تأزم الحاضر وضبابية المستقبل
دولة لا يسعد العيش فيها لغير المتزلفين المستعدين بالمطلق للنفاق والتقرب المستمر لنظام الحكم العسكري الانقلابي القائم، فبيضتها للأقلية على حساب السواد الأعظم، والنفوذ لعسكري متسلط لا يحسن إلا عشق الكرسي ومنافعه.
فالحوار على الأرجح لن ينجم عنه –إن استمر- إلا الهزيل القليل، الذي لا يسمن ولا يغني.
ولعبة الانتخابات الرئاسية الأحادية الهزلية، تسير بمحاذاة النموذج المصري، الذي كرس مرشحين فحسب، وبالتالي فلن تنتج طبعا إلا إفراز نتائج -خيالية هذه المرة ربما- لصالح ولد عبد العزيز، وسط شبه مقاطعة إن لم تكن مقاطعة تامة.
وما بعد الانتخابات مشوب بالقلق، وسط تخوف من استجلاب الموقف المصري السعودي من الحركات الإسلامية المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين، مما قد يعني تخصيص جزء من العهدة القادمة لتقليم أظافر الخصم الإسلامي وتقليص الحريات الإعلامية مع تناقص المصداقية في قطاع الاستثمار وعدم تساوي الفرص في الصفقات العمومية.
إن ضعف حركة النضال الشعبي والنخبوي على السواء، وتأثير المشهد المصري على الربيع العربي وسير قاطرة التغيير السلمي، معطيات أثرت سلبا في الواقع المحلي وعمقت حالة التأزم بوجه خاص، مما أثر على الاقتصاد والحالة المجتمعية عموما، وقلل من الأمل في رفع مستوى التغيير والحفاظ على الأقل على جو الحرية الإعلامية والحزبية عندنا.
وسيظل انهيار سقف الحريات الحزبية والإعلامية في موريتانيا في غاية التوقع والاحتمال، ما دام المسار السياسي على هذا النحو من الرجحان لصالح جو الاستبداد والعسكرة.
إذن، ضاع الأمل أو شبه ضاع، لأن الجنرال يحكم وحده على مذاق التحكم والصراخ في وجه الرافضين لإتباع هواه.
ولا انتظار إلا للمزيد من التخبط والضياع، لأن توقع طبيعة نهجه من المستحيل.
ومن تاريخه القريب، أنه أدار الظهر لولي نعمته معاوية، وانقلب على خياره المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، وأبعد عن ساحة وده، ابن عمه اعل ولد محمد فال، وسجن أصهاره ونكل بهم، وسجن من صفق له وزمر، مثل المفوض السابق لحقوق الإنسان محمد الأمين ولد الداد وغيره، وقد ورد في الحديث النبوي: “إذا لم تستح فأصنع ما شئت”. واليوم إن جرت الانتخابات وسط فشل الحوار وعجز الجميع عن رده عن القصر ثانية، فليس من الغريب أن نواجه أغرب التصرفات وأبشع المفاجآت.
إن الواقع العربي عموما، يتخبط ما بين الحكم الأسري والعسكري، وموريتانيا ضحية حكم عسكري عنيد، لا يقبل الانسحاب من مساحة الشأن العام، بعدما شكا الجميع من أدائه ونهبه للثروة وتهديده لاستقرار الوطن، إثر الرفض المتواصل لهيمنته المضرة بامتياز.
ولعل هذه الفترة من أصعب تاريخ الموريتانيين، حيث سيفرض عليهم مرة أخرى رئيس لا يرضونه لقيادتهم، لتقبل عليهم سنوات حكمه الثاني، تحت القهر وعدم إتاحة فرصة جادة لتحسين ظروفهم.
وهذا ما لخصناه في تأزم الحاضر وضبابية المستقبل.
وهو قمة تورط هذا البلد وساكنته المغبونة، حيث يتخبط حاضرا وسط الأزمات ولا ينتظر كبير فرج من المستقبل المنظور، بعد انقشاع أجواء الحملة الرئاسية واقتراعها.
إن القائمين على أمر المؤسسة العسكرية ينبغي أن يراجعوا أنفسهم، فكل هذا الفشل الذريع ساهموا فيه، من خلال إضفاء الطابع العسكري على موريتانيا وسياستها منذ 1978 وإلى اليوم، والنخبة لها حظها في موضوع إدارة البلاد، فهذا الواقع الراهن معبر عن ضعف دورها ومحدودية تضحيتها، على الأقل في التوعية والتحريض على الأحسن والأنفع، على مستوى الشعب والسلطة، دون تمييز في النصح.
ولنتحرك جميعا لدرء الخمول والركود والعجز عن وطننا، فالمستوى الراهن لا يبشر بديمقراطية ولا تنمية لهذا الوطن، وليس من المفهوم أن تسير موريتانيا إلى المجهول دون أن يثير ذلك شفقة وجهدا لدى الجميع لمنع السقوط في حمأة التردي.
وليعلم القاصي والداني أن ما حصل من حرية في العمل الصحفي والسياسي عموما خط أحمر يعتبر التراجع الكلي أو الجزئي عنه، تراجعا عن أهم مكاسب ونضالات هذا الشعب، وقد يثير ذلك تدهورا كبيرا في حالة الاستقرار الهش.
وليس حل جمعية المستقبل ومضايقة مستشفى النور إلا خطوة سلبية على هذا الطريق العقيم المعادي للحريات.
وليس النفس الإعلامي والسياسي المتاح، منة من سلطة ولا عطاء منها، وإنما هو نتاج تراكم النضال والصبر من اجل تذوق طعم الحرية أو بعضها.
وأكررها، فقد لا تعطى نتيجة الرئاسيات المنتظرة، إلا مزيد فرصة للتضييق والاستئثار بالمال العام واستغلاله في نطاق ضيق، وهذا يعتبر تكريسا للحالة المتأزمة المرفوضة على نطاق واسع ملفت للانتباه.
إن الفساد والظلم والحرمان والاعتداء على المكاسب ولو كانت محدودة، لن يقع ويتجذر إلا بالسكوت الجماعي، أما عندما نعبر عن رفضنا الحقيقي، فقد يكون ذلك بداية فرصة للخروج من عنق الزجاجة الخانق.
لقد عكس الحوار المتعثر عدم جدية الطرف الرسمي في التوصل إلى نتائج مشجعة، حيث لم يحسم تقدما -ولو محدودا-، كما أن المعارضة بدت ضعيفة، وإن استمرت في هذا النهج، فلن تمثل إلا مساعدا ومسهلا لحكم الاستبداد، وقد تحسب عليها بعض مشاكل الحاضر أو بعض مخاطر المستقبل، ما دامت لم تفرض أي إنجاز معتبر عبر هذا الحوار، وخصوصا إذا أقدمت على المشاركة في مهزلة الانتخابات الرئاسية.
وبعد استطلاع بعض المتابعين البسطاء من أنصار المعارضة الراديكالية، قال لي أحدهم مجيبا: “المعارضة ستزداد ضعفا أو ربما تموت إن واصلت في هذا الأسلوب”، وهي في الحقيقة -يقول صاحبي- قوية إن احتجت ميدانيا وسيناصرها الشعب قطعا، وتحقق أهدافها.
ويبدو الشارع العام غير مهتم بالانتخابات القادمة، ويعتبرها تحصيل حاصل.
إذن، المزيد من فقدان الثقة في النظام والمعارضة دون تمييز، لدى قطاع كبير من المواطنين.
ومن الجدير بالذكر أن مشكلة البطالة في إزدياد، خصوصا مع عمليات تسريح العمال من قبل مؤسسات الاستثمار المعدني، ذى المنفعة الخارجية أساسا، وما كان موجود من النشاط السياحي في الشمال أصبح في أقل مستوياته، والإنتاج المحلي من الخضروات رغم أهميته في ولاية آدرار، خصوصا من الجزر (الكاروت) لم تستطع الدولة المساعدة على تسويقه، وفي المجال الصحي، بعض الأمراض الخطيرة، خصوصا أمراض الكبد والكلي تتزايد نسبها وسط إندهاش الجميع وتخوفه، حفظنا الله وسائر المسلمين من كل بلاء وأسبغ عافيته ونعمه.
وفي أكجوجت من حين لآخر تحدث وفيات مفاجئة، وأحيانا ولادة مشوهة، وتنتشر مخاطر السموم، وبوجه خاص “اسيانير” دون أن تبذل الجهات المستثمرة ما عليها من واجب وقائي وعلاجي، عسى أن لا تصبح هذه العمليات الاستخراجية أكثر خطرا، مما يحسب لها من منفعة.
ويبدو أن هذه الأزمات وغيرها من التحديات لا تجد من الاهتمام ما تستحق، بينما يركز النظام على تمرير رئيسه، وتحاول بعض أجنحة المعارضة إعادة الانتخابات البرلمانية، كأعلى مكسب منتظر من حوارها المتعثر مع النظام المتغلب.
جو سيزيفي تضيع فيه المعالم وتلغى فيه الحقوق، وخصوصا قضايا الشرائح الضعيفة من هذا الشعب المغبون.
لوحة لا تشجع على كثير من الأمل، واقع متأزم لا يسمح بالتخاذل عن بذل أقصى الجهد السلمي من أجل التغيير، لكن المؤشرات لا تدل على إمكانية إنفراج تلقائي، فهل نعي جميعا خطورة التخلي عن المسؤولية، ونحرص في المقابل على تمثل مفهوم المواطنة والوطنية الحقة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، بعيدا عن التفريط والعنف.
ومن الملائم للمشتغلين بالشأن العام، أن لا يهملوا ورطة البطالة، فصفوف الفقراء في إزدياد بشكل خيالي، كما أن التحديات الصحية الخطيرة، عبر أمراض فتاكة لا تقل خطرا عن البطالة، فهذا الشعب لا تزيده الشعارات السياسية إلا تيها وضياعا، إن لم تجد لها تطبيقا جديا على أرض الواقع، فهو يموت يوميا دون إهتمام أو توجع، وهذا قمة تجاهل مآسي الموريتانيين.
إن الحوار لا يمكن إنكار أهميته ما دام جديا، ولكن إن كان وقوعه في الوقت الضائع مجرد خدعة ومحتواه لا يشي بالجدية المنشودة، لتجاوز بعض المشاكل الجوهرية، سيتحول إلى تكريم للنظام على استبداده ومساهمة في تمرير انتخاباته الأحادية، فوقتها تكون المقاطعة أولى وأحزم، وما سوى ذلك ترسيخ لعقد الحاضر وتجاهل لمآلات المستقبل.
بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن المدير الناشر ورئيس تحرير صحيفة “الأقصى”