التسلح في موريتانيا في القرن 19..
اطلعت على الكثير من المراسلات التي تمت بين الفرنسيين وبين بعض الأمراء الموريتانيين أو الزعماء، وبين يدي عشرات من تلك المراسلات التي تشمل في أكثرها منطقتي البراكنة والترارزة، وبشكل أقل مناطق آدرار والعصابة والحوض وتكانت. لم ألاحظ في هذه المراسلات، مع كثرتها، أي إشارة إلى أن الموريتانيين كانوا يطلبون السلاح من الفرنسيين لا شراء ولا هبة، ما عدا رسالتين اثنتين إحداهما من أمير البراكنة سيدي اعلي الثاني ولد أحمدو ولد سيدي اعلي الأول، المتوفى سنة 1893، والثانية من أمير الترارزة اعلي ولد محمد الحبيب المتوفى سنة 1886.
رسالة الأمير سيدي اعلي موجهة إلى الجنرال فيدرب، الوالي الفرنسي بسينلوي، وقد كتبت في حدود سنة 1857 أي في السنوات الأخيرة من حكم أمير البراكنة امحمد ولد سيدي. وفي هذه الرسالة يطلب سيدي اعلي من فيديرب “مَا يَقْوَى بِهِ علَى العدُوِ منَ البَارُودِ وجيِّد المدَافعِ والرصَاصِ والتِّيمِشْ”. ويعني بالعدو: ابن عمه امحمد ولد سيدي حليف أمير الترارزة امحمد الحبيب الذي كان في حرب مع الجنرال فيدريب.
أما رسالة الأمير اعلي ولد محمد الحبيب فكانت في حدود 1882 وفيها يقول الأمير اعلي لوالي سينلوي الفرنسي: هنري كنار (Henri Canard) أن سلفه لويس بريير دو ليسل (Louis Brière de l’Isle) وعده بحصان وببندقية ولم ينفذ وعده، ويرجو الأمير اعلي من الوالي الجديد أن ينفذ ذلك الوعد ويبعث بالحصان وبالبندقية إليه.
في بعض النصوص الأخرى، غير المراسلات بين الموريتانيين والفرنسيين، نجد أن بعض المستكشفين والرحالة الفرنسيين كان يقدم لهذا الأمير أو لذلك الزعيم هدية عبارة عن مسدس أو سلاح فردي على سبيل الاسترضاء والتقرب. فبول سوليي (Paul Soleillet) مثلا، وهو الذي زار الترارزة وإنيشيري وباطن آدرار سنة 1880، يذكر أنه أهدى للأمير اعلي ولد محمد الحبيب مسدسا.
ولنا أن نتساءل من أين كان الموريتانيون يحصلون على السلاح في القرون الماضية؟ وكيف أصبحت منطقة الترارزة تعرف في القرن التاسع عشر بـ”إقليم البارود”. ولماذا كثر دقيق البارود في موريتانيا في ذلك القرن حتى إن أمير إدوعيش محمد بن امحمد شين توفي رحمه الله تعالى سنة 1820 بالصبيبير قرب المجرية بسبب انفجار برميل من البارود كان الأمير محمد يجلس عليه؟
الموريتانيون وقصة التسلح في القرون الماضية
هناك ثلاثة مصادر أساسية شكلت قنواتِ الحصول على السلاح في موريتانيا في القرون الماضية وهي:
أولا: المبادلات التجارية مع الأوربيين بدءا بالبرتغاليين فالإسبان والهولنديين والألمان والإنجليز وانتهاء بالفرنسيين بشكل أساسي.
كانت المواسم التجارية التي أقامها الأوروبيون على شواطئنا الأطلسية غربا وعلى ضفافنا النهرية جنوبا مناسبة لحصول الأمراء وأسرهم وحاشيتهم على قطع أسلحة كثيرة، وعلى كميات هامة من البارود. وتتفاوت أهمية تلك القطع بحسب أهمية الشخص، فما يقدم إلى الأمير من بنادق ومن كميات من البارود ضمن الإكراميات المحددة له في تلك الاتفاقيات يفوق بكثير ما يعطى لوزيره أو لأحد مساعديه أو لأحد الأعيان من بيوت الإمارة مثلا.
وعلى العموم شكلت تلك المواسم التجارية والأسواق مع الأوروبيين أهم مصدر للحصول على السلاح الأوروبي من بنادق متنوعة ومن بارود. وقد أوضحت في مقالة لي سابقة جانبا من تاريخ التسلح الفردي في موريتانيا وتتبعت دخول بعض مختلف أنواع البنادق لموريتانيا مثل الگشامه والوندي والوروار… وغير ذلك. وشرحت أسماء تلك الأسلحة في تلك المقالة فلتراجع في المواقع التي نشرتها.
من الواضح أن الأمم الأوروبية ساهمت كلها في تسليح الموريتانيين في تلك العصور الماضية. إن الاتفاقية التي أبرمها الفرنسيون مع أمير الترارزة اعلي الكوري سنة 1785 نصت على أن الأمير يتقاضى سنويا إكرامية فيها الكثير من الامتيازات والهدايا ومن بينها مثلا: بندقيتان من نوع “بوفمين” (Fusils à deux coups)، وألف رصاصة، ومائة رطل من البارود. في حين يحصل وزيره على اثني عشر بندقة من نوع “الفردي” (Fusil fin à un coup) وستة وعشرين رطلا من البارود. وتنص نفس الاتفاقية على حصول أزيد من عشرين شخصية أخرى من أعيان الترارزة، تم ذكرهم بالاسم، على امتيازات وهدايا من ضمنها قطع أسلحة وكميات معتبرة من البارود. وفي نفس السنة وقع الفرنسيون اتفاقية مع أمير البراكنة امحمد بن المختار بن آغريشي، ونصت تلك الاتفاقية على أنه سيعطى للأمير بموجبها وبشكل سنوي: مائة بندقية من نوع “الفردي”، وعشرين بندقية (كابوس كما في نص الاتفاقية) ذات طلقة واحدة (pistolets à un coup)، فضلا عن بندقيتين من نوع “بوفمين”. كما حصل إخوته ووزراؤه على امتيازات تتضمن قطع أسلحة هامة ومتنوعة.
شكلت هذه المواسم التجارية، التي كانت مادة الصمغ العربي أو العلك أهم بضاعة تدور حولها المعاملات بين الموريتانيين والفرنسيين، أبرز وأهم طريقة حصل من خلالها الموريتانيون على الأسلحة النارية. وبواسطة هذا التسلح الذي كان يتدفق سنويا على مختلف الإمارات والمناطق الموريتانية كلما تم تنظيم موسم تجاري مع هذه الإمارة أو تلك طور الموريتانيون نسبيا تسلحهم الفردي، وكان لهذا السلاح الأوروبي الغالي والمطلوب بشكل قوي دور كبير في التطورات السياسية والأمنية التي عرفتها أغلب الإمارات الموريتانية؛ سواء أكانت تطورات سياسية داخلية أو تطورات علاقات الإمارات فيما بينها. وقد أصبح السلاح الناري الأوروبي جزءا فاعلا في عمليات التوازنات الأميرية والاستقطابات داخل كل إمارة وحتى في علاقات الإمارات والقبائل بعضها ببعض.
ثانيا: استطاع بعض الموريتانيين الحصول على السلاح، وبشكل أخص في القرن التاسع عشر، عن طريق السوق السوداء المنتشرة في المراكز الحضرية على ضفة نهر السنغال، وبشكل أكثر تحديدا في مدينة سينلوي وفي دكانة وبودور وماتام وفي “مدينة” وكلها حواضر تقع على نهر السنغال.
كان بعض الرماة السنغاليين (Tirailleurs Sénégalais) يبيع خفية سلاحه الناري للموريتانيين في القرن التاسع عشر. والرماة السنغاليون هم أحد أسلاك الجيش الاستعماري الفرنسي في السنغال وفي إفريقيا عموما، وهم سلك مكون أساسا من السكان المحليين، وقد أشرف الفرنسيون على تكوينهم وتدريبهم وتسليحهم، كما شارك هؤلاء الرماة في الكثير من حملات الامبراطورية الفرنسية الاستعمارية في المنطقة عموما وفي موريتانيا خصوصا. وقد كانت الحالة المادية المتدنية لبعض هؤلاء الرماة السنغاليين تفرض عليهم بيع قطع الأسلحة التي بأيديهم. وقد شكل بيع الرماة السنغاليين لأسلحتهم للموريتانيين حرجا للفرنسيين أحيانا، وتهديدا أمنيا أحيانا أخرى كما سنبين ذلك في لاحقا عند الحديث عن حظر الفرنسيين في القرن التاسع عشر لبيع الأسلحة للموريتانيين.
ومن أمثلة شراء الأسلحة ما ذكره الرائد فريرجان (Frèrejean) في كتابه عن موريتانيا من أن قبيلة أولاد بالسباع في صراعهم مع إمارة آدرار بداية القرن العشرين حرصوا على تطوير تسلحهم الفردي فاشتروا كميات كبيرة من بنادق “الوَرْوَارْ” وتغلبوا بها على مناوئيهم وبسطوا نفوذهم بفضل هذا التطور في التسلح الفردي. وكانت قبيلة أولاد بالسباع أول من أدخل “الوَرْوَارْ” وهي بنادق ذات طلق سريع إلى موريتانيا، واللفظ -كما ذكرت في مقالة سابقة- تصحيف للفظ الأوروبي (Révolver). والوروارْ عبارة عن بندقية متطورة توضع بها رصاصة واحدة من عيار 8 ملم، وتصيب على بعد أزيد من كيلومتر.
ثالثا: أما الطريق الثالث للتسليح في موريتانيا فكان مصدره الصناع التقليديون؛ فقد عرفت عنهم المهارة والعبقرية والإتقان، بحيث كانوا يقومون في أغلب الأحيان، فضلا عن إصلاح الأسلحة النارية التي كانت تصل الموريتانيين من أوروبا في حالة تعطلها، فقد كانوا يستصنعون أسلحة نارية جديدة وتحاكي الأسلحة المصنوعة بأوروبا. وكانت هذه الأسلحة –حسب الروايات الشهفية- فعالة ومنافسة في أدائها للأسلحة الأوروبية، لكن الوسائل التي كانت تستعمل لاستصناعها كانت بدائية جدا. فقد كان صهر الفولاذ وإذابة الحديد والتحكم فيه تتم بالطرق القديمة، فلم تكن عند الصانع التقليدي الموريتاني مصانع للصهر ولا لقولبة المادية الحديدة في الأشكال التي تتطلبها صناعة البنادق، وهي أمور دقيقة وفنية وتتطلب بنية تحتية لا توجد في موريتانيا في تلك الفترة. ومع ذلك فإن الصانع التقليدي الموريتاني ساهم بشكل فعال في تطوير وتصنيع السلاح الفردي، وفي بعض الحالات استطاعت تلك الصناعة التسليحية المحلية –على بساطة أدواتها- أن تشكل عامل قوة في بعض المواجهات الحربية في موريتانيا.
حظر الأسلحة الفرنسية من دخول موريتانيا
أحس الفرنسيون في السنغال في القرن 19 أن تدفق الأسلحة إلى الأقاليم المجاورة قد يضر بتوازن القوى في المنطقة، خصوصا وأن بعض الإمارات الموريتانية تستقوي بتلك الأسلحة لا في صراعاتها الداخلية، ولا حتى في صراعتها فيما بينها، بل وفي صراعاتها مع الفرنسيين أنفسهم. وقد اتخذ الفرنسيون في سينلوي بشكل خاص وفي ظرف أربع وعشرين سنة: أربعة مراسيم تمنع بيع الأسلحة للمناطق المجاورة لسينلوي. كان آخرها في سبتمبر سنة 1858 وتقول ديباجة ذلك المرسوم (انظر النص المرفق): “إعلام: وهو أن بعض الصنادير السود المكتوبين حديثا في العسكر المعروف بـ”تيرايور سنغال”، قد باعوا حوائجهم من اللباس والأسلحة لأهل البلد، وصار غيرهم من أهل العسكر يحاول أن يبيع. ولذلك رأى آردنتور النائب أن يذكر أن الشرائع تمنع جدا وتعاقب عقوبة شديدة من يفعل الفعلة المذكورة سواء كان بائعا أو مشتريا أو مخبئا لأحدهما”.
وبعد هذه الديباجة يذكر المرسوم العقوبات المترتبة على بيع وشراء الأسلحة الفرنسية في سينلوي، واللوائح الجنائية الرادعة التي ستنال كل من ضبط وهو متهم ببيع الأسلحة الفرنسية في سينلوي. وقد جاء قبل هذا القرار الرابع ثلاثة قرارات كان أولها رقم: 16 وقد صدر في يناير 1834، وكان الثاني رقم 80 وقد صدر في شهر أكتوبر 1847. في حين كان القرار الثالث بحظر الأسلحة الفرنسية لبلادنا في أغسطس 1854، وذلك في خضم حرب الفرنسيين مع إمارة الترارزة التي استمرت أربع سنين حيث بدأت في الأيام الأخيرة من سنة 1854. خاض أمير الترارزة محمد الحبيب تلك الحرب ضد الجنرال فيديرب الوالي الفرنسي بسينلوي. وكانت حرب الترارزة والفرنسيين في عهد محمد الحبيب حرب مجابهة وحرب استنزاف معا حيث حرص الطرفان على أن يلحق كل منهما بالآخر ما بوسعه من الضرر وقد أمعن الفرنسيون في استعمال سياسة الأرض المحروقة في أراضي الترارزة؛ حيث أرسل فيديرب سرايا مارست التخريب ضد قبائل الترارزة الكحل على ضفتي نهر السنغال. كما قام الأمير محمد الحبيب بهجوم على سينلوي في 21 أبريل 1855 شارك فيه هو نفسه وكاد يستولي على قلعتها الحصينة. ولدعم موقفه العسكري، قام محمد الحبيب بمنعه رعاياه من بيع العلك للفرنسيين للضغط عليهم، وفي المقابل قام فيديرب بحظر بيع الأسلحة والأقمشة والزرع للترارزة على طول النهر. وبفرض حصار على المحيط الأطلسي حتى لا يحيي الترارزة مرسى الجريدة (بورتانديك) التجاري وبالتالي يتعاملون مع الإنجليز.
في هذه الأثناء، وضمن الحديث عن التسلح، عقد الشيخ سيديا بن المختار بن الهيبة في حيه عند بئر تندوجة شمال بوتلميت عام 1856 مؤتمرا حضره أمراء الترارزة والبراكنة وآدرار وتكانت لحل خلافاتهم السياسية والعسكرية والتصدي للفرنسيين الذين بدأت قوتهم تتنامى في السنغال المجاور. وعضد الشيخ سيديا ذلك بأن طلب من سلطان المغرب المعاصر له سيدي محمد بن عبد الرحمن بن هشام العلوي العون بالمال والسلاح في رسالة سننشر منها ما يتعلق منها بالسلاح.
والواقع أن السلطان المغربي لم يستجب مع الأسف لطلب الشيخ سيديا، ولم يزوده بالسلاح لا هو، ولا الإمارات الموريتانية وخصوصا إمارة الترارزة التي كانت تخوض حربا شرسة ضد الفرنسيين بالسنغال في تلك الأثناء، فظل الموريتانيون معتمدين على قوتهم الذاتية في مواجهة الفرنسيين.
ورسالة السلطان المغربي سيدي محمد بن عبد الرحمن للشيخ سيديا موجودة وعندي منها نسخة، ويدل ما ورد فيها من ردود من طرف السلطان المغربي على طلب السيخ سيديا، أن صناعة السلاح في المغرب في تلك الفترة من القرن التاسع عشر كانت محدودة جدا إن لم تكن معدومة. فقد ذكر فيما يتعلق بالسلاح ما نصه: “وعلمنا ما ذكرت في شأن ما طلبتم توجيهه من الكتب لزاويتكم السعيدة، وما تيسر من العدة والمدافع وغيرها من آلة الجهاد. فاعلم أنا اليوم لا زلنا في شغل شاغل، ولا زلنا لم نلتفت إلى أمر خزانة الكتب، وحين نتفرغ لها وننظر فيها نوجه لكم ما يناسب من ذلك. وأما العدة والمدافع فحتى في هذه الجهة ذلك قليل عندنا، وها نحن جادون بحول الله في اتخاذه وتعليم أناس تلك الصناعة. وحين يحصل المراد من ذلك يصل تلك الجهة حظها منه إن شاء لله تعالى. والسلام”. وقد حاول الشيخ سيدي رحمه الله تعالى في تلك الأيام، وبالاستعانة بمهارة الصناع التقليديين أن يشيد ما يشبه مصنعا للأسلحة قرب بوتلميت، فجمع لذلك ما هو متاح من مواد أولية من حجارة وصلب وفحم واستعان الشيخ سيديا بمهرة الصناع التقليديين، ومع الإرادة الصادقة التي كانت عند الشيخ سيديا، ومع المهارة الفائقة التي كانت عند الصناع التقليديين، فإن الوسائل المتاحة لم تكن تكفي لإقامة مصنع يتطلب تشييده شروطا تقنية وفنية عالية وغير ماحة في تلك الأيام للمجتمع الموريتاني، بل ليست في متناول أيدي الناس إطلاقا. فإذا كان سيدي محمد بن عبد الرحمن، سلطان المغرب في ذلك التاريخ، يشكو من عدم توفر البنية التحتية التي تمكن من إنتاج السلاح الناري الحديث في المغرب فما بالك بمجتمع بدوي بعيد عن وسائل التصنيع وأدواته.
يشكل موضوع السلاح والتسلح في موريتانيا في القرن التاسع عشر مادة تاريخية هامة، وقد عرفت منطقتنا طيلة ذلك القرن صراع إرادات داخلية وخارجية، وكان البحث عن السلاح وتوظيفه أبرز العناصر المغذية لتلك الصراعات؛ مما يعني أن دارسة تاريخ السلاح والتسلح في موريتانيا في القرن التاسع عشر والحفر في تلك الوثائق التي تتحدث عن التسلح أمر في غاية الأهمية، وقد ينير لنا الكثير من مسالك تاريخنا الأمني والسياسي والاجتماعي ودروبه التي ما زالت بحاجة إلى بحث وتحليل وتعميق.
انتهى
سيدي أحمد ولد الأمير باحث موريتاني مقيم بقطر [email protected]