هل انحسرت مساحة الحوار وانتصر شيطان العناد؟ / الولي ولد سيدي هيبه
لم تعد للحوار مساحة للتغلب على شيطان العناد، لم يعد لغلبة منطقه هامش من وقت لتقريب المسافات الواهية، و لم تعد للرشد السياسي، الغائب أصلا، فرصة ليرى النور فتحتكم إليه الألباب المحكومة بجبروت الماضي و طغيانه وهشاشة الحاضر وعمى المستقبل وغياب رؤيته .
هي الأمور تسير دوما هكذا في هذه البلاد كلما توافرت لها جهود الإحباط في “سيزيفية” العناد الذي تكرره وحده جاهلية الماضي و تحفظ به لندية صراع العفاريت فيه كل حضوره و صلفه. هل يستحق بلد كبير بمساحته، صغير بحجم ساكنته، هش بفعل تركيبته في حيز جغرافيته ذات الأوجه المختلفة، غائب عن مسرح المنافسة في عالم جديد بكل المقاييس و بكافة أوجه هذه المنافسة و مضامينها، هل يستحق كل عناء السياسة بهذا المنطق البعيد عن روحها و توجهاتها؟ من قائل بأن ما هو قائم من فوضوية المشهد السياسي و إحكام قبضة نخبه، التي باتت تترنح بين فشل أدائها منذ عقود بما يحقق لها قاعدة ثابتة و مؤمنة بريادتها و خطابها و بين إصرارها على انتهاج خط “رفض ما سواها” دون مرونة تكفل توازنا من أي نوع كان للحفاظ على استقرار يحتاجه البلد الذي يعاني ما يعاني من تراكمات ملفات شائكة لم يجد يوما أي منها طريقه إلى التسوية و لم تجد من ذلك المصالحة سبيلا إلى النفوس. و هي الحالة النفسية في انفصامها التي تحدد المواقف و توجه العمل الميداني و تحجب الرؤية المضيئة عن مقاصد السياسة المحمودة البناءة، يعانيها الكل في جوقة الضياع عن منهج الرشد و يتخبط في غياهب عمى الألوان بعيدا عن حقيقتها الشفافة المطلقة. هي أيضا الوضعية في حالتها العملية التي تربك حتى أهلها فتسد منافذ الخلاص من عذابات الاختلاف و الإقصاء و الأحادية في الخطاب و المنهج و الغايات و المقاصد و الأهداف كلٌ فيما يناسبه من أطر الأداء و أفعال الحراك. وضعية نفسية وأخرى عملية تطبعان بكل ثقليهما مسار بلد مستقل منذ ثلاثة و خمسين عاما و حياة سياسية عرفت في بحر ذلك الزمن تشكل الحركات النضالية و الأحزاب السياسية و الانفتاح على كل التيارات الفكرية و الإيديولوجية و تبني شتى المناهج المتبعة من الجميع في تحديد الخطاب و فلسفته و توجهاته و ما زاد ذلك كل اللاعبين و المهتمين و الزعامات و المؤسسين إلا تبارا بما لم تُتْبَعْ كل هذه الأحوال بما كان وجوبا من الأمانة الفكرية أساسا و الصدق في التعاطي و تكييف المناهج مع خصوصيات البلد و احتياجاته إلى التغيير و البناء و القوة. و يتجلى كل ذلك الضعف البنيوي فيما تعانيه المرحلة من ضبابية و الأوضاع خلالها من غياب الخطاب الحمال و العمل الميداني المقنع و كأن الأحزاب مخابر مغلقة أمام التلوث القادم من خارج أسوارها. و إذ تشهد البلاد أزمة سياسية حقيقة إلا أن الأدهى و الأمر هو أزمة الثقة التي تطبع علاقة المواطن بالأطر السياسية الفاعلة من جهة و بين المواطن و المجتمع المدني بكل توجهاته من جهة أخرى حيث لا علامة بارزة لهذه العلاقة المفترض أنها قائمة، و لا اتصالا عمليا يجسده تلاحم ميداني و منبري ملموس، بين القيادات في رأس الهرم و القواعد في ارضيته العريضة، تنضح مجسماته و دلالاته المتحركة على أرض الواقع “بمخرجات” تحقق التغيير الديمقراطي المنشود. حقيقة مرة بقدر ما تبين عنه من مرارة رديفة متجلية في انفصام هذه القيادات عن تلك القواعد علما بانحسار إرادة هذه الأخيرة في التنافس غاية على الحكم و إحباط القواعد من غياب إشراكها في عملية التغيير المقصودة أصلا. و ما معنى البحث عن حوار “الطرشان” بين توجهين متوازيين لا يستطيعان بمنطق الرياضيات البسيط أن يلتقيا لتنافر خطابيهما و غياب التجانس بين مكونتيهما. أغلبية لا يجمع بين أحزابها سوى خوف معظم مكونها المطلق من التلاشي بفعل ما تعانيه من هشاشة يجسدها ضعف ذكرها خارج “الشرنقة” و أحزاب معارضة متشبثة في مجملها هي الأخرى بقشة التصعيد أملا يراودها كالحلم في أنها و إن طال بها الأمد قد تقصم يوما ظهر البعير. و لا بد مع كل ذلك، من أجل استقرار البلد و أملا في أن تجد الديمقراطية متسعا تأخذ فيه أبعادها، أن تظل الحياة السياسية بعيدة عن منطق الاحتكار مفتوحة الأبواب للمزيد من المهتمين و الحاملين وعودا تأخذ كل قوتها من الواقع و تفتح شهية الشعب على التعاطي و الاستجابة. صحيح أن الانتخابات المقبلة ستشهد، إن تمت في الأجل المحدد لها دستوريا، غياب وجوه يعتبرها الكثير رموزا كبيرة و نجوما في سماء السياسية الوطنية، و أن هذا الغياب قد يلقي بظلال ثقيلة على مصداقيتها و هي مع ذلك الأوجه التي شارك منها العديد و باستمرار في كل الاستحقاقات الرئاسية التي عرفتها البلاد و لم تحرز النجاح الذي سعت إليه. و لكن صحيح بموازاة ذلك أن إعلان أوجه معروفة بحضورها السياسي القوي و معلومة بمستوياتها العلمية و المهنية و كفاءاتها المشهودة، ممثلة كلها و في تنوعها للطيف العام لمكونات البلد و همومه و تطلعاته، أمر لا يمكن التغاضي عما يمكن أن يصبغه من مصداقية على هذه الانتخابات و لا سيما أنه من غير المستبعد أن تساند الأحزاب المقاطعة و المنظمات المدنية ذات النزعة الاجتماعية و الحقوقية و النقابية الغير راضية في حكمها عن الأوضاع القائمة بعض هؤلاء المرشحين من الناحية العملية و ذلك بأن توجه مناضليها و المنتسبين إليها و المتعاطفين معها للتصويت لصالحهم. و إن غياب نجوم مهما كان اتساع بؤرة الضوء التي تطلقها بألقها و انتشار وهجها في كل أرجائها، و حتى لا يقال بموتها أجراما، لم يمنع ذلك أبدا من ميلاد نجوم أخرى في سماء ثبت أنها في نظام الكون لا تصفو إلا بتلك الدورة الأزلية. من يدري فقد تجري سفن بعض المرشحين الجدد بما لا تشتهي سفن من لا يعيرونهم كبير اعتبار، و قد تتشكل بهم على غير ميعاد نواة طبقة سياسية جديدة طالما جرى الحديث عن ضرورة ميلادها علما بأن الجمود السياسي، الذي تغط داخله كل الطبقة السياسية في سبات عميق فكرا و ممارسة،أضحى عقبة كأداء في وجه التحول الذي تتطلبه المرحلة و سياجا سميكا أمام أجيال من السياسيين الذين تحتاج البلاد إلى اختبارهم و الاستفادة من رؤاهم و قدراتهم و طاقاتهم حتى يحدثوا ديناميكية لا بد منها و حتى يتعدوا بالبلاد مدارج السياسية الأولى. أو ليس المطلب شرعيا أم أن الخوف من كسر المحظورات أولى.