رسالة نزار قباني الى جمال عبد الناصر بعد النكسة
عندما حدثت هزيمة 1967 كتب نزار قباني قصيدته المشهورة (هوامش على دفتر النكسة) وفيها انتقد كغيره من المحبطين يومها اسباب الهزيمة وعبر عن جرحه النازف جراءها . وعندما نشرت القصيدة ثارت ثائرة اعداء الكلمة والابداع في مصر وحرروا وشاية عن نزار قباني الى الزعيم جمال عبد الناصر وقررت وزارة الاعلام منع بث اشعار نزار في وسائل الاعلام بما فيها النصوص المغناة .
علم نزار بأنه اصبح شخصا غير مرغوب فيه في مصر وحدث صديقه سهيل ادريس صاجب مجلة (الآداب) بالامر ونصحه الاخير بالكتابة رأسا الى عبد الناصر فربما تم تهويل القضية له . وبالفعل استجاب نزار وكتب الى عبد الناصر قائلا :
سيادة الرئيس جمال عبد الناصر:
في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رمادا، وطوقتنا الأحزان من كل مكان، يكتب إليك شاعر عربي يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم. وتفصيل القصة أنني نشرت في أعقاب نكسة الخامس من حزيران قصيدة عنوانها »هوامش على دفتر النكسة« أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي، وكشفت فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية، لاقتناعي أن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا، وإذا كانت صرختي حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف بمساحة الجرح.
من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران؟ من منا لم يخدش بأظافره؟ من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟ إن قصيدتي كانت محاولة لإعادة تقديم أنفسنا كما نحن، بعيدا عن التبجح والمغالاة والانفعال، وبالتالي؛ كانت محاولة لبناء فكر عربي جديد يختلف بملامحه وتكوينه عن ملامح فكر ما قبل 5 حزيران.
إنني لم أقل أكثر مما قاله غيري، ولم أغضب أكثر مما غضب غيري، وكل ما فعلته أنني صغت بأسلوب شعري ما صاغه غيري بأسلوب سياسي أو صحفي. وإذا سمحت لي يا سيادة الرئيس أن أكون أكثر وضوحا وصراحة، قلت إني لم أتجاوز أفكارك في النقد الذاتي، يوم وقفت بعد النكسة تكشف بشرف وأمانة حساب المعركة، وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. إني لم أخترع شيئا من عندي، فأخطاء العرب النفسية والسياسية والسلوكية مكشوفة كالكتاب المفتوح. وماذا تكون قيمة الأدب يوم يجبن عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض ووجهها الأسود معا؟ ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج يمسح أذيال المجتمع وينافق له: لذلك أوجعني يا سيادة الرئيس أن تمنع قصيدتي من دخول مصر، وأن يفرض حصار رسمي على اسمي وشعري في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها. والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر. لكن القضية أعمق وأبعد. القضية هي أن نحدد موقفنا من الفكر العربي. كيف نريده؟ حرا أم نصف حر؟ شجاعا أم جبانا؟ نبيا أم مهرجا؟
القضية هي أن يسقط أي شاعر تحت حوافر الفكر الغوغائي لأنه تفوه بالحقيقة. والقضية أخيرا هي ما إذا كان تاريخ 5 حزيران سيكون تاريخا نولد فيه من جديد، بجلود جديدة، وأفكار جديدة، ومنطق جديد. قصيدتي أمامك يا سيادة الرئيس، أرجو أن تقرأها بكل ما عرفناه عنك من سعة أفق وبعد رؤية، ولسوف تقتنع، برغم ملوحة الكلمات ومرارتها، بأني كنت أنقل عن الواقع بأمانة وصدق، وارسم صورة طبق الأصل لوجوهنا الشاحبة والمرهقة. لم يكن بإمكاني وبلادي تحترق، الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له. لم يكن بوسعي أن أقف أمام جسد أمتي المريض، أعالجه بالأدعية والحجابات والصراعات. فالذي يحب أمته، يا سيادة الرئيس، يطهر جراحها بالكحول، ويكوي – إذا لزم الأمر – المناطق المصابة بالنار.
سيادة الرئيس: إنني أشكو لك الموقف العدائي الذي تقفه مني السلطات الرسمية في مصر، متأثرة بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها. وأنا لا أطلب شيئا أكثر من سماع صوتي. فمن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه، وللمصلوب أن يسأل عن سبب صلبه. لا أطالب يا سيادة الرئيس إلا بحرية الحوار، فأنا اشتم في مصر، ولا أحد يعرف لماذا اشتم، وأنا أطعن بوطنيتي وكرامتي لأني كتبت قصيدة، ولا أحد قرأ حرفا من هذه القصيدة. لقد دخلت قصيدتي كل مدينة عربية، وأثارت جدلا بين المثقفين العرب إيجابا وسلبا، فلماذا أحرم من هذا الحق في مصر وحدها؟ ومتى كانت مصر تغلق أبوابها في وجه الكلمة وتضيق بها؟.
سيدي الرئيس.. لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربي أراد ان يكون شريفا وشجاعا في مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وشجاعته. يا سيدي الرئيس لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك.
بيروت في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1967- نزار قباني
ويروي نزار في سيرته (قصتي مع الشعر) ان احد المقربينقال له ان عبد الناصر وضع خطوطا تحت اكثر مقاطع الرسالة واصدر التعليمات التالية : 1 – لم أطلع على قصيدة نزار الا في النسخة التي ارسل هو إليّ وانا لا اجد اي وجه من وجوه الاعتراض عليها . 2 – تلغى كل التدابير السلبية المتخذة في حق الشاعر نزار قباني ويدخل مصر كما كان يدخلها في السابق ويُكرم فيها كما كان يكرم في السابق . التوقيع : جمال عبد الناصر .