طردا لشياطين الفشل / عبد الله السيد
ليس أخطر ما تواجهه موريتانيا اليوم أسعار مرتفعة ولا وفرة مالية غير منعكسة على مرجل الفقير، ولا هو ضعف التسيير ولا ملكية الرأي وعسكرة الحكامة، بل إن أخطر ما يواجه البلد اليوم هو الفشل في كل شيء..
والفشل مرض من أخطر أمراض الحياة وداء من أخطر الأدواء التي تشل حركية الأمم وتعجل بتقويض بنيانها من القواعد.. ألا ترى أنهم يصفون الدولة التي ضلت طريقها، وأعوزها النجاح في أي شيء، ولم تسعفها ثرواتها، بالدولة الفاشلة ؟ مع الأسف، وليسمح لي مع لا يعجبه هذا الرأي، نحن دولة منكوبة يلاحقها الفشل في كل شيء، ومنذ عقود.. فشلنا في إقامة دولة ثابتة الأركان: فرغم محاولتنا إقامة دولة حديثة فقد بقينا في سلوكياتنا وطرق بنائنا أسارى لنظام أحياء الانتجاع البدوية؛ فشلنا في السيطرة على ثرواتنا الهائلة وفي تنميتها ورعايتها وترشيدها، وفشلنا أكثر من ذلك، في توزيعها.. ألا ترون أننا منذ عقود والثروة يتنعم بها فريق محدود ويكون نصيب العامة منها الفتات أو لا شيء. ما الفائدة في قولهم أن ذاك الرئيس أطلق الأيدي في المال، بينما ذلك المال ظل في يد مجموعة من حوارييه ومؤلهيه ينحتون به كثبان العاصمة قصورا؟ وما الفائدة في أن هذا قد خلص المال العام من يد مفسدي العهود السابقة، ما دام قد جمعه في حسابات البنك المركزي وأغلق عليه وجعل المفاتيح في جيبه، فيما يبكي الرضيع الليالي ذوات العدد، في أحياء الترحيل لعدم وجود ملعقة من حليب أو قطرة لتسكين ألم؟.. ألا ترون أنهم يسمعوننا يوميا إنفاقهم لعشرات المليارات في الصحة والطرق والتعليم..بينما في العاصمة مقاطعات هامة مثل مقاطعتي لكصر والسبخة، مغلقة منذ شهور، بفعل المياه الراكدة والطرق المقعرة ؟.. لا داعي للحديث عن التعليم الفاشل الذي تحول لبالوعة أموال عقيمة المردود، ولا عن قطاع الصحة الذي تحولت مشافيه لقاعات يعالج فيها المواطن نفسه فيشتري قطعة القطن وخيط الجراحة وجرعة المطهر، ويعطي البخشيش للممرض وللطبيب اللذين “لا ينصحان إذا هما لم يكرما”.. فشلنا رغم تعدد أسلاك الأمن من درك وشرطة وتجمع لأمن الطرق ومن وكالات حراسة استوعبت متقاعدي هذه الأسلاك، في تأمين العاصمة فالحوادث الأمنية تكاثرت حتى لم تعد الشرطة والنيابة قادرة على معالجة الحالات المتقاطرة عليها كل وقت وحين. وإذا كانت علائم الفشل ملحوظة في أكثر من نقطة وموقع، فإن فشلنا الأكبر والأخطر هو الفشل في إقامة نظام سياسي مستقر تتداول فيه السلطة عبر صندوق الاقتراع لا بالدبابة ولا بالبيان رقم “1”.. تحمل شعبنا الصبور سنوات لجنة الإنقاذ المضطربة، وسنوات هياكل التهذيب المغبرة، وسنوات لجنة الخلاص الماحلة، وسنوات الحزب الجمهوري الجامدة، وكان اعتقادنا أن انقلاب 2005 سيوقف هذا النزيف وسيفتح الباب أمام مصالحة وطنية وأمام نظام مدني مستقر لا ضرر فيه ولا ضرار.. لم نسلم أيضا في هذه المرحلة من مطاردة الفشل فعاد البلد للانقلابات من جديد، فكان كل ما وقع أن ذهب ضابط وجاء ضابط وعدنا للمربع الأول. ورغم أن انقلاب 2008 شكل خيبة أمل كبيرة، فقد كان شعبنا متسامحا فانتخب مدبره رئيسا كامل الصلاحية، وكان الاعتقاد السائد أن التجاوز عن الانقلاب والتصويت لمدبره كل هذا سيخلق توازنا سياسيا يجعل البلد يداوي جراحه ويرمم حاضره ليبني مستقبله.. غير أن الفشل كان حليفنا من جديد حتى أن البعض منا أصبح يبكي على سنوات الإنقاذ والخلاص ويتمنى لو عاد له “عربيه بوشهاب”. ليس هذا كلام معارضة ولا مغارضة بل سرد للواقع الماثل الذي يجب علينا أن نملك الشجاعة للاعتراف به وتشخيصه والبدء في معالجته.. وإذا كان هذا هو الواقع فكيف نعالجه ؟ وكيف لنا،أكثر من ذلك، أن نتخلص من مارد الفشل؟ لكل واحد منا في هذا، رأيه؛ لكن..يجب ألا نفقد الأمل ..فلننس الماضي إذ لا داعي لاستذكاره، ولنتوجه بحزم وعزم لإصلاح الأمور بجد قبل أن تنفلت الأوضاع تحت ضغوط الجوعى والغرثى، وتحت صرخات أصحاب المظالم.. ولعل أول ما يجب أن نقوم به هو أن تتفق المعارضة مع الأغلبية في إطار الحوار الحالي، على صيغة شاملة إجماعية تعيد بناء المؤسسات من جديد وتعكس رغبة الشعب الحقيقية،؛ ويكون ذلك بإعادة الانتخابات النيابية والبلدية الماضية وتنظيم الانتخابات الرئاسية بمشاركة المعارض الجميع وبطريقة نزيهة وشفافة.. وستكون نتيجة مثل هذا الاتفاق إعادة انتخاب الرئيس الحالي بصورة لا كلام فيها لأنه الوحيد المستعد لها، ودخول المعارضة للبرلمان لكثرة حظوظها في ذلك، فتتزن بذلك الأمور وتعتدل الأحوال ويكون هم الجميع بعد كل هذا، العمل الجاد لاستقرار البلد وتنميته.. أما الرئيس الذي لا شك يتميز بالجد والنشاط واليقظة، فعليه أن يجعل من مأموريته القادمة التي تؤكد المعطيات فوزه بها أيا كانت التطورات، مأمورية أخرى سيماها الانفتاح والاستعانة بالكفاءات الوطنية الحقيقية..والتعويل على التحقيق لا على التصفيق. فعسانا إن وفقنا لكل هذا، أن ننتصر على فشل تطاردنا شياطينه منذ عقود. وهذا كله مجرد اقتراح من شخص يضع السياسة في جانب ويسعى ليكون ثالث المغلوب والغالب، عملا بنصيحة حكيمنا ومؤرخنا ابن حامد عليه رضوان الله.