وافرحتاه بهلال رمضان
أيام كنا في سن الشباب وربما المراهقة، لم نسر على درب أترابنا من الشباب المراهقين، المهوسين بالعبث الزائد، وإنما كانت لنا مدرسة الإلتزام والإسلام مأوى ومهبط أفئدة كثير من الأصدقاء في ربوع العز والشمو..
أطار الصخر والنخيل وعبق التاريخ، أجل الاعتزاز بالصخر، لأنه يرمز للصلابة والصرامة في الحق، التي قلت في هذا الأوان من تاريخ هذه البشرية المتموجة، المضطربة المزاح غالبا، “وقليل من عبادي الشكور”.
وكان لنا مع الخطيب المصري البصير، الولي الصالح الداعية، الشديد في الحق، عبد الحميد كشك جلسات استماع متعددة وطويلة لأشرطته المسجلة، وكان من ضمن شعاراته المدوية عن هذا الضيف الكريم، الذي أهل علينا “ليت السنة كلها رمضان”.
يقول شيخي عبد الحميد كشك، الاخواني الرباني، بصوت شجي، يهتز له عرش الرحمان طربا إن شاء الله، مرددا أثرا من التراث النبوي الرسالي الشريف: “يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر اقصر”.
إنه نداء السماء حين يهل ضيفنا العظيم المبجل المكرم بليلة مباركة “فيها يفرق كل أمر حكيم” ويتنزل فيها الروح الأمين جبريل عليه السلام، ومن وما أراد له ربنا النزول من ملائكته وبركاته وغفرانه وعتقه من النار، ليلة القدر، التي أنزل فيها القرآن مجملا، ونزل بعد ذلك على قلبه صلى الله عليه وسلم منجما مجزءا.
أجل، إنها ليلة القدر خير من ألف شهر، وفيه طبعا تسلسل الشياطين وتنفرج وتتسع كثيرا فسحة الخير والإقبال على الله وأداء الأعمال الصالحة المتنوعة، من الحديث الصحيح من رواية البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ “.
وفي هذا الشهر خصلة من الخير بمقام فريضة، والفريضة تضاعف سبعين مرة، إلى أضعافها إلى ما شاء الله، من العطاء الجزل الرباني، وربنا كريم غفور لطيف، وقد غلبت رحمته أزلا عقابه وغضبه.
فسبحان الله، هل من الممكن أن نغفل مرارا وتكرارا عن هذا المورد الرمضاني المتدفق المهدار، والنبع الرباني الذي يطوف بنا كل سنة من العمر المحدود الفاني المنقطع، مراودا إيانا عن المعاصي طالبا الاصطحاب إلى رضوان الله وجنات الخلد، ويومها للصيام باب خاص، يدخل منه من صبر على مشقته وكلفته، يسمى الريان، لا يلج منه إلى الجنة إلا الصائمون وحدهم، “ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك” رواه البخاري، رغم يلاحظه بعض المتكبرين من رائحة فم صاحب رمضان والصيام عموما من تغير.
في رمضان يحلو السهر، ولكن مع آي الذكر الحكيم وموائد الرحمان من العلم والتعلم والتبتل والقيام: “تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ”، وفي غيره يحلو القيام والصيام، ولكن قيام وصيام رمضان له ثمرة كبيرة خاصة في الدنيا والآخرة.
فقد جرب البعض الخلاص من الأمراض المستعصية، والمتصلة بجميع الأنماط والآلام تقريبا، فلقد قال صلى الله عليه وسلم “صوموا تصحوا”.
كما أن المداومة على القيام والصيام طريق للعتق من النار، كما أشرنا في السياق، قال صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وغيره، “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما يقدم من ذنبه” و” من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه”. وقد أوجز بعض العلماء سيرته، أي رمضان، على طول الشهر، بأن أوله رحمة ووسطه مغفرة ويختم بالنتيجة والختام المسك، أي العتق من النار، اللهم أجعلنا من عتقائه.
ورغم التعب أحيانا من طول الإمساك المادي عن شهوتي البطن والفرج، فإن رمضان يرافقه الفرح بفضل من الله في كل يوم، ووقت الفطور، مع فرح مؤخر عند لقاء الله، ليجازيه على ما أحسن وأجاد من طاعة نفيسة مريحة مفرحة مرتين، فـ” للصائم فرحتان ,فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه “صدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
اللهم ألهمنا الصبر على صيامه وقيامه واجعلنا من المنفقين فيه، فاليد العليا أي المنفقة خير من اليد السفلى “أي القابضة المستقبلة”.
وما ذلك على الله بعزيز.
إنه موسم الأتقياء والصالحين، فيه كان جبريل يقرأ القرآن، على نبيه صلى الله عليه وسلم مرتين، وفي غيره من الأشهر مرة واحدة، وكل الأشهر طبعا أشهر طاعة ويطلب فيها التنافس على الطاعات ومكارم الأخلاق وحسن الفعال والأقوال، فالحياة كلها ابتلاء واختبار، وفيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسخى من الريح المرسلة، ما دعي بحاجة إلا أجاب، كأنك تعطيه الذي أنت سائله، وهو كذلك وصفه وسمته المعصوم في كل رمضان، رغم حرصه الخاص في رمضان على عدم التردد في قضاء أي حاجة ممكنة مشروعة.
لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا تشكوا من تكاليف رمضان المادية، فكلها بركات وفرص إنفاق يسوقها إليكم سوقا ربكم الكريم المعطاء على أيديكم لبقية خلقه، من الفقراء والمعوزين من المسلمين، فلا تبخلوا على أنفسكم، إنه فحسب جو الاختبار والامتحان.
فلو أراد الله لأعطاهم مباشرة، لكنه أسلوب الامتحان، ليعلم البخيل من السخي المستعد والموقن بقوله تعالى: “وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين”.
يا سبحان الله، طالعوا الخير في الكتب بجميع أصنافه إن شئتم وفي أيام العمر كلها إن وفقتم إلى ذلك، لكن رمضان فرصة لمطالعة صنوف لا تعد ولا تحصى، من العبر والعطايا الربانية، المعنوية والمادية، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
رمضان مدرسة ربانية عجيبة عالية المقام، ومن الناس من يصوم صوم العوام، فيمسك فحسب، عن شهوتي البطن والفرج، ولا عما سوى ذلك من اللغو وغيره….
ولعله إن يراجع نفسه، كان أجدر به أن لا يصوم، ولو على سبيل المبالغة في النهي، فمن سار على طريق اللغو والاستهزاء بمحارم الله في نهار رمضان خصوصا وليله أيضا، فقد لا يجني من صيامه وقيامه، إلا الجوع والعطش والتعب من طول القيام.
فللصوم الصحيح جو خاص، قد لا يقتضي العزلة التامة، وإن حسن بعضها في بعض الأوقات، لمن لم يستطع أن يلجم لسانه أو يده عن الإقتراب من المعاصي أو اقترافها فعليا، ولم يحذر من الجدال فيه عبثا، فإن حصل إثر ذلك فتنة أو قتل فذنوب رمضان أشد وطئا من الذنوب في غيره على غرار النهي عن الجدال في الحج، الذي تجتمع فيه حرمة الزمان والمكان أكثر من رمضان المختص بالزمان وحده، فالخير فيه أزكى وأثمر بالحسنات، والشر فيه أخطر وأغلى ثمنا بحساب السيئات والعقاب الإله الحازم الحكيم.
ومن وجه آخر، فإن بعض المستهرتين، يتعمدون الفطر العلني مع انتهاك حرمات الله بانتهاك جو رمضان، الذي لا يجوز تكديره بالفطر العلني والتدخين والشحناء والجدل، المنهي عنها كلها في جميع الأوقات، أحرى في رمضان والأشهر الحرم وأماكن وأزمنة العبادات الموسمية، الفائقة القدر والمقام، مثل الصوم والحج وغيرهما.
ورغم أننا أفقنا على زمان قلت فيه الأعذار المفبركة وإن حرم الصوم على من يضره ضررا بينا، لا يتحقق تحديده إلا بالطبيب المستقيم والفقيه الورع، إلا أن كثيرين يتعمدوا الإفطار غير آبهين بعقاب الله ولا حرماته والعياذ بالله، فأضحى الجو الإسلامي الرمضاني عندنا مهددا مشوبا بالكثير، وتحول الصوم إلى تخمة وإسراف في أحايين كثيرة، ويختم بـ”العيد” بغير شروطه الإسلامية، ليكون ختامه تبذيرا وتنافسا في الملبس والأكباش، والمظاهر والموائد فحسب، رغم أهمية بعض هذا في حدود المسؤولية وعدم جرح خواطر الفقراء، وإن كان التفاوت بين الناس في أرزاقهم اختبارا وابتلاءا، لعل بعضهم يشكر، ولعل الآخر يصبر، انتظارا لإنفاق أخيه، من دون من ولا أذى ولا تطاولا بغير حق.
صيام يختلف ويتنوع، ولا يكاد يصل البعض إلا إلى الظواهر من دون الجوهر واللب.
بل يفسد صومه أحيانا بما سواه من الغيبة واللغو، إن لم يكن فوق ذلك لا قدر الله من تكدير صف الصيام.
إننا مطالبون بالانشغال الإيجابي الموزون، الذي لا يؤثر سلبا على بقية برامج رمضان بحملة هدفها التوعية بأمور الصوم، وحرمة هتك حرمات هذا الشهر الكريم، وهذه الفريضة والشعيرة والركن الرابع من أركان الإسلام، والذي فرض عندما استقر الناس بالمدينة المنورة، في السنة الثانية من الهجرة، “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”، فهو واجب شرعا على كل مسلم بالغ عاقل قادر حر، واليوم لله الحمد، سلمنا من شرط العبودية على الأقل نظريا لأن العلماء، وخصوصا في بلدنا، اتفقوا مرارا وإجماعا تقريبا، على عدم جواز تعبيد عباد الله، بعدما أتيح الرجوع للأصل، وهو حرية الناس، وتكريمهم بجميع صنوف التكليف الشرعي، المجسد لكل المعاني والحقوق الإنسانية المختلفة.
وهو فرصة للعتق، إن افترضنا صحة أدعاء البعض بوجود حالات مختفية في بعض زوايا الوطن المترامي الأطراف، المتعدد الأعراف والتقاليد.
فمن لزمته كفارة رمضان، عن خطئ أو عمد، كان العتق من بين أوجه التقرب إلى الله من صنوف قضاء الكفارة، وخصوصا الرقبة المسلمة، ليخرجها من الجو الاسترقاقي المتداول قديما بين بني البشر، بمناسبات الحروب، ولغير مناسبة أحيانا، بمجرد الغلبة والقهر بالاستعباد، المقيت عند الله وعند عباده الأسوياء، من ذوي الذوق الإسلامي والإنساني السليم، غير المعقد المسكون بأخلاق الكبر والاحتقار.
فما خلق الله هذا الاختلاف في القبائل والأعراق والألوان واللغات والمشارب الإنسانية الطبيعية المتعددة، إلا امتحانا واختبارا بليغا، حوله البعض إلى حقد وتحامل وظلم، أو حوله آخرون إلى استرزاق وتحميل لجيل بأوزار سبقته، لأنه لم يقترف العبودية غالبا، على وجه غير سليم، فلا تزر وازرة وزر أخرى، فـ: “”تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
أقول عودا على بدء، إننا فعلا بحاجة إلى حملة للتوعية بضرورة صوم رمضان لمن تتحقق فيهم شروط الصوم المذكورة، مع الالتزام بآدابه وحرماته.
فقد تركت الدولة والمجتمع الحبل على الغارب، فتحول رمضان إلى موسم للكسل والنوم والسهر من غير قيام، وفي حالات متكاثرة إلى جو مفتوح للتظاهر بالفطر غير الشرعي، مع الأكل دسما ضارا وحلويات مبالغ فيها، قد تصب في خانة السكري المزمن وغيره من الأمراض والأدواء الفتاكة، وبقيت دروس وعبر وفوائد رمضان الحقيقية على الهامش، مهملة مهدرة.
فهذه الحملة المطلوبة للتوعية بهذه الأمور وغيرها، قد لا تكفيها السهرات الرمضانية لوحدها، رغم أهميتها، وإنما لابد للإعلاميين، وهم أصحاب دراية فنية بفنون التأثير وجذب النفوس ولفت انتباه العقول أن يؤدوا دورهم الحيوي الإعلامي، في هذه الحملة الملحة المباركة، التي نريد لها أن يطلقها كل واحد من موقعه، وجريدته أو إذاعته أو حسب ما يراه مناسبا متاحا.
مع بعض الترويح المشروع المحدود، الملائم لشرعنا وقيمنا، وإلا ذهبنا على منوال هذه السنة، التي شابتها هذه المرة إساءة مباشرة لعرض رسولنا صلى الله عليه وسلم، صاحبته موجة إلحاد واستهتار من بعض المجهولين عبر الصفحات الفيسبوكية، التي تسمي في العرف الإعلامي “صفحات التواصل الإجتماعي”، رغم أن بعض منها غير “اجتماعي”.
إن مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنويه بعلو شأنه، مصداقا لقول ربنا جل شأنه: “وإنك لعلى خلق عظيم”، جدير بنا أيضا في هذا الشهر ومع هذا الضيف العزيز الكريم.
أجل، هذا المديح مطلوب إشادة بالمكانة النبوية المعصومة المقدسة للنبي الخاتم، والقائد القدوة محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم، عسى أن لا يتكرر ما حدث على أرضنا الطاهرة، التي دنسها المسيء بما كتب، ومازال مهملا دون رد حاسم جازر رادع، يناسب ما تجرأ عليه ذلك المسيء الدنيء، أعاذنا الله من حاله ومآله.
فالبدار البدار قبل يتحول بلدنا إلى وكر للفطر غير الشرعي بعد الإساءة لسيد الكونين، والثقلين وخير خلقه أجمعهم صلى الله عليه وسلم.
“وكل سنة وأنتم طيبون ورمضان الصيام والقيام، مع القبول، آمين.