هي الأورام تحاصرنا و لا نبالي / الولي ولد سيدي هيبه
تمضي البلاد بكل تناقضاتها الصارخة على وتيرة فوضوية مقاطع الشريط الرتيب للحياة اليومية و كأنها بذلك إنما هي في واد و العالم من حولها في واد آخر لا تربطها به أية صلة… حقيقة رهيبة و لو أنها في واقع الأمر مغيبة لا شعوريا
إلا أنها ماثلة بكل وزنها و تأثيراتها و إن بخفة تنزلها، و تداعياتها و إن ببطء تراكماتها في ظل ما يكون من تسارع الأحداث و جسامتها في كل أرجاء المعمورة حيث لسنا بمعزل عنها. يفصح المشهد العام لسير الأمور في حيز البلد عن اعتداد المواطنين بدولتهم القائمة كيانا و لكنه اعتداد شكلي لا يصاحبه أو يترجمه مطلقا مَدٌ تجسيدي في الواقع العملي اللهم ما يظهر في حقيقة الأمر من كون مسار هذا الكيان إنما يجسد صفحة حية و ناطقة عن الماضي الإقطاعي و الرجعي القريب علما بأنه لا يزال تسير رغم التغييرات الشكلية: أولا: بالوقود القبلي الثقيل بحيث تقتسم مجموعات قبلية لا تتجاوز عدد أصابع اليدين – و إن البعض منها حديث الالتحاق بالركب في الزمان دون المكان – وظائف الدولة و تستأثر بالمناصب الحساسة فيها بفضل أطرها التي كونتهم و تفعل دون غيرهم في الخارج منذ سنوات الاستقلال الأولى و ما بعدها بما كان لها و ما زال من التمكين ثم و زرعتهم قبل سواهم في كل مفاصل الدولة المؤثرة. و هي المجموعات التي تمسك وتدير بذلك التدبير جل مدخلات الدولة و مخرجاتها دون شريك أو منازع بفضل المسيرين منها و التجار الكبار و المقاولين و المستوردين فيها و أصحاب التراخيص المنتمين إليها للبحث عن المعادن و صيد الأسماك و التنقيب عن البترول حتى أصبحوا يديرون ثروات هائلة تحولت فيما بعد و بعيدا عن أي منطق اقتصادي تنموي معاصر و وطني يقر التقاسم إلي ممتلكات خصوصية كبيرة و سيطرة شبه تامة على كل المرافق الحيوية الخاصة و العامة من مكاتب و مؤسسات مقاولة و خدمية و استشارية و زراعية و صحية و تعليمية و إعلامية و غيرها و مصارف، وعيادات، و مكاتب دراسية، و قنوات تلفزيونية و إذاعات، و مدارس و جامعات و معاهد تكوينية خصوصية و مزارع كبرى و مرافق هندستها، و مؤسسات سياحة و مقاولات البناء و الوحدات الصناعية الصغيرة و الإيراد و التصدير لحساب جرأة النساء و تهور الأولاد و تحلل الشيوخ من قيود السن و ضوابطها. كما أنها هي أيضا المجموعات القبلية ذاتها من بين العشرات التي تسير في واقع الأمر، و ضد كل التوقعات المحسوبة، الشأن السياسي كالجسم الواحد باعتبار ما استطاعت إليه سبيلا في زمن القحط السياسي من توزع تكتيكي بين الأغلبية و المعارضة على حد سواء و بأساليب استطاعت التمويه عليها بقوة بفعل سلاحي المال الذي تملكه و وفرة و الحضور الذي يخوله بداهة ذاك المال. و يستثنى فقط و بخجل شديد من قبضة هذا الحضور الموزع بَعْضُ أحزابٍ و تنظيماتٍ استعصت على منهجها البارز و نفوذها القوي بالرغم من الذي حققته مع كل ذلك من وجود فعلي داخل هذه الأحزاب و التنظيمات المنخرطة في المعترك السياسي. و جدير بالذكر أنه من الأساليب المتبعة من لدن هذه التجمعات القبلية النافذة و المتحكمة أنها تسلك بكل ما تملك من قوة و همة لأجل بقاء نفوذها نهج الاستمرار وتمثلا في شحذ همم المجموعات القبلية الأخرى من حولها باتجاه التنافس القبلي الدائم على أنغام السياسية متدثرة لذلك بحلل الماضي و ناطقة بمضامينه التمجيدية التقليدية حتى تظل اجتماعات هذه القبائل تنعقد بقوة عند كل مناسبة سياسية أو استحقاق انتخابي أو زيارة رئاسية لمناطق الداخل و عواصمه الكبرى و كأن الزمن جلمود صخر لا حراك به. و هي الاجتماعات من زمن آخر و المتكررة دون استحياء، تقام شعائرها نهارا جهارا و ليلا مضاء في تحد سافر لمفهوم الدولة الحديثة و قيمها الجمهورية و منطق الديمقراطية و سمو مقاصده؛ و هي بالنتيجة أيضا المناسبات المواتية على الدوام للمطالبة بحصص يحسبها كل تجمع حقا من التعيينات مقدرا له لا جدال فيه و تعبيرا مفروضا عن وزنه القبلي. ثانيا: الزيت الإثني بكل تفاصيل المنطق الطبقي عند المكونات الزنجية الذي ما غاب يوما عن الأذهان و ما أخطأته العيون اليقظة لحظة حيث بلغ في التماثل مع المنطق القبلي عند المكون العربي حد تشابه التوائم السيامية و إن بتسميات مغايرة تناسب كل خصوصية بحد ذاتها؛ منطق قاس تئن بموجب سطوته الجموعُ الغفيرة من عموم كل مكون جورا و تحت وطأة سادته من أهل المكانة الرفيعة و المستأثرة لنفسها بناء عليها بالحصة المقتطعة في الدولة و ما تحدده و تسنده من مناصب أو تقدمه من تسهيلات لتثبيت الأركان و تكديس الثروات. و ليست قبضة الأسياد هذه داخل اثنياتهم في معقد تركيبها بأقل صلابة و إحكاما من غيرها بحيث تقوم أصابع هذه القبضة الفولاذية، المصهورة في حمم الزمن الظالم القاسي، بالعزف على أوتار اختلاف العرق الموحد عن غيره و المتميز بنضارته لإذكاء جذوة النعرة الانتمائية و إيقاظ الغيرة في النفوس واستحضار العزة و الشموخ. و هي القيادات التقليدية في حيز إثنياتها التي تتموقع بحسابات هي الأرى لا تعدم الماكيفيلية ما بين السلطة و أغلبيتها و المعارضة و توجهاتها و مقاصدها حتى لا يخبو وهج نارها و لا ينقطع خيط ريعها و لا تفقد ميزاتها و حصتها من كل كعكة تقسم. ثالثا: التسخير الطبقي بكل أوجهه، عمليا على أرض الواقع المختل و المتناقض، في استخدامه أداة حية لعملية البناء و التشييد الملحين دون مقابل في الوظيف أو إشراك في التسهيلات الممنوحة إلى حد أنه لم يتغير في مجرى الأمور منذ الاستقلال و حتى اللحظة إلا ما يكون من محاولات التستر عبثا وراء “محاصصة مبتذلة” لا تغير في واقع الأمر السائد شيئا و لا تؤسس حتى لتصور حلول تَمُت إلى البحث عن العدالة بصلة أو تدفع إلى فتح آفاق من أجل ذلك، علما بأنه و من سخرية الأقدار أنه لا تسلم هذه “المحاصصة” من المنطق القبلي و الإثني ناسفة في كل مرة ما يكون قد تحقق من بعض مطالب دعاة رفع الطبقية و إرساء دولة العدل و المساواة للجميع. و لا يقتصر تسخير الطبقات، التي تعتبر دونية في المنظومة المجتمعية و منطقها الارستقراطي الذي ما زال رابضا في النفوس ماثلا في التصرفات و الأعمال، على توجيهها وصرفها إلى ورش حقل البناء في أوضاعها و مراتبها القاسية و الأقل دخولا و أجورا على أساسيتها، و لكن في استخدامها عند الضرورات الانتخابية لتجديد المقام و تثبيت الأركان علما و يقينا بأنها القاعدة العريضة و المؤشر الحقيقي للنجاح. و لا تخلو الوسائل التي تتبع في استدرار هذه الأصوات و كسب الرهان عن طريقها من لعب على أوتار فقر أصحابها المدقع من ناحية و على الشعور الانتمائي في دائرة حيازتها و تقبلها في الدائرة القبلية أو الإثنية بوصفها في ذلك ركنا مكينا منها من ناحية أخرى، و هي الثنائية في المعاملة لا تخيب لدقة ارتباطها داخل المفاهيم المجتمعية التي ما تزال ماثلة و سائدة. من المعلوم أنه قد مر أكثر من نصف قرن على كيان الدولة المركزية لم ينجح خلال سنواته الخمسين زعيم سياسي واحد من أي من الأجيال الثلاثة (المرحلة الممهدة للاستقلال، ما بعد الاستقلال و مرحلة الأحكام العسكرية و ما تلاها) الذين أفرزتهم ضرورات مسار التحول إلى الحداثة، عملا كتابيا واحدا ينظر للمعطى السياسي على إلحاحيته أو يقيم بموضوعية و تجرد المسار السياسي للدولة أو يُعين على إدراك مكانة الوطن و توازناته و قيم الوطنية ومقاصدها أو يوجه إلى بناء الأمن و الاستقرار و دعم الوحدة و تمتين اللحمة و تحصين الشعب من أسباب التفكك و النأي به عن الشطط الفكري في كل أحواله و أشكاله و أبعاده و حفظه من عوامل الإحباط و التنازل و الانكسار. و لا يقتصر الأمر على السياسيين إذ لم يبرز أي اقتصادي يضع لهذه البلاد الزاخرة: · بالمعادن النفيسة من ذهب و حديد و ماس و نحاس و غيرها، · و بحقول البترول و الغاز البرية منها و البحرية، · و أراض زراعية تغطي مساحات كبيرة و خصبة على ضفة نهر و في واحات من النخيل تعد بالمئات، · و ثروة حيوانية من أهم مثيلاتها في القارة، · و ثروة سمكية محل أطماع و سباق كل الدول الغربية و الآسيوية.. عملا كتابيا هو الآخر أو طرحا أو تصورا يستلهم منه في المعركة العامة لبناء صرح الوطن للجميع بالتخطيط و الترشيد و الاعتمار و صولا إلى غناء و رفاه و سعادة الشعب. و ليست الأخلاق العامة الدينية و المدنية و سيكولوجية الشعوب، لمواكبة التحولات الهائلة التي تحصل داخل العقليات و في ممارسة الحقوق و أداء الواجبات وبناء النفس السوية لدى المواطن، بأوفر حظا هي الأخرى من غيرها. و بالطبع فإن غياب هذه الاهتمامات في خضم الصراع من أجل السلطة و الوجاهة و المناصب التسييرية المتقدمة و الثراء بالنتيجة هو ما أخر البلاد عن الركب الأممي، بل و أخطر من ذلك هو الذي ساعد من جهة على قيام و تأسيس تنظيمات حقوقية بـ”ثوب التمرد” تطالب بإنهاء هذا الوضع المخل بتوازن البلد و أخرى بـ”ثوب العداء” للانقضاض عليه وطنا يسير بعقلية الماضي معرضا من جهة أخرى و تفكيكه بشتى الطرق و الوسائل التي منها و ليس أقلها نفث سموم الحقد و التنافر و الخطاب المتطرف.