يعني سوى استمرار ذلك النهج بطرق أخرى تتحاشى النبش في المستور تفاديا لفتح باب تخشى أن لا تعرف كيف تغلقه!؟ و إذا كان النظام عاجزا عن مواجهة ثلة من المفسدين الجبناء فلا شك أن عجزه عن مواجهة شعب جائع لم يعد لدى أي منه ما يخسره، ستكون أكثر تأكيدا و حتمية
.
لقد عرفت الخطوط الجوية الموريتانية أربع مراحل أساسية يمكن وصفها بالمفصلية: ـ فترة النشأة و ما اعترضها من عراقيل جمة تم تجاوزها بإرادة صادقة و همم عالية على يد جيل مثابر لا يعرف المستحيل، تنقصه المعارف و الوسائل لكنه يتمتع بأخلاق عالية و مستوى أعلى من الإحساس بالمسؤولية و الواجب الوطني، عوضاه كل ما يحتاجه لبلوغ أهدافه .
ـ فترة ازدهار كان العامل البشري فيها حاسما ، لا يمكن أن يطلق عليها أقل من ثمرة “الانتصار القومي”، على يد جيل نخبة أكثر معارف و أوفر وسائل و أعمق رؤية و أكبر طموح، أصبحت على يده أفضل مؤسسة طيران في الغرب الإفريقي ، لا بوسائلها المتواضعة و إنما بالدرجة العالية من المهنية و الالتزام و الصرامة التي تخضع لها بأعلى درجات الانضباط و الإيمان بالتميز. ـ فترة استباحة مطلقة، بلا مقدمات كانت انعكاسا طبيعيا لنظام يتخبط ، على يد جيل معقد، لا يؤمن بشيء و لا يفي لغير غرائزه، عكس صراع مافياه على الحياة العمومية تحت قيادة طالت أكثر مما تستحق، لفظت الخطوط الجوية أنفاسها عند حلقتها الخامسة بعد صراع مرير مع الموت. ـ فترة العبث بإرثها بذريعة إنقاذ مؤسسة ميتة و نية الاستيلاء على ما خلفت، نظلم أهلها إذا حملناهم مسؤولية عدم إنقاذ الخطوط الجوية و يظلمون أنفسهم باعتقادهم أن إرثها مجرد شهادة وفاة يكفي تقديمها لتبرئة ذممهم . سنتكلم في الأجزاء الخمسة من هذا التقرير عن المراحل الثلاثة الأولى (من النشأة إلى الإفلاس) و سنبدأ فور الانتهاء منه في إعداد الجزء الثاني المتعلق بإرث المؤسسة و تداعيات إفلاسها و ما ترتب عليه من حقوق ضائعة و آمال موؤودة و انعكاساته السلبية على مرحلة التخبط الثانية التي يعيشها المجال في الوقت الراهن. قبل أكثر من ستين عاما بدأت الطائرات الفرنسية الصغيرة تحط في أرض موريتانيا على مطارات و مهابط طبيعية ما زال بعضها حتى الآن يستقبل طائرات النقل المتوسطة من دون أن يصرف عليه غير ثمن سياج (رديء في الغالب) لمنع دخول الحيوانات، مثل الطائرة التي قدم فيها الجنرال ديغول لوضع الحجر الأساس للعاصمة نواكشوط و الجيل الأول من طائرات النقل التي عرفتها البلاد في تلك الفترة . كان اتساع الأراضي الموريتانية و تعقيد تضاريسها و وعورة وسطها الطبيعي (الجبال و الوديان و التلال ) الذي كان من أهم أسباب تأخر احتلالها من قبل المستعمر، و غياب أي شكل من البنية التحية ، أمور موضوعية جعلت البلاد تفكر من أول وهلة في الطيران: مساحة كبيرة : (1.030.700 كم مربع) تمثل المناطق الصحراوية النسبة الأكبر منها، يمكن تقسيمها إلى 3 مناطق رئيسية هى:
ـ 1 منطقة ساحلية في الجنوب
ـ2 منطقة نصف صحراوية في الوسط تتخللها الهضاب والمرتفعات الجبلية، خاصة في ولايتي آدرار وتكانت.
ـ 3 منطقة صحراوية في الشمال و تتصل موريتانيا بالخارج من خلال مطارها الرئيسي مطار نواكشوط الذي يقبع اليوم في وسط المدينة كمحطة قطار.
وفي موريتانيا 8 مطارات أخرى قياسية معبدة إضافة إلى 18 مهبط غير معبد. ـ كان الزعيم الراحل المرحوم بوياغي ولد عابدين (الذي توفي في ظروف غامضة بسبب ما يعتقد أنها عملية تسمم كان من ورائها النظام الحاكم آنذاك بشكل أو بآخر، في ما يعتقد بعض المؤرخين)، أول وزير للنقل و البريد و المواصلات (بعد المصادقة على دستور61)، و هي إشارة واضحة إذا ما قورنت بصرامة الرجل و جديته و إرادته القوية، إلى الأهمية التي أولتها أولى حكومة موريتانية لقطاع النقل. و الشهادات التالية تفيد أن الاهتمام الخاص الذي أولته الوزارة بدورها للخطوط الجوية الموريتانية التي ظلت طويلا مدللة المؤسسات الموريتانية بامتياز و إحدى أهم رموز السيادة الوطنية، كان على مستوى الحاجة و حجم التطلعات في أهم أوجهه على الأقل. “في سنة 1962 عدت من فرنسا منهيا دراستي الإدارية ، وعينت ” حاكم دائرة أطار ” وبعدها عينت في انواذيبوا… وأتذكر في تلك الفترة ، عندما أسس المرحوم بوياكي ولد عابدين شركة الخطوط الجوية الموريتانية، اشترى طائرتي دس3 وكانت ” ميفرما ” تستأجر يوميا طائرة صغيرة من دكار لحمل الأشخاص والمواد الغذائية وبعد صدور مرسوم يمنع ذلك كان لابد من إيقاف ذلك التصرف، والتأكيد على أن النقل الداخلي لا يمكن إلا عن طريق الخطوط الجوية الموريتانية ، وعلمت بوجود طائرة في المطار تابعة لميفرما فأرسلت فرقة من ما يسمي آن ذلك ب ” قوم الوطن ” وأمرتهم بأن لا يتركوا الطائرة تطير وإن اقتضي الأمر استعمال بنادقهم ، واستدعيت مديرها وأخبرته الخبر فرفض التفاهم معي ، وذهبنا إلي الوزارة التي رفضت ما رفضته مطالبة بتطبيق القانون” عبد الله ولد الشيخ ولد أحمد محمود في مقابلة مع مدونة “بوتيليميت اليوم”: “في الجزائر (1969) كان معي طلبة موريتانيون منهم الحافظ ولد أحمد فال وهو من أصدقائي في مدينة تجكجة أثناء الدراسة الأولى، كان مبتعثا من شركة الخطوط الجوية الموريتانية لتلقي تكوين في الطيران، وكان معه في نفس المجال صديق آخر لي اسمه محمد ولد عبدي” كان هذا الكلام لرئيس الوزراء الأسبق سيد احمد ولد ابنيجار في مقابلة مع موقع “أمجاد”
وبعد دخول الأمم المتحدة (1961) أُقيمت العلاقات مع الاتحاد السوفيتي الذي فتح سفارة له في نواكشوط، سنوات قبل أن تفتح نواكشوط سفارة في موسكو، تغطي دول أوروبا الشرقية، وبدأت علاقات ثقافية تمثلت في إرسال العديد من الطلبة إلى جامعة الصداقة في موسكو، وأخرى تجارية كان أبرز ما تم فيها شراء الخطوط الجوية الموريتانية الناشئة طائرة “اليوشين” روسية الصنع.” محمد محمود ولد ودادي بدأت الخطوط الجوية الموريتانية إذن مؤسسة وطنية و قطاعا من وزارة النقل بطائرة صغيرة أتى بها المرحوم بوياغي ولد عابدين (بداية الستينات) من المملكة الإسبانية (ربما كان اختياره لإسبانيا بسبب موقف الفرنسيين آنذاك، من حزب النهضة الذي كان من أهم أطره). كان الفرنسيون قد أعدوا بعض المطارات المعبدة و المهابط في بعض من الولايات هي كل ما كان موجودا كبنية تحتية آنذاك. عين المرحوم با عبد العزيز أول مدير للخطوط الجوية الموريتانية (سنة 1962) وانطلقت بشكل فعلي برحلات منتظمة في العام الموالي بطائرتين من نوع (د.س.3) و قبطانين إسبانيين. كانت مهمة هاتين الطائرتين الأساسية ، تزويد عواصم الولايات شبه المقطوعة بسبب عدم وجود طرق و وعورة المحيط و ضعف الوسائل و بعد المسافات. و في سنة 1964 حصلت الخطوط الجوية الموريتانية (و كانت حينها لا تزال مؤسسة وطنية و قطاعا من وزارة النقل) على طائرة (د.س.4) ثم حصلت سنة 1973 على طائرة (اليوشين 18) روسية الصنع تم سحبها بعد فترة وجيزة مما يعني أنها ربما كانت مستأجرة، هي التي عناها ولد ودادي في شهادته غير الدقيقة نتيجة انبهاره بالتاريخ و الشحنة العاطفية العالية التي تطبع كل كتاباته عادة. بعد ذلك أصبحت الخطوط الجوية الموريتانية شركة ذات رأسمال مختلط ثم دخلت شراكة مع الخطوط الإفريقية و الاتحاد الدولي للطيران بنسبة 20% لكل واحدة منهما و 60% لموريتانيا. ـ وضعت لها خطة جيدة في البداية، في المحاسبة و التسيير و الاستغلال (التنظيم و الصيانة و إجراءات الأمان و تنظيم الوقت …) كانت موريتانيا عضوا في الخطوط الجوية الإفريقية و بموجب هذا الاتفاق كانت ملزمة بالنقل داخل أراضيها فقط ، ثم أنشئ اتفاق آخر يسمح للدول المشاركة في الخطوط الجوية الإفريقية بالنقل في الدول المجاورة سنة 1976 فأصبحت رحلاتها تصل دول الجوار السنغال أساسا، بعد شرائها طائرتين من نوع (فوكير 27) من هولندا . و في سنة 1985 وسعت مجالها الدولي بتسيير رحلات منتظمة إلى الدار البيضاء في المغرب و العاصمة المالية باماكو بعد حصولها على طائرات بمحركات نفاثة من نوع (فوكير 28) و غامبي لاحقا (بعد أحداث 1989)، ثم غينيا بساوو (خط كان معاوية يريد منه تزويد حركة كازامانس بالمال و السلاح…)، ثم سمحت لها الخطوط الإفريقية بخط آبيدجان (في إطار اتفاقية ياموسكرو) و بعد حل الخطوط الجوية الإفريقية صارت في حل من الاتفاقية و فتح لها الفضاء، فسيرت رحلات إلى فرنسا و برازافيل و بورتونوفو عاصمة جمهورية البنين. و قد أنشئت الخطوط الجوية الإفريقية (Air Afrique) في 28 مارس 1961 باتفاق بين إحدى عشر (11) دولة إفريقية فرانكفونية بنسبة 6.54% لكل منها و بمشاركة “سوديتراف” (UTA) و الخطوط الجوية الفرنسية (Air France) بنسبة 33%. كان مقرها الرئيسي في أبيدجان و إدارتها الفنية في داكار و مديرها العام الأول (1961 ـ 1973) السنغالي الشيخ بوباكار فال (توفي 2006 ) ثم توالى عليها كل من : إيف رولان بيلكارت، هاري تيرفانغادوم، باب تيام. أوقفت رحلاتها في نوفمبر 2001 و أعلنت تصفيتها في 7 فبراير 2002. لم تستفد موريتانيا من شراكتها في الخطوط الجوية الإفريقية كعادتها: ففي حين كانت نسبة العمال السنغاليين فيها في حدود 3000 ، كانت نسبة الموريتانيين أقل من 200 عامل في مختلف المجالات مع أن نسبة مشاركتهما متساوية (كمثال فقط). و كانت رحلاتها إلى داكار تضاعف رحلاتها إلى نواكشوط عدة مرات. و تركت الخطوط الإفريقية عددا كبيرا من الفنادق و البنى التحتية و الخبرات في جل الدول المشاركة إلا موريتانيا، حالة تذكرنا بما حدث في سد مانانتالي من فضائح و غبن في التوظيف و الاستفادة بسبب قصور وتقصير ممثلي البلد و سهولة ارتشائهم و تآمرهم على مصالح بلدهم .. ـ ساعدت الخطوط الجوية الموريتانية في فك العزلة عن مدن الداخل في زمن كانت فيه الطرق صعبة و كانت تجني أرباحا ضخمة و كانت تنتهج سياسة وطنية معقلنة (مثلا كانت قيمة تذكرة النعمة (في فترة معينة) 10 آلاف أوقية و تذكرة داكار 15 ألف رغم أن داكار 35 دقيقة طيران و النعمة ساعة و نصف) ـ في فاتح يوليو 1994 تحطمت طائرة (فوكير 28) تابعة للشركة أثناء نزولها في مطار تجكجة ولم ينج من ركابها البالغ عددهم 93 راكبا إلا 13 . كان أحد محركات الطائرة مؤجرا و غير مؤمن فتم تعويضه للشركة المالكة من قبل شركة التأمين (لويدز إينترناشيوال) بما يناهز ثلث مبلغ التعويض الإجمالي و هي حالة طبيعية إجرائيا. أما غير الطبيعي فيها فهو أن لا تعاقب الجهات الموريتانية التي أبرمت هذا الاتفاق الذي خسرت موريتانيا بموجبه كل هذا المبلغ؟ ـ في أغسطس 2006 أعلنت الخطوط الملكية المغربية عن شراء 51% من رأسمال الخطوط الجوية الموريتانية لكن هذا الإعلان لم يتحقق (؟) ـ في 6 يناير 2007 تم الإعلان الرسمي عن تصفية الخطوط الجوية الموريتانية لتشهد شوارع نواكشوط عشرات المظاهرات و الاعتصامات المتواصلة التي نظمها عمال الشركة للفت انتباه الرأي العام حول مأساتهم بعدما وجدوا أنفسهم فجأة بلا عمل دون سابق إنذار، فيما لم يحصل معظمهم على رواتب الأشهر السابقة و لا يزالون يطالبون بتلك الحقوق حتى اليوم و يظهر بوضوح من خلال هذا السرد الخارجي السريع لتاريخ المؤسسة أن خللا (لم يكن في الحسبان) قد حصل لا محالة لتذهب المؤسسة في فترة وجيزة من ذروة ازدهار حصلت فيها على طائرات نفاثة و امتدت رحلاتها إلى أبعد من حدود القارة، إلى إعلان التصفية!؟ و لا بد هنا أن نشير إلى أن إفلاس لخطوط الجوية الموريتانية ما كان يمكن أن يحدث بهذه السرعة في غير معجزة حقيقية، فالمؤسسة تملك طائرات جديدة من نوع جيد و فتح لها مجال العالم أجمع بعد إفلاس الخطوط الجوية الإفريقية و أرباحها أقرب إلى الضخمة من الكبيرة، فماذا حدث لتهبط اضطراريا من قمة الازدهار إلى حضيض التصفية..!؟ ـ في 13 /09/2007 أعربت الحكومة الموريتانية في رسالة وجهتها لمستخدمي الخطوط الجوية الموريتانية عن عزمها تسديد 2.7 مليون دولار كأقساط متأخرة لشريكها الأمريكي (إنترناشيونال ليزين فاينانس كوربوريشن) الذي أدى إلى حجز طائرتين موريتانيتين ( من نوع بوينغ 700 ـ 737) في مطار باريس- أورلي من طرف القضاء الفرنسي بعد دعوى تقدمت بها الشركة الأميركية المؤجرة للطائرتين بحجة عدم تسديد موريتانيا لديون متراكمة عليها. و عللت السلطة في رسالتها أسباب الحجز بسوء التسيير من دون أن تتخذ أي إجراءات عقابية ضد المسؤولين عنه و أيضا من دون أن تنفذ وعدها بتسديد المبلغ و إنقاذ الشركة. ـ في 13 / 10 /2007 أقر وزير النقل الموريتاني، أحمد ولد محمدن، بأن شركة الخطوط الجوية الموريتانية تعرف حالة إفلاس كامل بسبب تراكم الخسائر وسوء التسيير خلال العقدين الماضيين وأن أزمتها قد تفاقمت بشكل لا يمكن تداركه، مشيرا إلى أنها شركة ذات أسهم مختلطة وليست عمومية كما يعتقد البعض و مضيفا (بطريقة تبريرية جدا) أن سبب إفلاسها يعود لانهيار شركة الخطوط الجوية الإفريقية التي كانت المساهم الرئيسي فيها إبان خصخصتها سنة 2000. وكشف وزير النقل الموريتاني عن انطلاق أعمال شركة طيران جديدة في موريتانيا مطلع فبراير القادم هي “الموريتانية للطيران” والتي يسهم فيها القطاع الخاص والدولة الموريتانية والخطوط الجوية التونسية!؟ ـ و في 19 يناير 2008 تم إعلان إفلاس و تصفية الخطوط الجوية الموريتانية من إحدى محاكم نواكشوط و تسريح عمالها البالغين 450 موظفا. ـ في اغسطس 2008 ومع استلام العسكر للسلطة (ثانية) ، تعهد الجنرال محمد ولد عبد العزيز بدفع كامل مستحقات عمال الشركة وإنشاء شركة وطنية جديدة للطيران تعتمد على كفاءات الموظفين الذين فقدوا وظائفهم. ودفعت الحكومة بالفعل 100 مليون أوقية من مستحقاتهم و بدأت محاسبة من وصفتهم بالضالعين في إفلاس الشركة وسط جدل كبير حول الدوافع وراء اعتقال مديرين سابقين لها، كان أبرزهم الوزير الأول في حكومة الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله ، (مدير سابق للشركة في عهد الرئيس الأسبق اعلي ولد محمد فال). واعتبر الكثيرون من مناوئي الانقلاب العسكري الذي أطاح بولد الشيخ عبد الله أن عملية تصفية الشركة تحولت إلى أداة لمعاقبة الخصوم السياسيين بسبب مواقفهم من الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المنتخب. لا شك أن السلطة التي جاءت بعد الشيطان معاوية كانت قادرة على معاقبة المسؤولين عن إفلاس الخطوط الجوية الموريتانية و كانت قادرة على استرداد الكثير من أموالها المنهوبة و كانت قادرة على توقيف استنزافها المستمر و كانت قادرة على إنقاذها بسهولة لكن يبدو واضحا أن إغراء المجال جعلها تبحث عن مبررات موتها أكثر من أسباب نهوضها، من دون أن تفهم أنها تجاوزت أهم سر في سقوط المؤسسة فكان لا بد لوارثة مجالها أن تسقط في حفرته : فبسبب غياب العقوبة و هدم تراث انضباط و مهنية المؤسسة على أيادي جيل الفساد و الاستباحة ورثت موريتاني إيروايز كل أخطاء المرحلة فكان من الطبيعي أن لا تستطيع تحملها ليدرك من أقاموها أن لا شيء ينمو في مناخ فاسد . و مثل ما حصل لموريتاني إيروايز، قام معاوية قبلهم بفبركة سيناريو مماثل تم بموجبه تبرير هيمنة أهل عبد الله و أهل انويغظ على أراضي شمامة و تم إنشاء القرض الزراعي لتسهيل المهمة و هاهم اليوم يتخبطون في وحل مكرهم تماما مثل ما حصل لموريتاني إيروايز .
و هذا السرد الخارجي لا يفسر كيف تم نهب الخطوط الجوية الموريتانية الذي سنتعرض له بشكل مفصل في الحلقات القادمة، لكنه يهيئ لفهم ما حدث و يجعل الصورة أكثر وضوحا في الذهن حين لا تأتي مبتورة من الواقع الذي يفسرها، حرصا مني على نقل الصورة كاملة إلى المتلقي ليدرك بنفسه بشاعة ما تعرضت له هذه المؤسسة الوطنية العملاقة التي ماتت واقفة مثل الشجرة.
تحقيق : سيدي عالي بلعمــــش
يتواصل