قراءة في رواية (منينه بلانشيه) للأستاذ محمد ولد امين/الدكتورة باتـة بنت البـــــراء (تدوينة)
ليست المرة الأولى التي أقرأ فيها للكاتب، لقد أدمنت سابقا مقالاته واطلعت على مذكراته ووجدت فيها ما يرضي شجن القراءة لدي، غير أن هذه الرواية بهرتني حد الإدهاش؛ (منينه بلانشيه) لمعالي الوزير محمد ولد امين، عالم سردي مثير وثري،خرجت في بنائها على النسق المألوف للرواية العربية شكلا ومضمونا..
هي توليفة فريدة تعانق التاريخ ، وتلتبس بالأسطورة، وتحفر في أعماق الذاكرة والتاريخ، مخترقة سراديب اللاوعي.
من العتبة الأولى للنص ممثلة في العنوان (منينه ابلانشيه) تستوقفنا الازدواجية في التسمية بين علمين مختلفين، لكل منهما إحالاته ودلالاته الثقافية و الحضارية، فإذا كانت (منينه) اسما تليدا في الموروث الموريتاني، ف(بلانشيه) كذلك اسم يحمل سماته الأوروبية الواضحة. منينه بلانشيه شخصية محورية في الرواية، شغلت فضاءها منذ البدء، واحتلت دورا بطوليا بارزا فيها ، لكن امتدادات هذه التسمية ارتسمت في النص لتظهر ذلك الحوار اللامتكافئ الذي قام بين المستعمر الأوروبي منذ دخوله البلاد، وأصحاب الأرض، بين ثقافة محلية ، وثقافة وافدة، من هنا بدأ مصدر التباين والثراء في القصة؛ شيدت القلعة الحصينة إلى جانب الخيم المتواضعة، ولجأ المندوب الفرنسي إلى بركة الشيخ الرحموني مستعينا به في الحرب على الألمان ، وقبل البدوي الغيور أن تتزوج ابنته أحد الأغراب المحتلين وهو من ظل أيام عزه يناصبهم العداء، وظل بطل الرواية تنازعا بين فصيلين. وإذا كان العنوان شكل أحد المفاتيح الأساسية في الرواية، فإن الإهداء لا يتوقف عند دلالته الظاهرة المقصورة على المتشحين بالسواد أثناء المرافعات؛ بل يتعدى ذلك ليظل ماثلا في تلافيف السرد، فأحداث الرواية تذكرنا دوما بهذا اللون الحدادي القاتم، بدءا بلحظة تحطم الطائرة في بلاد قصية، مرورا بواقع البلد الذي انتقل من يد المستعمر إلى يد عاجزة عن التسيير، تحكمها النفعية، ولا تصل لأسباب المدنية والرقي، وانتهاء بغياب العدالة التي لا تحمي الفرد، ولا تضمن استرداد الحقوق. فبمجرد موت (منينه) يصبح الطفل جوزيف ابلانشيه، تنازعا بين القنصلية الفرنسية التي طالبت باحتضانه وإيوائه، والمحكمة الموريتانية التي حكمت به لحارس المنزل الذي ادعى بنوته، وطالب بحقه فيه. وينسحب ما حدث للطفل على أملاكه التي ورث، فقد صارت نهبا للطامعين أشخاصا وحكومات، تحت ذرائع مختلفة: ” ورغم ذلك فقد صودرت بعض ممتلكاتي بفرنسا والسنغال تباعاً بحجج واهية منها الجباية وحقوق الدولة في الميراث، واستطاع والدي الموريتاني سلب بعض ممتلكاتي العقارية في موريتانيا عبر عمليات احتيال قضائي وعاطفي تعرضت لها خلال السنوات القليلة التي أعقبت رفع الحجز عن ممتلكاتي”. إنها ضبابية وانسداد أفق وظلم يحكم حياة المواطن وواقع البلد وساكنيه ، منذ لامسته أقدام المستعمر وحتى ساعته الراهنة. زمان الرواية: الزمان في الرواية ليس موضوعا خارجيا كما هو في الواقع، إنه يمثل شخصية اعتبارية هامة مثلت إطارا ثريا للعلاقات المتشابكة بين الشخصيات. تمتد الرواية من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى فترة ما بعد الاستقلال، لتكشف طبيعة العلاقة المتوترة التي قامت بين المستعمر الفرنسي، والشعب البدوي الذي ألف التنقل في صحراء سائبة مترامية الأطراف، يبسط سلطانه عليها، ويصارع فيها من أجل البقاء. هكذا شكل الزمن على امتداد الرواية إطارا للتنوع والالتباس، فتداخلت أزمنة شتى: زمن نفسي حكم مسار السرد، و جعل البطل يعيش حياة مأزومة، يحكمها التأرجح بين الحاضر والماضي، بين الذات والآخر، بين الواقع والحلم؛ فهو الرجل المكتهل الذي ظل طفلا مسكونا بالبحث عن أمه طوال خمسة عقود، وهو المقيم في بلاد العلم والنور ، يلجأ لعلم القابليات الروحية لاكتشاف الحقائق، وهو الموزع الانتماءات والمتعدد الأسماء. وليس الزمن التاريخي بأقل حضورا ، فقد جاء موثقا لحظات كبرى في حياة الشخصيات وتطور الأحداث؛ كالقبض على زعيم المناذير الذي شكل اللحظة الفارقة في حياة البطلة (منينه)، وتاريخ تحطم الطائرة، وهو موعد البطل جوزيف مع الأحزان كل عام، وإعلان استقلال البلاد الذي قاد إلى مرحلة بينية. هذا إضافة إلى زمن آخر خارج عن سيمترية الزمن العادي، وهو الذي عايشه البطل أثناء فترات تنويمه الخارقي، واستعاد فيه وقائع، وتعرف على شخصيات سابقة شكلت حضورا باذخا في الرواية. وليس المكان في الرواية بأقل رمزية من الزمان، فمنذ المشهد الأول ينفتح النص على حادث الطائرة المحزن الذي أودى بحياة (منينه ابلانشيه) و رفقتها على أحد سفوح جبال غرناطة، حيث نقشت أسماء الراحلين على الصفيحة التذكارية، ومن هذا المكان تبدأ رحلة البحث العبثي لدى الابن جوزيف الذي لم يستطع التحلل من وقع الحادثة، فظل يعيش الذكرى ويوثق لها ويجمع الصور، متتبعا هذا الغياب المفاجئ والمريع. في محطة لاحقة ينتهي به المطاف في عيادة الدكتور برنارد بمدينة ابروكسل ويأتي التحديد المتوسع عن مكان العيادة وموقعها، وأدوارها المتعددة، لتبدأ الرحلة في أعماق الذات ، واسترجاع ذاكرة التاريخ عبر الرياضة الروحية التي يجريها البطل تحت إشراف الدكتور سعيا إلى لقاء الأم التي لم ينعم بصحبتها طويلا، ولم يجد حنانا يعوضه حنانه المفقود. هي حالة أشبه ما تكون بدخول الخلوة عند المتصوفة، أو استحضار الأرواح عند بعض العارفين؛ يصفها البطل قائلا: ” في رحلة الاستذكار بواسطة الصوم المتبتل والمدعوم بطبابة الدكتور برنارد تختفي تحت لوعة الجوع والشوق والعطش كل المواضعات والمستورات وتبوح المكتومات بأسرارها ويتساوى المباح والمحرَّم ويتحالف القبيح والفاخر في فسيفساء الحقيقة الصريحة” تنعدم الحدود في هذه التجربة بين المكان والزمان، فأثناء ساعات النوم المتواصلة تسترجع الذاكرة الأحداث والشخوص، وتتوالد الأمكنة والأزمنة من صلب المصحة توالدا عجيبا، تمتد مجابات آوكار، وحومات أفله، و تتراءى قلعة تامشكط، والطريق إلى انيور، ومحطة سنلوي، وقلعة انواكشوط على ضفاف المحيط حيث قدر أن تلتقى الأم فارسها المخلص. على امتداد القصة تظهر حفاوة بالغة بالأمكنة، ودراية عميقة بالوصف، وبراعة في سرد التفاصيل، والجميل حقا هي تلك القدرة على المواءمة بين إيحاءات المكان والحالة النفسية. في نقله لحادثة سقوط الطائرة، يورد الكاتب وصفا بديعا للمكان، يخفف لوعة المأساة ، ويمنح إحساسا شجيا بها؛ فيه نوع من السلوان، وإحساس عميق بالفقد: “على تلك الصفيحة التذكارية التي تطلّ بشموخٍ بابليّ على المرج الغرناطي الحزين نُقشت أسماء أشخاص آخرين من بينهم أبي -حسب الوثائق القانونية – وقد تعرّفت إلى ذويهم جميعاً، بل أسّست مع بعضهم رابطة التذكّر والتخليد لضحايا حادثة غرناطة، لكن لم يلامسني منهم أحد قط ولم تحمل أبداً ريح المكان قبلاتهم لي”. فاختيار غرناطة مكانا لسقوط الطائرة، يستدعي سقوطا آخر ما زال يحفر في الذاكرة الإسلامية؛ وهو سقوط آخر معاقل المسلمين في شبه جزيرة إيبيرية. شخصيات الرواية: تستوقفك في الرواية بعض الشخصيات التي أسبغ عليها الكاتب من ريشته ، وبرع في رسم ملامحها ومظهرها، واستنطق دواخلها حتى أصبحت ماثلة لا تخطئها العين؛ من أكثر ما استوقفني في الرواية شخصية مختار الأعيور، رغم بشاعة صورته الخلقية، ومسلكياته العدوانية، يحملك هذا البدوي الجلف على أن تتعاطف معه، وترثى لحاله، زعيم قبيلة المناذير، الذي صرع الأسد ونازل الأعداء، يقبع في حظيرة الحيوانات وقد جرد من ردائه ، والمارة يتندرون عليه. استسلم هذا القوي بعد أن فقد كل أمل، ولجأ إلى الصلاة تكفيرا عن سوابقه بعد أن يئس من الخلاص، في لحظاته الأخيرة يعترف بذنوبه الكثيرة ويموت جريح النفس منفيا. أما أكثر الشخصيات نموا وإثارة فهي منينه ابلانشيه ، عشتاروت أو أسطورة الصحراء التي حازت إلى الجمال الذكاء والمال، صورها الكاتب منبع الإلهام لدى الشعراء والفنانين، وحديث السامرين، من راهن على جمالها المحبون، وطاف بقلعتها المعجبون،لا يقاوم سحرها ؛ ترفق بها الحاكم جيروم ، وهو الذي استقدمها ليذل أسرتها ، وجعل منها موضوعا للوحاته، ، أذعن الجنود في تامشكط لجمالها وأحسنوا معاملة والدها، أغرم بها الشاعر مختور وصديقه اللبناني، وأحسنا رفقتها في سفرهما الطويل، واحتفى بها الشيخ الرحموني وحباها من بركاته، وفتن الحاكم الفرنسي بها فاعتنق الإسلام ليتزوجها. لم تثن عزيمتها العقبات ، وكسبت الرهان ، تلك الفتاة البدوية التي خرجت من تامشكط على متن شاحنة ، وعادت إليها تقود طائرة والجنود يستقبلونها بمعزوفة تتغنى بجمالها، وتأتي نهايتها المفجعة نهاية ادرامية تليق بأسطورة ستظل دوما مثارا للحديث. ويظهر جليا في الرواية التركيز على الوجه الاستعماري الذي احتل الأرض، وتحصن في القلاع، ومارس القهر على المواطنين. إن الوقفة الوصفية التي تصور سجن مختور مع البهائم وإذلاله وهو الزعيم أمام أسرته وأمام الناس، هي توثيق موجع للممارسات التي كان الفرنسيون يقومون بها في المنتبذ القصي: ” كانت عائلة مختار الأعيور تستطيع رؤيته في داخل السياج وهو يتضوّر تحت شمس حارقة بين الماعز والحمير، وكان يستطيع رؤيتهم كذلك وهم يلوّحون له بسواعدهم ويتجرّعون معه عذاباته دون حول ولا قوة”. ولم يكتف المستعمر بسجنه هو وأصدقاءه بل طالت اللعنة قبيلته، فاستبيحت من طرف الجنود البسطاء. ولا يقتصر الإذلال على الخارجين عن القانون بل يطال من لا ذنب لهم ، ليمارس الحاكم جيروم هوايته في الرسم: “جلّ رسومات جيروم التامشكطية عبارة عن مجموعة من لوحات البورتريه متفاوتة الحجم، وهي لوحات لأناسٍ من البلدة، وكثيراً ما استخدم جيروم سلطته واعتقل شخصاً ما استهوته قسماته فأجلسه عنوةً أمامه وراح يرسمه في بلاهة وشطط، وكانت علائم الذعر في قسمات المرسوم تطربه كثيراً” هذا الوجه البشع للمستعمر، تقابله لفتات إنسانية لا أراها تشفع له، ولكنها تمنح القارئ إحساسا مغايرا، ففي الوقت الذي يسجن جيروم مختار مع البهائم، ويبالغ في إذلاله، يقبل ابنته منينه خادمة في بيته، وحين ينقل الأب السجين إلى قلعة انواكشوط ، يساعدها في الالتحاق به ، ويمنحها توصية للحاكم الجديد. باتريك الذي رفض أن تخدم منينه في بيته وصدها بعنف وقسوة، يصبح بعد ذلك مثالا للإنسان الراقي في كل تعاملاته. ومن أجمل لحظات الرواية ذلك الجو الشاعري الذي حملته أجواء الرحلة من تامشكط إلى خاي، كان موكبا استثنائيا ذلك الذي ضم سمير اللبناني المسيحي ومختور الشاعر الظريف والحسناء منينه، والذي أعاد إلى الذهن السمر والأقداح والليالي الملاح، لقد أعطى الكاتب للشخصيات فسحة أن ترسم ذلك الوجه الأصيل للبلاد قبل أن تعبث بها يد الأقدار والاستعمار. إن التتبع السلالي للشخصية في الرواية ذو رمزية دالة، فليس زعيم المناذير إلا المجتمع الموريتاني الذي واجه المستعمر فتغلب عليه هذا الأخير وجعله يموت منفيا في سجنه. منينه بدورها تمثل تلك المرحلة التي هادن فيها الموريتاني المستعمر واستلبه مظهره، غير أن شخصية هذه المرحلة لم تكسب من مهادنتها وتبعيتها إلا منافع آنية تلاشت بعد حين. أما جوزيف فهو رمز لمجتمع ما بعد قيام الدولة، وهو مجتمع هجين مأزوم ، انقطعت صلته بماضيه الأصيل، ولم يحظ من المستعمر بأسباب العلم والمدنية فبدأ يبحث عن هوية وأرض لا توجد إلا في عالم الرؤى والأحلام، إنه كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. جاءت الرواية بأسلوب رصين، انتقيت ألفاظه بعناية ودقة، واتخذت شكلا غير تقليدي ولا مكرور في هندستها، وبناء شخصياتها، كما استثمرت أنماطا من الحكي، وثيقة الصلة بالموروث الشعبي والتراث العربي، مما يؤكد رسوخ قدم الكاتب وعلو كعبه في المجال السردي. إنها قراءة عميقة لواقع البلد الذي لم يتحلل من الاستعمار إلا ليقع رهينة في أيدي العابثين من أبنائه، ويكون البحث عن الخلاص تلك الرحلة السيزيفية التي تقوده إلى طبابة أوروبية عسى أن يسترجع ذاته وهويته من جديد في عالم الحلم، بعد أن عجز عن ذلك في عالم الواقع. إن هذه الرواية تشكل علامة فارقة في تاريخ السرد الموريتاني، وتعبر به بجدارة واطمئنان من المحلية والإقليمية ، إلى آفاق العالمية.