أي عيد للصحافة ؟؟/ كتب :عبد الله السيد
لم أحتفل بعيد الصحافة لأسباب كثيرة منها أن الصحافة عندنا مختطفة منذ سنوات والاحتفال بالمختطف عبث ما فوقه عبث..
ومن أسباب عدم احتفالي بهذه المناسبة أنني أصبحت أخجل من الانتماء لهذه الحقل المغتصب، وكلما لقيت زميلا من زملائي عبر لي عن نفس الحالة.
تابعت أشخاصا، احترمهم، مثلوا مسرحية العيد لكن ما وجدت الصحافة بينهم، وتابعت متحدثين، أجلهم، في الإذاعات والقنوات لكن ما اشتممت الصحافة في كل ذلك..وسمعت برابطات وبنقابات واتحادات لكن ما رأيت ثمة صحافة..إنها مخطوفة غير موجودة..صدقوني.
كل ما في الأمر أن أهل الصحافة هربوا عنها فاحتلها آخرون مثل ما يفعله الكازرون الذين يحتلون أكواخا في الكبات انشغل عنها أهلها، ومثل ما تفعله بعض الأفاعي التي لا تتقن حفر الجحور فتراها تنملس داخل جحور ذهب أصحابها عنها يصطادون أو ضلوا الطريق فلم يعودوا لتلك الجحور..
حكومة ولد الطايع هي أول من جنى هذا الجرم بحق الصحافة: لقد أرادت أن تثبت للغرب أنها طبقت الديموقراطية والشاهد على ذلك وفرة الصحف الحرة، ففتحت الباب أمام ولوج حقل الإعلام لكل من هب ودب.
ثم أرادت أن تقضي على الصحافة كمهنة إبداع لها شرف وخلق حتى تضعف وحتى لا تتمكن من أداء دورها في الرقابة والنقد، وكان لها ما أرادت لقد ماتت الصحافة رجالا وأقلاما ومهنة شرف وأداة تغيير وعامل تنمية..لم يعد أحد يثق في الصحافة ولا فيما تكتبه ولم تعد الصحافة مؤثرة كما يجب أن تكون..
وتابعت الأنظمة بعد الرئيس معاوية نفس التمييع فالمهم أن موريتانيا تتوفر على صحافة حرة كثيرة ووفيرة: عشرات الصحف، آلاف المواقع، أما كيف هي هذه الصحافة وهل هي محترمة ذات صدقية وهل هناك مهنيون يتولونها؛ كل ذلك لا يهم..
ثم انظر للسلطة العليا للصحافة كيف حرصت الأنظمة المتعاقبة على خلوها من الصحفيين، وعلى تغييب أهل المهنة عنها حتى لا تجد المهنة من يفهمها ويقدر شؤونها ويتنفس شجونها.
لكن هنالك مع كل هذا ما هو أدهى فمعظم “صحفيي” هذا الزمان يحملون صحفهم ومواقعهم في حقائبهم ويحملون بطاقات الصحافة لامتهان الاستجداء.
صدقوني أن أحدهم زارني قبل أسبوع في سكني في عرفات فدق علي الباب واستقبلته بالترحاب فلما جلسنا أخرج لي بطاقة صحفية وطلب مني بلغة المكر الممزوجة بالتهديد أن أعطيه ما يشتري به الغازوال لسفر طاريء إلى روصو وإن لم يفعل فإنه سوف يكتب عني (وهو الذي لا يقرؤ ولا يكتب)، شيئا في صحيفته”.
لم يدر أنه وقع في فخ.. لقد غاب عنه تاريخ طويل .. اكتفيت بعد أن تجاوزت الصدمة بأن أخرجت له بطاقة صحفية يعود تاريخها لفبراير 1977 وقلت له: أيها الزميل العزيز لقد أوقعك القدر في ضحية تحمل هي الأخرى بطاقة صحفية لكن غير مزورة.. فاخرج واطلب غيري.. وتأسفت لما وصلت إليه المهنة وقد أزعجني كثيرا ذلك الموقف السخيف.
لكن هذه الاستهانة بالصحافة وهذا التمييع انعكسا سلبا، على الحكومات وعلى المجتمع بشكل عام فقد اختفت الأخبار التي هي منتوج الصحافة الأساس وحلت محلها الشائعات والنصوص الركيكة..وأصبح المجتمع يعيش كل يوم على معلومات مكذوبة..وانتهكت الأعراض لأبعد الحدود لأن كثيرين يتعاملون مع الخبر من منظور آخر غير إعلامي إما مدح لاستجداء شخص أو قدح للنيل من شخص أو ضغط لابتزاز شخص..
وهذه، لعمري، خسارة عظمى..
لا داعي للاحتفال، إذن، بعيد الصحافة عندنا، بل اللازم، وا أسفاه، أن نقيم المآتم لأن بلدنا بدون صحافة وبدون صحفيين وبدون إعلام في عصر لا مكان فيه لدولة لا تتوفر على إعلام مهني حقيقي وعلى رجال إعلام متنورين.
ليس كلامي المتشائم هذا عن الصحافة من باب حرصنا نحن كهول المهنة على المكث في قاعات التحرير وعدم إتاحة الفرصة للشباب المتخرج والصاعد ليتولى الأمور..لا ليس ذلك قصدي فأنا أعرف أننا أدينا أدوارا وأن سنة الحياة تفرض أن يخلف جيل جيلا آخر..
لكن هل نحن واثقون بأن الجيل الجديد قادر على حمل الأمانة بعدنا أم أن علينا أن نأخذ أمتعنا ونخرج ؟؟
لقد أكدت آخر تجربة لي في إدارة الأخبار عام 2007 وقد تجمع في قاعة التحرير شباب وشيوخ وكهول أن الجيل الجديد لمروره بتعليم مشلول ولتغير مسلكيات المجتمع، يتعامل مع الصحافة كوظيفة بمرتب لا كمهنة لتحقيق الذات وللتضحية في خدمة المجتمع بالصبر على حرفة لا أسرة لمن يمارسها حيث أن الصحفي يغادر بيته وأطفاله نيام ويعود إلى البيت وهم نيام ولا عطلة نهاية أسبوع له ولا عيد له ..ومع كل هذا فلا مال له أيضا.
عسى الله أن يتيح لمهنة الصحافة من يتداركها ويعيدها من اختطافتها هذه ويزيح عنها ما علق بها عبر السنين من قترة الجشع والطمع ويعيد لها دورها كمحرك لآليات بناء المجتمع على أسس صحيحة وكعين رقابة لا تترك الفساد والظلم يستشريان وينغرسان ويترسخان..
مجرد أمنية قد تتحقق وإن كان التشاؤم اليوم هو سيد الموقف.