رحلة الى عين بنتيلي لتأبين مقتلينا
ظهر اهتمام جريدة “الشعب” بقضية الصحراء من خلال تغطيتها لمهرجان ترأسه رئيس الجمهورية المرحوم المختار ولد داداه في الـ 19 اكتوبر 1975 وأعلن فيه ان ” قضية الصحراء هي قضية شعبنا وارضنا “وركز فيه على ان موريتانيا اختارت طريق الدبلوماسية لتنال حقها وهو جلاء المستعمر الاسبانى من الصحراء.
ومنذ ذلك الوقت بدأت حملة إعلامية لشرح الموقف الموريتاني تبناها “حزب الشعب” وواكبتها جريدة “الشعب” بنشر تقارير إخبارية وتعليقات.. ونجدها تنشر افتتاحية حول الموضوع بقلم رئيس التحرير السيد / الخليل النحوي في العدد الموالي للقاء بشار الشهير بين الرئيسين هواري بومدين والمختار ولد داداه (11 نوفمبر 1975)، وهو اللقاء الذي شكل بداية القطيعة بين الجزائر وموريتانيا.. هذه الافتتاحية لاتشير الى اللقاء المذكورالذى تزامنت معه ولكنها تركز على دلالة زيارة وفد من ابناء واد الذهب الى نواكشوط والتاكيد على اننا ابناء شعب واحد فرقه الاستعمار. (ومص) المصدر الوحيد ومع أن العمليات العسكرية بين الجيش الموريتاني والبوليزاريو بدأت في الأسبوع الأول من دجمبر 1975، فإننا لا نجد ذكرا لهذه العمليات من خلال جريدة “الشعب” إلا في إطار حصيلة للمعارك نشرتها في عددها الصادر يوم 26 يناير 1976 نقلا عن الوكالة الموريتانية للصحافة (ومص). ونجد أن “الشعب” تنشر في الـ 20 دجمبر 1975 ربورتاجا مصوراً تحت عنوان “استقبال حار لتحرير لكويره” وبعد ذلك نشرت عدة ربورتاجات حول “تحرير تشله والعركوب وبير غندوز”.. وهذه الربورتاجات كلها نقلا عن (ومص) والصور المرفقة بها التقطتها “إدارة السمعيات-البصريات بوزارة الإعلام”. ولا أجد تفسيرا لتغييب مهنيي ومصوري “الشعب” على مدى أكثر من شهرين عن التطورات العسكرية الميدانية في الصحراء والشمال الموريتاني؛ فكل ما نشرت “الشعب” من أخبار وتقارير وصور خلال شهري دجمبر 1975 ويناير 1976 هو من إعداد (ومص) و(إدارة السمعيات-البصريات)؛ هل هي خطة للتعامل مع بداية الحرب تبناها أصحاب القرار؟ أم أنها مسألة “تنافس” بين وسائل الإعلام الرسمية؟ أم أنها راجعة إلى “الثقة” في المسؤولين عن هذه المؤسسات؟! لا أعرف.. كل ما أعرفه أنني استدعيت على عجل يوم الـ 14 فبراير 1976 للقيام بمهمة في شمال البلاد لم يشرحوها لي ورافقني أحد مسؤولي الشركة الوطنية للصحافة -التي تصدر عنها “الشعب”- إلى مطار نواكشوط وفي قاعة الشرف وجدت أمامي بعض الزملاء وخرجنا إلى المدرج فاستوقفونا في انتظار مسؤول عسكري سيصل.. وبعد برهة، إذا بسيارة من نوع 404 شاحنة تقف أمامنا ويخرج سائقها مسرعا ليفتح الباب للشخص الراكب معه.. ولا أنسى أنني استهجنت ذلك الفعل واستغربت لماذا لا يفتح هذا العسكري عن نفسه واعتبرت ذلك من بقايا آثار الاستعمار الذي كان يحتقر البسطاء منا -هكذا كان تفكيري في ذلك الوقت-. حينما خرج هذا المسؤول العسكري من السيارة صافحنا بأدب واحترام، واذا بعض الزملاء يعرفونه، وابلغنا أن المهمة لا بد أن تتم في النهار وأن الوقت لم يعد كافيا لإنجازها (نحن في حدود الثانية ظهراً في ذلك الوقت).. وتقرر تأجيل الرحلة إلى الخامسة صباحاً ليوم غد.. وحينما سألت الزملاء عن هذا الضابط قالوا لي: هذا “الرائد معاوية قائد المكتب الثاني في الجيش”.. وعرفت بعد ذلك أنه “ابن سيدي أحمد الطايع” وأن المكتب الثاني يعني “المخابرات العسكرية”.. فطور في ازويرات وانزعاج في الجو أقلعت بنا الطائرة العسكرية من نوع “سكايفن” عند الفجر، وفي حدود التاسعة والنصف توقفت بنا في مطار ازويرات حيث تناولنا طعام الفطور بدار قائد المنطقة العسكرية.. وقبل أن نقلع من جديد عرفنا أننا متجهين إلى عين بنتيلي.. قائد الطائرة هو مسن فرنسي ذكر لنا أنه متقاعد من الجيش الفرنسي ويجلس إلى جانبه مساعد موريتاني.. وفي صالون الطائرة أثبتت مقاعد خشبية طويلة.. في الوسط يجلس الرائد معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، ويحيط به الزملاء المشاركون في الرحلة وهم على ما أتذكر السادة: • المرحوم محمد ولد السالك مدير السمعيات-البصريات • يسلم ولد ابنو عبدم مدير تحرير الوكالة الموريتانية للصحافة • الداه ولد عبدي من إذاعة موريتانيا • بدن ولد عابدين من إذاعة موريتانيا • الكوري ولد امبارك الملقب بانجكو مصور من السمعيات-البصريات • كرستوف متران رئيس مكتب وكالة الأنباء الفرنسية بنواكشوط • إضافة إلى كاتب هذه السطور.. وتحمل الطائرة كذلك فرقة الموسيقى العسكرية التي تؤدي النشيد الوطني.. من ازويرات اتجهت بنا الطائرة إلى الشمال-الشرقي.. كنا نتحدث مع قائد الرحلة في كل الأمور، إلا أن كرستوف ميتران كان تارة معنا وتارة مع قائد الطائرة، وبعد فترة من الطيران فاجأنا بأن “مواطنه” أسر إليه بأننا ربما نكون قد دخلنا التراب الجزائري لأن الوقت المخصص للرحلة قد انتهى، وهو لم يشاهد معالم عين بنتيلي، والطائرة غير مزودة بأجهزة الاتصال، وهو لا يمكنه الاقتراب من الأرض خشية الصواريخ المضادة للطيران.. معاوية استقبل النبأ ببرودة أعصاب ونحن استقبلناه بخوف وانزعاج، خاصة وأن كرستوف ميتران كان يسخر منا ويقول لنا: أنتم ستقتلكم الجزائر أما أنا فسيتدخل أبي لإطلاق سراحي (ميتران يومئذ رئيسا للحزب الاشتراكي ولم يفز بعد برئاسة الجمهورية).. استعان قائد الرحلة بالخرائط ليدل قائد الطائرة إلى عين بنتيلي.. وكنا فرحين حينما حطت بنا الطائرة فى هذه البلدة ووجدنا أمامنا المرحوم أحمد ولد بوسيف الذي استغرب تأخر وصولنا. على الفور بدأت مراسيم التابين للضباط والجنود الذين استشهدوا.. جرى ذلك في المكان الذي دفن فيه النقيب اسويدات ولد وداد الذي استشهد يوم الـ 19 يناير 1976 عند مدخل قلعة عين بنتيلي.. وذكروا لنا أن هذه التظاهرة منظمة لتأبين: – النقيب اسويدات ولد وداد الذي استشهد في عين بنتيلي مع بعض جنوده.. – النقيب انينغ الذي استشهد في بير ام اغرين مع عدة جنود آخرين.. ترأس هذه المراسيم التي جرت يوم الأحد 15 فبراير 1976، الرائد أحمد ولد بوسيف قائد المنطقة العسكرية الثانية وحضرها الرائد معاوية الذي يمثل قيادة أركان الجيش والنقيبان: سيدينا وسوماري سلمان وعدد من الضباط الآخرين. وقائع المراسيم هي عزف للنشيد الوطني واستعراض لوحدات عسكرية ثم جولة في القلعة التي أحدثت فيها القذائف فوهة كبيرة من الشمال.. قدموا لنا كل الشروح والتقينا بالجنود الذين كانوا مع النقيب اسويدات عندما وقع الهجوم وحدثونا عن المعركة الضارية وغير المتكافئة التي شهدتها عين بنتيلي؛ حيث كان عددهم لا يتجاوز المائة ومهاجميهم يقدرون بألفين، وكان الفرق شاسعا في مجال التسليح -هكذا قالوا-. ولم أنس أن المرحوم أحمد ولد بوسيف قال لنا أن هذا الموقع غير استراتيجي لأنه مكشوف من كل الاتجاهات إلا أنه جزء من الوطن ولا يمكن التفريط فيه، لذلك حرص الجيش على استعادة عين بنتيلي التي احتلتها البوليزاريو عدة أسابيع. وعين بنتيلي تبعد عن بير ام أغرين (257 كلم) في الشمال الشرقي وتبعد عن الحدود الجزائرية (80 كلم)، وهي على مسافة (30 كلم) من بير لحلو في الصحراء.. وقد أقام فيها الفرنسيون قلعة حصينة وبها دور قليلة على بعد حوالي (500 متر) من القلعة.. وعند زيارتنا لم يكن بها سكان.. تناولنا طعام الغداء مع مجموعة الضباط وهو على ما أتذكر من لحوم الإبل والأشربة المعلبة، والماء نادر هنالك إن لم يكن معدوماً..
وعدنا سالمين
وفي المساء عدنا من حيث أتينا سالمين والحمد لله رب العالمين، وهؤلاء الضباط الذين التقينا بهم في هذه الرحلة عرفناهم فيما بعد وتعودنا كثيرا على أسمائهم ورتبهم خاصة بعد انقلاب 1978.. وكانت لهم أدوار في الحياة العامة للبلاد إلا واحدا منهم لم أتعرف عليه فيما بعد وهو (النقيب سيدينا) وليس هو (سيدينا ولد سيديا) الذي جاءنا وزيرا للإعلام بعد ذلك. هذه الرحلة شكلت أول مهمة في نطاق الحرب الدائرة تشارك فيها “الشعب” وتنشر عنها ربورتاجا بقلم احد محرريها؛ ففي عددها الصادر يوم 16 فبراير 1976 نشرت “الشعب” في صدر صفحتها الأولى الخبر، وفي العدد الموالي نشرت صفحة كاملة مدعومة بالصور لما جرى في عين بنتيلي تحت عنوان “جنودنا مصممون على الذود عن سيادتنا الوطنية”.. اشتدت ضراوة الحرب لكنني مع بعض الزملاء غبنا عن الوطن عدة أشهر لمتابعة تدريب في المغرب.. ذلك ما أستناوله في الحلقة القادمة -بإذن الله
عن مدونة الكاتب محمد الحافظ ولد محم
http://hafedh-maham.blogspot.com/