من قتل حكمة الشامي … من قتل بول نيزان؟
“كلّ الناس الطيبين،
امتطوا جيادهم الأصيلة، ..
واختفوا”
(يشار كمال روائي كردي”
انتميت الى السَّرد من دون أن ادري. هكذا، مثل وقوع احدنا في الحب:
لحظة واحدة، لحظة قصيرة، حتى انه لا يمكن التقاطها، لكنها حياة غير منتهية، مثل النص السردي تماماً، يبقى قابلاً لمزيد من السرد، في الحذف كما في الاضافة وهو بين جلدين، أو حتى على ورقة جريدة.
انها الحياة المسرودة، اذن، كما وصفها سارتر، ودخل الى عمقها غير المنظور، عندما كان يتحدث عن رواية للفرنسي: “دوس باسوس”. قال: “ان دوس باسوس لم يخترع الا شيئاً واحداً: فن السَّرد. لكن هذا يكفي ليخلق عالماً”.
ان خمساً وثلاثين سنة، هي عمر بول نيزان، تكفي لأكثر من اربع روايات: كان هذا المتمرد يسرد ماضياً، يؤرّخ، يعيد ترتيب أحداث، ليصنع منها مادة زمنية، تتحول الى دلالات رمزية باللغة التي هي سرد محض.
لكن حكمة الشامي، حين عرف أنه صائر الى موت في عمر نيزان ذاته، قرر أن يموت في عمره هو: كان آنذاك في الثامنة عشرة، فنهض من سريره الأرضي، ومشى نحو حائط سجن “نقرة السلمان” ثم أطل منه على الساحة الرئيسية في سجن “الحلة المركزي”، وخاطب رجلاً كان ينتظره: الآن جاء دورك.
هذا إطار، ربما يكون لغوياً، لا يطيقه حكمة الشامي، فهو إذا كان محكوماً عليه بالموت، مثل نيزان، لأنه “صاحب وجهة نظر”، فهو أيضاً على دراية في كيفية الصعود الى مستوى التضحية بحياته. هو الذي اخبرني بذلك وقال لي: انت تدري ما هو الجنوب!
وهاهو يهديني مفتاحاً اضافياً للسرد الذي يعيش مع الجنوبي ليل نهار، بل حتى في أحلامه . لذلك جئت به من الجنوب ذاته، ثم صعدت به الى الماضي: الصعود الى الماضي؟ نعم: تتيح لنا اللغة هذا الامتياز الذي ان جعلته يقترن بك، اتخذته مطيّة. وهكذا كان.
“قال ابوه: التقيت بأمّه التي كانت تحلم به آنئذ، عند ضفة دجلة اليسرى، التي تنساب بتعرّج ابتداء من جنوب الكوت، ولم اكن اعرفها كما اعرفها الآن. قلت لها بعدما كبر حكمة الشامي: والآن، يا ابنة العم، ها إن حكمة صار رجلاً، فهلا زوجناه؟ فقالت وهي تنتظر عودته على جواد القاسم، انها تخاف الكلام، فلقد عاشت البارحة حلماً كريهاً: لقد أحب حكمة الشامي، “وَنْسَة” ابنة صياد السمك الذي يجاورنا. ولما دخل عليها بعدما زفّه الشباب اليها، جذبته خلفها، وقيّدت يديه بضفائرها، ثم ذبحت رقبته من خلف، كما حدث مع الحسين”.
عندما قرأ ناقد “جدانوفي” صغير هذه الأسطر، شعر بأن عشرات القنافذ تتمطى فوق جسده، فأعلى صوته: “هذا موت لا يليق إلا ببورجوازي عفن . هذه خيانة!”
انه الرفيق الفرنسي ذاته، ربما كان اسمه “جان كانابا”، لكن بلسان عربي ذي لهجة عراقية، ثم شحذ خفراء اللجنة المركزية سكاكينهم، بينما كانت نشرة الاخبار في السجون الشيوعية تتحدث عن “كاتب اسود” يولد في العراق.
“كاتب أسود”: تلك عبارة أطلقها فلاديمير ايليتش لينين ضد فيدور دستويفسكي، بعد الثورة البلشفية مباشرة . لكن دستويفسكي مقاتل حتى في موته.
وكنت مستعداً للمنازلة، فسردت مقتل حكمة الشامي بتلك الطريقة الدموية:” ونسة ” تمتص دمه وهي تقبله، بينما الأفعى التي يشاركها سرير نومها، ويشاركها ايضاً مائدتها الدموية.
كان حكمة الشامي يكتب حياة واسعة، تتسع ساعة بعد أخرى، لتكون الزمن ذاته، وليكون هذا القتيل بخناجر رفاقه وكلماتهم، كائناً في زمن الحرية ذاتها، حتى عندما كانت التواطؤات قائمة على قدم وساق، لأن رجلاً عراقياً عجوزاً، خرج لتوه من سجن “نقرة السلمان”، لايزال يصرخ: من قتل حكمة الشامي؟
يكتب إليّ، منذ ثلاثين سنة، كتاب وقراء اعرف بعضهم: “نحن نعرف القتلة”..
جمعة اللامي