الخروج الحتمي من جلباب الماضي / الولي ولد سيدي هيبه
لا يقبل الناس التغيير إلا عند الضرورة و لا يرون الضرورة إلا في الأزمات جان مونيت سياسي و رجل دولة (1888 – 1979) لا شيء يدوم إلا التغيير/ بوذا تمر موريتانيا في هذه الفترة الاستثنائية و الدقيقة من تاريخها بحالة تحول سياسي واجتماعي يجب التوقف عنده والتأمل فيه مليا و بأقوى ما يستدعيه الحس المعالجاتي وقوة الإستننباط وسرعة البديهة للاستشراف الذي لا يضع مفاصل أيا كانت ما بين الحاضر بهذا التحول والمستقبل الخالي من الفقاعات والمساحات المعتادة للمراوغة و قلب الحقائق. وتشكل هذه الانتخابات بكل ما يتجلى فيها من حراك سياسي معلن و مستتر لأحزاب و تجمعات الطيف السياسي مقاطعا ومشاركا ومؤازرا بشقين يشكلان في نفس الوقت “الملتقى و المفترق”، فرصة استثنائية تُطُلِقُ فيها الاعتبارات السياسية أوهامَ الماضي و شكوكَ الحاضر وتجد نفسها في مواجهة تحدي المستقبل الذي تكون فيه البلاد على قدر الوعي بمتطلباته والأخذ بأسباب بقاء الكيان قويا ومتماسكا يحمل بذور الاستمرار كاملة. و هي الانتخابات كذلك التي ستأسس حتما بنهايتها و نشر نتائجها لمنطلق جديد ستتجدد معه الطبقة السياسية عمليا على أرض الواقع و في الممارسة من تلقاء واقع لا دخل للتقليد فيه و الحسابات القديمة و لا مكان حتى لمنطق الأيديلوجيات الموجهة و المقيدة بصرامتها المعهودة في اتجاه “دوغماتي”. لا شك أن شيئا ما قد انكسر في تركيبة الجسم السياسي للبلد لأنه خلقت بالفعل الأزمات المتلاحقة التي عاشها الوضع المحتضن في هذا الجسم الغير مستقر بفعل التحول من حولنا و المستجدات في الوعي و بروز النوايا بكل الخلفيات و التي كانت خجولة و مطمورة تحت كومات العقد بشقيها الاستعلائي و الدوني منذ نشأة الدولة المركزية و عبر كل المراحل المضطربة و الأزمات الوجودية التي مرت بها. و هي الأزمات التي ما كانت – على الرغم سلبيها المطلقة و ما انطوت و تنطوي عليه من مخاطر في سياق المجهول- إلا أنها استطاعت أن تحدد ألوان مرحلة التحول المفروض و قد ساهمت عبر كل المراحل في شق هذا الوعي العام طريقَه إلى فرز قراءات متجددة للواقع القائم و تصور الحلول المنتظرة للمستقبل المرتقب. و لقد أفصحت تركيبة المترشحين للاستحقاقات الرئاسية و لأول مرة بعيدا عن التأويلات الغرضية و السفسطية عن غياب التكلف الذي كان يطبع الاستحقاقات الرئاسية في العهود الفارطة و حرص منظميها على أن يكون ثمة ذاك التمثيل الصوري للشرائح و الفئات و المعشعش مع جمود التفكير و غياب الاستشراف في ظل القراءات المصاحبة للتطورات الحاصلة في تلاحق يفرضه منطق جديد فيه الزمن عامل منافس للعمل و التفكير. و إن المتتبع للخطابات كلها لا بد أن يلحظ سقوط النظرتين: · العاطفية التي تلعب على أوتار القيم الاجتماعية و انتماء الجميع للإسلام و للمذهب المالكي دون أدنى اعتراف بضرورة تحيين مسطرة التعامل الشرعي في ظل الدولة المسلمة مع الوجهة الصحيحة لهذا الدين السمح الذي يحمل كل أسباب العدل و البناء؛ · المحاربة على أحصنة الشطط الدعائي و قهر المساحات صحيح أنه في هذه الاستحقاقات برزت أوجه جديدة ولدت على هامش هيمنة القراءات السياسية الغالبة في سياق تشكيلات محتكرة للخطاب و مستفردة بالحضور، أوجه صنعت خروجها ز تمردها على هذا المألوف الجامد بطرقها المبتكرة التي صعقت البعض و استنكرها البعض الآخر، كما ظهرت أوجه أخرى كانت حاضرة في غياب العطاء و لكنها هذه المرة بأبعاد لامست تجديدا كانت تفتقده في الخطاب و في الحضور. وهي الأوجه كلها التي تبين أنها برفضها المقاطعة، بل و إصرارها على المشاركة إنما أثبتت لمن يريد و لمن يستهجن أنه في مخطط قدرها قد بصمت بإرادة الترشح واثقة لأعلى منصب في الدولة سعيا منها إلى تدبير شؤونها من منطلق رؤيتها و قناعاتها السياسية و الإيديولوجية. كما غابت عن هذه الاستحقاقات أيضا أوجه أو غيبت بفعل ما لم تدرك أنه تغييب سلبي عن حق لكل من يجد القدرة في شخصه على التقدم لهذه المسؤولية النبيلة و العظيمة؛ شخصيات ما كان لها إلا أن تحضر و لو من باب الإصرار على البقاء بتلك القيمة السياسية و المعنوية و الرمزية التي كانت حققتها لذاتها عبر الحقب الماضية. و إن هذه القيم لا ترتبط بالضرورة و لا الحفاظ عليها بالوصول إلى هذا المنصب الذي قد يكون، على غير المتوقع و غير المطلوب أبدا، قاصمة ظهر الوجود السياسي و مدعاة للسخط و التهمة بسوء “الحكامة” في أبشع صورها. و بهذا التصرف الذي لم يتقاسمه الجميع تكون بعض الزعامات قد نزعت عن نفسها لغيرها صبغة و مهمة الوقوف في الصف الذي لا بد لأصحابه من داخل تشكيلاتهم و في صلب خطاباتهم أن يتداركوا و يراقبوا الشأن السياسي و الأمور التسييرية للبلد بعد الاستحقاق الذي سيأتي حتما برئيس جديد لمأمورية خمسة أعوام متتالية، يشكل فيها حكومة تباشر تنفيذ برنامجه الانتخابي؛ مهمة بالأحرى هي من صميم المعارضة الواعية بدورها دون أن تربطه بأي سبب متعلق بالوصول إلى الحكم الذي يتوجس خيفة من نقدها و يسارع إلى طمأنتها بأنه يسير البلاد كما تريد لا كما يحلو له مطلقا.