الفيل والعميان ـ الحلقة الرابعة من حصتي من الحقيقة
لقد أحدثت الحلقة الأولى من هذا الكتاب لغطا …واعتبرها البعض دليلا على جهويتي المفرطة ورغبتي في زرع الشقاق بين أبناء الوطن الواحد… وجلهم راح يزايد.. وفيهم من طفق يفتئت ويخرج كلامي عن سياقه.
من أظرف ما سمعت في هذا الصدد قول بعضهم ان مناطقهم أيضا مهمشة ومسحوقة وهو قول ربما صحيح وليست عندي أي رغبة في نفيه ولا تفنيده لأنني لا أجد البتة أي تناقض بين مزاعمهم وما أحاول تسليط الضوء عليه في هذه الكتابات من ظلم واستكبار يتعرض له سكان موريتانيا الشرقية !
ما لم ينتبه له هؤلاء يكمن في أول سطر بل في أول كلمة لي في هذا المضمار وهي عنوان هذا الكتاب حصتي من الحقيقة وهو عنوان يعبر بوضوح وفورية عن كنه القضية التي يتحدث عنها الكاتب وهي بكل بساطة نقل وجهة نظره الخاصة حول بعض الاختلالات السوسيولوجية والسياسية التي تلقي بظلالها على الحياة في موريتانيا. التشنج غير المبرر في كتابات وأقاويل هؤلاء يذكرني بأسطورة هندية قديمة تلخص حالة السلبية التي تعتري البعض كلما سمع أحدا يقرع جرس التنبيه حول مظلمة ما لا تلمسه نارها ولا يحاصره غيظها فيصر على نفيها بحجة عدم رؤيتها ! تتحدث هذه الأسطورة الجميلة عن قصة العميان الذين جعلهم احد ملوك الهند الغابرين يتحلقون حول فيل ثم طلب منهم وصفه فشرعوا يتلمسونه خلال الظلام الدامس الذي كبلتهم به المقادير. اختزل الأعمى الذي وجد نفسه في مواجهة الكائن الضخم الأمر برمته في الخرطوم وأنياب العاج.. فصاح يقاطعه من وجد نفسه في الوسط ويقرعه قائلا ان الفيل جسم مسطح ضخم وعليه جلد سميك وبطبيعة الحال أصر صاحب المؤخرة على ان الفيل مجرد ذيل قصير يتدلى بين رجلين كبيرتين ! كل واحد من هؤلاء تحدث عن حصته من حقيقة الفيل ..عن ما تمكن من تلمسه ومعرفته لذلك تستخدم هذه الأسطورة الجميلة ومنذ القدم في تدريس الناس التواضع واحترام رأي الغير وقطع الطمع في المعرفة المطلقة . انطلاقا من حصتي الخاصة من الحقيقة أكرر كل ما سبق وكتبت حول تهميش سكان المناطق الشرقية وتعرضهم لنظرة استعلائية من حكام موريتانيا المتتاليين خصوصا منذ وصول ضباط المنطقة الشمالية لسدة الحكم بعد استشهاد العقيد احمد ولد بوسيف في السابع والعشرين مايو 1979 لقد انسحب ذلك التعامل الغريب على كل مناحي الحياة في موريتانيا وخلق مع الزمن شرخا كبيرا وبونا شاسعا بين مناطق الدولة الموريتانية وأرسى أسسا مرضية للتعامل مع أهل الشرق دون مساواة وأحيانا بترخص وقلة احترام ! من هذه الأسس المرضية في السياسة الموريتانية الشطط في استعمال السلطة ضد كل من يرفع صوته بنغمة نشاز في الولايات الشرقية والسعي المستميت لعزله وتركيعه وتطويقه بحالة موت مدني كي لا تنتقل عدوى الوعي منه لغيره وحتى تبقى ساكنة الشرق مجرد مجاميع عشائر تتبع تلقائيا لكل من يمسك بمقاليد الأمور في القصر الرئاسي. حالات الشطط والمبالغة في استهداف المثقفين وصناع الرأي الشرقيين ليست بدعة جديدة بقدر ما هي تقليد متوارث ومفهوم ويخرج من حاضنة الإحساس بالضعف والهشاشة لدى رؤساء الدولة المتعاقبين منذ 1979 والذين يدركون ان قوتهم وصحوتهم مرتبطة بضعف اهل الشرق وسباتهم… وكلهم –لو أمعنتم النظر- أتوا من مناطق قليلة السكان وجلهم محاطون بعصبيات قبلية وجهوية تحركها مشاعرنفعية واضحة. هذه العصبيات – على قلتها وضعفها- تتحشد خلفهم وتؤازرهم ولذلك فهي ضالعة معهم في التواطؤ ضد الأغلبية المقصية ! بطبيعة الحال قد يلتمس القارئ مني أدلة على هذا الزعم -وهذا حقه- لذلك أجد نفسي ملزما بتسمية الأشخاص والحوادث رغم ما في ذلك من حرج… لكن لا شيء أسمى من الحقيقة… ولا حقيقة دون براهين مقنعة وموثوقة. في شتاء 1990 وعلى اثر وشاية سخيفة قام بها احد معاوني الأستاذ سيدي ولد احمد دية ومفادها انه مستاء من الأحداث العنصرية والإجرامية التي حدثت في الثكنات العسكرية الموريتانية بدأ خلاف سياسي يدب بينه والرئيس معاوية وقد قاده الخلاف إلى المعارضة التي أخذت تتشكل على عجل كما قاد الكثيرين مثله من أصحاب المواقف المشابهة. تعرض سيدي ولد احمد ديه لكثير من المظالم الشخصية والانتخابية وانتهى به الأمر تحت ضغط الحياة اليومية الى “التوبة” والعودة للصف وقد سبقه إلى صفوف الحزب الجمهوري كثيرون من زملاءه المعارضين الذين استقبلوا جميعا بالترحاب وجلهم تمت تسميته في وظائف كبيرة مثل موسى فال ببها ولد احمد يورا محمد ولد اعمر احمد كلي ولد الشيخ سيديا… إلا التائبون الشرقيون مثل سيدي ولد احمد دية ومولاي امحمد ولد مولاي دخيل ومحمد محمود ولد محمد الراظي ومحمد عبد الله ولد البان.. ومن على شاكلتهم فقد استقبلوا ببرود وبفتور غريب لأن النظام لا يريد ان يفهم النائمون في الولايات الشرقية ان الانضمام لحزب معارض أمر سهل ومتاح ويمكن التسامح مع صاحبه فذلك قد يشجعهم على المغامرة وتلك ان وقعت واستشرت ستصبح مخاطرة فعلية قد تهد القاعدة الاسمنتية الصلبة التي يجلس عليها النظام. الكثيرون يتذكرون المظالم التي تعرض لها الزعيم شيخنا ولد محمد الاغطف بعد خروجه على النظام الحاكم وما لمس أفراد عائلته من اضطهاد فقد أصبحت القرابة البيولوجية وحتى القبلية بالرجل جريمة يستحق صاحبها العقاب وأصبحت مناصبته العداء تجارة رابحة يستحق المتحمس لها المكافئة والتقدير ! في تسعينيات القرن الماضي أيضا وبسبب ربط علاقات ديبلوماسية بإسرائيل قرر التيار الناصري معارضة النظام القائم وهو كأي تيار سياسي كشكول من كل الناس والجهات لكن الصدفة البحتة جعلت من الخليل ولد الطيب الناطق ساعتها باسم تلك الحركة.. لذلك لم يتورع النظام ساعتها عن عزل جل اطر “تجكانت” من العمل في وزارة الداخلية من الوزير وحتى الخفير. راح عدد كبير منهم يناصبه العداء ومازلت أتذكر انني التقيت به في مقبرة الرياض في سنة 2000 صدفة وكنا نواري الثرى قريبا مشتركا وكان من بين الحضور رغم مهابة المكان وجلالة الحدث كثيرون لا يريدون مصافحة الخليل ولد الطيب ولا الوقوف بقربه مخافة تصنيفهم كناصريين أو كمعادين لموجة التطبيع أو حتى كأقارب وما يعنيه ذلك من بلوى ومضايقات ! الأمثلة كثيرة وعديدة خصوصا في هذا العهد الذي يواصل نفس المنهجية الغريبة في التعامل مع اهل الشرق كعشائر وليس كأفراد وهذا لب المشكلة لأنه يكشف نظرة مؤذية مليئة بالاحتقار والازدراء نحوهم وكدليل على ذلك لا يطمع النظام القائم ولا للحظة واحدة ان يسعى الأستاذ ابراهيم ولد عبد الله ولد داداه المستشار برئاسة الجمهورية إلى إقناع عمه الزعيم احمد ولد داداه بالعدول عن مواقفه فالأمر غير وارد إطلاقا فلكل فرد رؤيته ووجهة نظره والرئيس محمد ولد عبد العزيز يتفهم ذلك ويتعامل معهم في هذه النقطة بتحضر لكنه لا يفهم بقاء السيدة مسعودة بنت محمد الاغظف مستشارة في رئاسة الجمهورية في الوقت الذي يواصل فيه شيخنا ولد محمد الاغطف معارضته للنظام من خلال حزب التكتل الذي يتزعمه احمد ولد داداه ! هناك تصرفات بسيطة لكنها رغم بساطتها وسخافتها أحيانا تكشف طريقة التفكير التي يتصرف تبعها نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز وتؤكد بشكل جلي كيف ينظر فخامته إلى أهل الشرق كمجاميع غوغائية خلقها الله لخدمته والتسبيح بحمده فسيادته لا يتردد في خرق القوانين والأعراف ليعبر لمعارضيه الشرقيين عن غيظه وبشكل يصلح للتندر والمفاكهة لذلك سأسرد للقارئ بعضها من باب العبرة المخلوطة بالتسلية ! منذ بروز جمهوريات البندقية وجنوة وغيرها من الدول- المدن في العصر الوسيط عرف العالم أول تنظيم للحياة الديبلوماسية وتوطدت أعراف سرعان ما تحولت لقوانين داخلية ومعاهدات دولية ومن بين هذه القوانين التي خرجت من حاضنة الأعراف العريقة سنت الجمهورية الإسلامية الموريتانية قوانين ومراسيم تنظم كيفية الحصول على الجوازات الديبلوماسية وقد حصرتها في عينات مختلفة من الموظفين الإداريين والعاملين في منظمات دولية وقننت العرف الدولي القديم الذي يمنح ميزة السفر بالجواز الديبلوماسي لوزراء الخارجية السابقين اعترافا وتكريما لهم وقد كانوا في لحظة ما من التاريخ الممثل الوحيد الملزم حسب القانون الدولي – في أقوالهم وكتاباتهم- لبلادهم. لقد احترمت الدولة الموريتانية هذا القانون الخارج من حاضنة العرف الدولي ولم يسبق ابدا ان جعلت من هذه الميزة البسيطة موضعا للمساومات والمماحكات السياسية إلا في حالتين فقط هما : حالة وزير الخارجية الأسبق محمد عبد الرحمن ولد امين الذي أمر فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز مصالح وزارة الخارجية بعدم تجديد جواز سفره منذ سنوات ودون تفسير لذلك والغريب في الأمر بل والمضحك ان الرجل لا يسافر الا قليلا وليست له أي حاجة في الحصول على هذه الميزة التي لا فائدة منها سوى تسهيل الحصول على تأشيرات السفر! وعلى سبيل التندر كل الدول التي يسافر اليها تمنحه تأشيرات دخول طويلة الأمد ويستغرب ممثلوها في نواكشوط كيف يسافر بجواز سفر عادي ! الحالة الثانية أكثر غرابة وهي حالة وزير الخارجية السابق محمد السالك ولد محمد الامين الذي تعطيه القوانين الموريتانية هذا الحق لأسباب عديدة منها كونه وزير سابق للخارجية ومنها كونه وزير مفوض في سلم وزارة الخارجية ولأنه مواطن موريتاني يعمل في منظمة أممية !!! في الحالة الأولى تخرق القوانين والأعراف لأن النظام الحالي يستغرب كيف يتشبث سياسي من اهل الشرق في سن معينة بعضويته في حزب معارض ولا يفهم ذلك ولا يقبله ! في الحالة الثانية أيضا تخرق القوانين والأعراف لأن النظام القائم يأخذ على الديبلوماسي الموريتاني القاطن بجنيف تأليف كتاب سياسي يعرض فيه وجهة نظره حول قضايا تعثر الديمقراطية ببلاده فيبدو ان تأليف الكتب والتحرر في سرد وجهة النظر أيضا ترف غير مقبول لبعض الناس ! حتما ستزداد جرعة الاستغراب عند القارئ لو تسنى له ان يعرف ان النظام القائم احترم العرف القاضي بمنح جواز سفر ديبلوماسي لزعيم المعارضة السيد احمد ولد داداه بحكم المنصب الذي يعطيه مكانة بروتوكولية مهمة واخترق نفس القانون في حق مناصريه الشرقيين ! يتبادر للذهن ان من يمنع من حقه في وثيقة سفر لن يتقلد أي وظيفة.. ولن يوقع أي صفقة …بل الأدهى من ذلك يعتبر هذا النوع من التصرفات في الممارسة المحلية بمثابة إشارة يلتقطها الأتباع في الدوائر العامة ويتعاملون مع المعني بها بجلافة تزلفا وتقربا من الحكم ! من البديهي والثابت ان كل المعارضين أيا كانوا تلمسهم غلواء الحكم الشمولي كل يوم لكن هناك من استطاع بالتضحية والعزم فرض الحاكم على التعامل معه بأسلوب أكثر مدنية وحضارة وهناك من مازال النظام ينظر إليهم كمواطنين من الدرجة الثانية ويبالغ في إيذائهم سدا للذريعة وخوفا من انتشار الفكر التحرري والتنويري في ربوعهم القصية والمنسية ! في هذا السياق الغريب تمت معاقبة أطر كرو منذ أسابيع وعزلوا من الوظائف العامة تباعا ولم يستغرب أحد ذلك لأن أهل الشرق لا يحق لهم ما يحق لغيرهم ! لكي أتوخى الموضوعية يجب ان أنبه إلى حقيقة أخرى ومفادها ان المسئول الأول عن تهميش الولايات الشرقية ليس بالضرورة النظام الحاكم ولا الأنظمة التي سبقته بل أهل الشرق أنفسهم باستكانتهم واستقالتهم من الحياة السياسية وخنوعهم المستمر ومن المعروف في عالم السياسة انه لا مكان لمن لا يقيم لنفسه وزنا ولا يذب عنها. لقد حلت بنا هذه المصيبة الممنهجة والمتواصلة منذ ارتكب العقيد احمدو ولد عبد الله رئيس أركان الجيش الموريتاني الأسبق -رحمه الله – أكبر “خطيئة” سياسية في تاريخنا المعاصر حين قرر تكليف وزير الدفاع محمد خونا ولد هيدالة برئاسة الحكومة خلفا للشهيد أحمد ولد بوسيف راضخا رغم تواجده في مركز قوة لمشاعر شخصية – وربما قبلية- وكانت النتيجة ان تمت إقالته وإقالة ابن عمه وزير الخارجية الأسبق وإرسالهما للسجن ! منذ تلك اللحظة ظل ضباط الشمال يتوارثون السلطة ويحتكرون أفياء الحكم لذويهم ! منذ تلك اللحظة دخلت العنجهية القاموس السياسي الموريتاني… والعنجهية نتيجة طبيعية لنعمة كبيرة حصل عليها من لا يستحقها ! ولا دليل على ارتباط العنجهية بعقدة ضعف ما.. أكبر من اجراء مقارنات بين تصرفات ضباط الشمال وتصرفات الرئيس مختار ولد داداه الذي كان يجلس على قاعدة قوية تستند على غالبية سكان الغرب الموريتاني وجل سكان الشمال والشرق رغم مواجهته لمعارضة قوية من ساسة الشرق والشمال . في تلك الفترة لم يتصور احد مقبولا ان تتم مضايقة احمد ولد سيدي بابا بسبب مواقف الدي ولد سيدي بابا ولا مؤاخذة بحام ولد محمد الاغظف على مواقف شيخنا ولد محمد الاغظف فما بالك بمعاقبة جهة كاملة ! السبب في ذلك لا يكمن في فضل الرئيس الراحل ولا في ثقافته – وهو فاضل ومثقف – وإنما يعود ذلك إلى قوته وجماهيريته من الناحية السياسية فالقوة تنفي الشطط والضعف يفرز العنجهية ! سأدرس في الحلقات القادمة الأبعاد التاريخية لهذه الظاهرة وسأعرج على الشق الاقتصادي منها وسأكتب أشياء مزعجة وقد لا تلقى ترحيب الكل وقد لا يوافقون عليها البتة.. لكن وكما سبق وأسلفت فأنا أتحدث عن حصتي من الحقيقة ولا مانع عندي ان يتحدث كل واحد عن حصته منها ولعل الحصص قد تكون في مجموعها الأقرب للحقيقة المطلقة كما تقول الأسطورة الهندية الرائعة التي استعرضتها في بداية هذه الحلقة . في الختام أود أن أذكر البعض ان حقائق السياسة صلبة وعصية على التجاوز والطمس فمنذ عشرات السنين قررت الحكومات المتعاقبة هنا تجنب الحديث العلني عن القبيلة والطبقة والعرق والجهة لكن عدم الحديث العلني عن هذه الأمور لم يغير أي شيء في هذه الظواهر المجتمعية المختلفة… فلا القبلية اختفت ولا العبودية انتهت.. ولا الجهوية انقرضت. التغييرات المجتمعية لا يمكن إحداثها بالمراسيم والقرارات الإدارية الصرفة بقدر ما يمكن تحضيرها عبر النقاش الواضح والتشخيص الجيد والإرادة المخلصة…غير ذلك محاولة خداع والتفاف على الحقيقة !
محمد ولد امين
يتواصل !
نقلا عن الحرية