من رواية “موسم الذاكرة

على ضوء مصابيح الشوارع في المجرية وقف المراهقون يتبارون في ترتيل القرآن الكريم.. ثم جلسوا في حلقة دائرية وهم يرددون الأناشيد الصوفية، ويتوعدون الأيام المقبلة بمنحها أوسمة دموية هبة لتاريخ الشهادة وسجلاتها الطويلة.

يقف أحدهم ويرفع يديه نحو السماء: (( ليت النصر أبعد من هذه النجوم، حتى يكون للتضحية معنى.. سقطت تلال القمامة الخائنة في قلب المزبلة الزمنية الهزيلة.. الحريق المرتفع من القلوب يرمد الهالة الكيانية للآخرين.. الرماد لا يخاف النار بل إنها تزيده وهجا وجمالا.. إنما آفة الرماد في الرياح.. ونقطة ضعف الريح هي في الأبواب المغلقة التي تستريح خلفها مبادئكم، تستريح في ضمائر لصيقة بذاتيتها)). ويقف شاب آخر ويرفع صوته باكيا: (( هل ترون مواجع الخراب المسربلة للأمة؟.. الأحزمة لا تشد قبضتها من تلقاء نفسها.. سمعتم في الأخبار أنه تم تحطيم مليون موقع إلكتروني حساس، وتم نقل مليارات المعلومات السرية لتصبح مشاعة للعامة.. وتم اغتيال رئيس شركة البرمجيات الجسمية عن بعد.. إن المعركة قد اتخذت الاحتياط الكافي لاستمراريتها..)). يجلس الشاب الخطيب، فتبدأ المجموعة بترديد أغنيات المقاومة.. تنظر “تاتو” في ساعتها وتقترب مني: – لعلهم يستمرون إلى الصباح؟ إن هؤلاء الصبيان لا يكشفون عن غضب عادي، ولا يبحثون عن رافعة للظلم، بل إنهم يسعون لحياة أخرى من تصميمهم هم ووحدهم.. حياة يضعون تفاصيلها على حسب ذوقهم.. على كل إن منظرهم ممتع وصوتهم جميل، الجمال الوحيد في اجتماعهم هذا هو في ما يصدر عنهم من أغان عذبة، لكأنهم يختزنون في حناجرهم ربابات من خشب السنديان. وتتوقف شاحنة الشرطة ويصعد إليها الشباب من تلقاء أنفسهم وكأنهم كانوا بانتظارها، ونصعد نحن بدورنا في سيارتنا لنعود إلى خيمتنا ونواصل سهرنا الاعتيادي ونقاشاتنا العلمية الفوضوية.. وعند الساعة الثالثة صباحا يشعر كلانا بأنه غير راغب في النوم فأقترح على “تاتو” أن نتمشى في جولة حول المكان.. كالعادة لا نخرج إلا باصطحاب المصباح خوفا من الاصطدام بالصخور أو تجنبا للحيات التي كثيرا ما تخرج من جحورها في فسحاتها الليلية الاقتصادية.. نسير صامتين حتى نبلغ منتصف الجبل ونجلس متلاصقي المنكبين، كالعادة لا تجلس “تاتو” إلا عن شمالي.. ونشرع في التدخين دون أن نتكلم، فقد تعبنا من الكلام، ولم يعد لدينا ما نقوله، على الأقل في هذا الوقت. – هل تسمع صوتا هناك؟! يصيخ كلانا السمع، فهنا صوت أنفاس متقطعة، ويبدو أنها على بعد خطوات قليلة وراء نتوء صخري في سفح الجبل تحتنا.. نسير في حذر كأن أقدامنا لا تلامس الأرض، المصباح في يد “تاتو” والمسدس بيدي وقد نزعت أمانه.. وقفنا فوق النتوء الصخري نسلط الضوء على مصدر الصوت فيقفز “سداتي” بفزع كما لو أن دائرة ضوء المصباح لهيب قد أحرق جلده، وتبقى “مريامه” جالسة بجمود من هول المفاجأة، حتى إنها لم تقم بستر أجزاء كثيرة من جسدها بعد أن لم يعد الخدين لباسا لها. ينحرف مسار الضوء عنها، ونقفل راجعين ونحن نسمع بعض الخطوات التي تتبعنا في هدوء ثم تتجاوزنا من اليسار وكأنها تسبقنا إلى مخيم المحطة فيما لا نعرف مصير “مريامه”، وإلى متى ستظل في مكانها، لا أعرف كيف ستواجهنا غدا، ولا كيف ستتصرف بجانب “عبود”؟! ولكن يبدو أنها معتادة على الخطيئة، وأن شخصيتها من النوع الذي لا يقبل الاستقامة. لقد ظن “عبود” أن هذه العزلة النسبية عن مجتمعها ستجعلها بمنأى عن سوابقها الأخلاقية.. وقد أخبرني قبل أسابيع أنه لاحظ ازدياد تدينها وحسن أدائها للصلاة، وكانت “تاتو” تستغرب التشابه الكبير بين طفل “عبود” الصغير وبين “سداتي”.. إنه تشابه لم يعد له حظ من الصدفة في قناعتي على الأقل. مع دخولنا الخيمة تصل رسالة ألكترونية من عمي يدعوني فيها للوفاء بالتزامي وزيارته في أقرب وقت ممكن.. تتمعن “تاتو” في الرسالة على الشاشة وفي أسارير وجه عمي ويصطبغ وجهها بمسحة حزن وتنظر إلي كأنها تستفسر عن موعد سفري، فأضع نظراتها في سلة التجاهل، وأبدأ في تدوين مذكراتي اليومية وبعد لحظات يرفع “سداتي” صوته بأذان الفجر فتنفجر “تاتو” ضاحكة، لكنها تطبق فمها كالطفلة الصغيرة بعد أن شعرت بوخز نظراتي الحادة لها. ثم أتركها وأتجه إلى الحمام لأتوضأ قبل أن تفوتني صلاة الجماعة مع العمال، نظرت وجهي في مرآة الحمام، فلاحظت احمرارا في عيوني يكشف عن تعبي وسد الفراق بيني وبين النوم منذ فجر الأمس، لكن النعاس يغمرني وبإمكاني النوم حتى الظهر إن شئت. جلست مصطفا بين “سداتي” و”عياش” و”عرفات” ننتظر “عبود”، لكن خيوط الفجر بدأت تتكثف في الأفق، ولم يحضر، فتقدم عياش لإمامتنا ووقفت أنا و “سداتي” و”عرفات” متلاصقي المناكب خلفه.. رفع عياش صوته بتكبيرة الإحرام، ورتل الفاتحة وبدأ في سورة آل عمران، وتبين لنا شبح “عبود” وهو يخرج من خيمته على عجل متوجها إلينا، تجاوزنا قليلا، ووقف عند ظهورنا مع ركوع “عياش” وركوعنا خلفه.. دوت الرصاصة مخترقة رأس “سداتي” وهو راكع، فسقط منكبا على وجهه… قطعنا الصلاة وبادرنا بحمله إلى السيارة وعندما وصلنا المستشفى كان قد فارق الحياة.. فجلسنا في البهو ننتظر التصريح الطبي بسحب الجثة ودفنها، ثم خرج إلينا “عياش” يحمل ورقة صفراء في يده وهو يتقدم السرير الذي يرقد فيه جثمان “سداتي”، فأجهشت “تاتو” بالبكاء.. وتتبعنا الجثمان إلى مصلى المستشفى حيث تمت الصلاة على المرحوم، وخرجنا نحن بالجثة على نقالة إلى المقبرة و”تاتو” تتبعنا من بعيد، وقد أصبح وجهها قطعة متفحمة من الحزن والكآبة. انتهت مراسيم الدفن في حدود الساعة الثانية عشرة زوالا، ثم توجهنا إلى قسم الشرطة للقاء “عبود” الذي كان يجلس بين المحققين وهو يدخن بشراهة ويرفض الحديث، فيما وقفت سيارة للشرطة ونزلت منها “مريامه” والأطفال.. تفرسها الجميع بنظراته إلا “عبود” فقد أشاح عنها بنظره.. تقدم وكيل الشرطة ورفع يده بالتحية للضابط الجالس قبالة “عبود” وقال: – حضرات.. لم أستطع أن أترك الأطفال وحدهم فجئت بالجميع. – خذهم إلى الملجأ، باستثناء هذا الرضيع فدعه مع أمه..  – وقف “عبود” صارخا في وجه الضابط قائلا: – لا أريده أن يرضع لبن أمه بعد اليوم! تصور أنها ما زالت لم تغتسل..؟! نظرت إلى “مريامه” وقد كست وجهها ملامح حجرية وهي تقول: – أيهما أفضل؛ من عليه جنابة، أم من عليه دم غيلة؟! فقدت “تاتو” توازنها فكادت تسقط أرضا، لولا أن أحد رجال الشرطة بادر بنجدتها فاستعادت توازنها وأخذتها إلى مخيم المحطة بعد أن أعطيت تعليمات لـ “عياش” بالبقاء في قسم الشرطة للتدخل عند الحاجة ومتابعة القضية. دخلنا الخيمة مع أحد ضباط التحقيق الذي سجل شهاداتنا في حادثة القتل، واعتمر قبعته وخرج مصفرا وهو يتفحص المكان من حوله تاركا إيانا نشرب الشاي، والحزن ينشب مخالبه في حشايانا.. – تصوري أن المسكين قتل وهو راكع!! مسحت دموعها وهي تغمغم: – كان يقول لي إنه ينوي الزواج بإحدى قريباته التي شاهدت صورتها في بريده الألكتروني. علينا إبلاغ أهله بالخبر وتعزيتهم وتحويل ممتلكاته إليهم. قمت بفتح موقع “سداتي” الألكتروني وإبلاغ ذويه بالحادثة المؤلمة، وبعد الانتهاء من هذه المهمة الصعبة نفسيا فتحت الرسالة التي وصلت موقعه الإلكتروني أثناء محادثتي مع شقيقته.. كانت رسالة من خطيبته تقول فيها بعد مقدمة غزلية: – “لقد حلمت البارحة بأنك تركب جملا أبيض له سنامان وأنك تحمل على رأسك صحنا من النحاس المزين بالنقوش، ورأيتك تنظر إلى الجمل وهو يأكل من تمر نخلة من نخيل “تكانت”… ثم أيقظتني والدتي لتقطع علي الحلم الجميل.. لقد دعوت كل صويحباتي لحفلة عرسنا التي ستقام في الموعد الذي حددته لك بعد عودة أخي مباشرة في العاشر من شهر محرم القادم…”. تركت الكمبيوتر وجلست مع “تاتو” حيث بدأ “عياش” يحدثنا عن الإجراءات التي يتخذها مسار التحقيق.. وكان يتكلم والدموع تنهمر من عينيه: – لعنة الله على هذه المرأة! لكم راودتني عن نفسي! وكنت أتكتم على الأمر، وقد نصحت المرحوم بالعدول عن هذه العلاقة، لكن المكتوب يجري لا محالة!. بماذا ستتعشون الليلة؟ شخصيا ليست لدي رغبة في الأكل، لقد جرى ما جرى وكأنه حلم، وليته اقتصر على الترويع، ما يحز في ألما هو مصير هؤلاء الأطفال وتأثير الصدمة عليهم… هناك سر لا بد أن أبوح لكم به، وهو أن المرحوم “سداتي” كان متزوجا سرا بسيدة تقطن هنا بالمجرية في حي الفاروق، وأعتقد أنها حامل. – سنتدبر الأمر، حضّر العشاء بسرعة، فعليك النزول للمدينة لتبحث لنا عن عمال مناسبين. – تول الأمر بنفسك؛ فـ”عياش” قد لا يكون على دراية كافية بالأشخاص.  – هو أعلم بالمدينة مني. – قد تكون أنت الآخر مرتبطا بزواج سري، فقد أصبحت تكثر من النزول إليها!!. – كأنك تغارين؟! – لا تسئ فهمي.. فقط أعرف أنك زير نساء، والزير لا يجوع والظباء تراوده. – شيء جميل.. السرية.. لقد نبهتني لفكرة جيدة… – أو كوك!!. وكأنني عبدت لك الطريق. وشعرت بها تكتم غيظها، حتى لو لم تردني زوجا، فالظاهر أنها تمن بي على امرأة أخرى.. إن لديها سرا لم أكتشفه بعد وقد يكون عائقا جسديا تخفيه عني، فهذا الجمال وهذه الحيوية الأنثوية الطاغية لا يمكن أن تظل في حصن منعزل إلا بدافع كبير. إنه عائق خلقي داخلي، فقد رأيتها كثيرا في ملابسها الداخلية وكان ظاهر الأشياء طبيعيا.. لكن للمرأة تفاصيل داخلية قد تكون أكثر فظاعة مما نتصور. – فيم تهيم؟ – في امرأة لا تدفعني لأن أقتل وأنا أصلي. – لماذا أنت جسديٌّ إلى هذا الحد؟!.. نحن لا نزال في مأتم، وأنت حزين، ومع ذلك تشتعل رغبة، دعنا من هذا المجال، ابعث لعمك برسالة تخبره بما جرى وبأنك ستتأخر لمدة شهر على الأقل. فالعمال يحتاجون لتدريب، وأنا خائفة ومتألمة.. إنني الآن أعيش مع أولئك الأطفال في عالم مأساتهم. أردت استفزازها، ولكنني عدلت عن ذلك حتى لا تنهار، فهي شخصية حساسة جدا.. – أمرك.. آنستي.. إن شئت أجلت الزيارة لأشهر… – قل “تاتو”؟… – “تاتو”.. نظرت من نافذة الخيمة فرأيت الأفق وقد تخضب بالغيوم، ما ينبئ بأن السماء ستمطر هذه الليلة. ونظرت إلى خيمة “عبود” المنتصبة في سكون تام.. خالية من صوت الأطفال وصوت آلات المطبخ، خيمة حزينة خاوية تذكر بعظام شاة البدوي عندما أمسكها وقال بعد التأمل فيها:” كان يحلب منها اللبن”.. وعدت لأجلس إلى مائدة العشاء، مع “تاتو” بعد أن استأذن “عياش” بالانصراف للبحث عن عمال جدد وزيارة “عبود” و”مريامه” والأطفال.. مددنا أيدينا إلى الطعام وقد بدأ المطر معزوفته الخالدة. كانت دموع “تاتو” تسقط منزلقة على وجنتيها مثل حبات الماس المضيئة وهي تأكل صامتة.

الشاعر الصحفي المختار السالم

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى