رمضان مدرسة التقوى وفرصة تأمل ومراجعة
كتب الله أن يكون هذا الشهر مدرسة مفتوحة للتقوى، أي لتحقيق قصد وصفة التقوى، وهي ورب الكعبة غاية بعيدة المنال، إلا من وفقه الله إكراما وتفضلا منه للوصول إليها.
قال ربنا: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون” سورة البقرة.
ففرض صيام شهر كامل، هو شهر رمضان بالذات، من كل سنة على كل حر بالغ، تكتمل فيه سائر شروط التكليف الخاصة بهذه الشعيرة الرابعة من أركان الإسلام الخمسة، هدفه عند الله الأول وصول الصائم إلى خصلة التقوى وتحصيلها، فتلك أمارة نجاح مدرسة الصيام الرمضانية، في العلاج والتقويم الرباني لعباده المسلمين، وقد فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المسماة يثرب سابقا، قبل أن تصبح علما المدينة، أي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتم افتتاح مدرسة التقوى الجامعية في المدينة المنورة، في السنة الثانية بالتحديد، وقد تم تشييدها دون أركان خشبية أو إسمنتية، وبدأ مباشرة رواد رمضان الغرف منها، أي من نبع رمضان المبارك العجيب، طلبا لرضوان الله وعسى أن تكتمل صفة التقوى عند الصائمين، وخصوصا الملتزمين بآداب الصوم الرمضاني وشروطه الأخلاقية والسلوكية والمعنوية، التي أسهب القرآن والسنة النبوية الشارحة لكتاب الله في تبيينها وتجليتها، بأساليب متنوعة، ينبغي أن نجتهد في الحرص على تلقيها ودرسها وتمحيصها، علما وعملا.
المدرسة الجامعة الرمضانية عنوانها وهدفها تحصيل التقوى للصائمين القائمين، فهم نهارا صائمون على الوجه الأمثل، ممسكين بطونهم وفروجهم وسائر جوارحهم عن ما يفسد الصوم فقهيا، بالمعني النظري العلمي، أو يحبط أجره بالوجه الأخلاقي الدنيوي والأخروي، فإن كانت نتيجة رمضان واضحة جلية في الآخرة، عبر خاصية باب الرحمان بالصائمين، ففي الدنيا نفرح بفطرنا يوميا، وتلك هي السعادة الرمضانية، التي تتكرر حتى في كل حالة صيام من غير رمضان، إلا أن الجو الأسري الرمضاني والتآلف، والجماعي على نطاق واسع ، وعملية الصوم والقيام والانشغال المتنوع بهذا الضيف العظيم المبارك يضاعف الفرح والبشرى.
وتقييم السلوك وإصلاح، نتائج دنيوية في غاية الأهمية، نجنيها ثمرة وتمتعا في الدنيا قبل الآخرة، وتستمر معنا إن شاء الله، نتيجتها، يوم نلقى ربنا، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
التقوى، ما هي التقوى، قال علي رضي الله عليه في تعريفه: “التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد للرحيل”.
آه، كم هو هدف سامي، صعب المنال، إلا من سهل الله عليه ووفقه إلى طريقه ذات الشوك والامتحانات الربانية الصعبة، صراحة. اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، وتجاوز عن خطأنا وزلاتنا الكثيرة في رمضان، وغير رمضان، اللهم آمين، يا رب العرش العظيم.
وقال أبي بن كعب حين سئل عن شرح التقوى، أن مثله مثل من يسير في أرض ذات شوك كثير، فهو يمشي على رؤوس أصابعه، حتى لا يصيبه الشوك الكثير.
ليس من السهل تحقيق هذا المقصد العظيم في يوم واحد من رمضان، ولكن مع نهاية الشهر، يتحقق التقوى ويتحقق العتق من النار بإذن الله، لعباده الذين كتب الله لهم النجاح في هذه الدورة الرمضانية السريعة التكوين والتخريج، فلا تفتك فرصة الصيام ولا فرصة القيام، ولا فرصة الإنفاق الرمضاني، ولنحذر جميعا من الغيبة في كل وقت وحين، وخصوصا الغيبة في رمضان، فهي محبطة للصيام والقيام والبر كله تقريبا، اللهم أحفظ، آه…آه…..آه، كم نحن مقصرون، اللهم بفضلك لا بعملي، اللهم لا تجعلنا ممن يقولون ما لا يفعلون، “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”، سبحان الله، سبحانه الله وبحمده سبحان الله العظيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما أحر لفح الحر في الصيف، فأحرى جهنم ولظى، إنها نزاعة للشوى، حيث لا بارد ولا كريم.
اللهم لا تحرمنا من بركات ليلة القدر، وألهمنا حسن الاستعداد لها اعتكافا وتبتلا عن قدومها بوجه خاص، وشد مئزر وابتعاد عن شهوة النساء في العشر الأواخر بالنسبة للمعتكفين، عسى أن نكون جميعا بإذن الله من الظافرين ببركات ليلة القدر العظيمة، وأجرها وثوابها، ففيها أنزل القرآن، إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين “. و يقول بعض الشراح في هذه الليلة نزل القرآن أزلا، في وقت ما في علم الله من اللوح المحفوظ عند عرش الرحمن إلى السماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك منجما مجزئا على قلبه صلى الله عليه وسلم عن طريق أكرم الملائكة عند الله، الروح الأمين، جبريل عليه السلام، حتى اكتمل الدين، وقال ربنا عند حجة الوداع: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا”. وفي هذه الليلة الرمضانية الفارقة في العجائب والكرم الرباني، المستمر في كل حين ومكان، ففيها تتنزل الملائكة، وخصوصا جبريل عليه السلام، وتعادل في العبادة أجرا وثوابا عند الله، أجر أكثر من ألف شهر، وألف شهر يوازيها في حسابنا الدنيوي العادي، أكثر من 84 سنة، سبحان الله في ليلة واحدة، من كرم الله الذي يضاعفه إلى ما شاء سبحانه وتعالى، نبلغ سن الكهولة في العبادة والتقوى عند الله.
قال تعالى في سورة ارتفاع المنزلة هذه، المسماة سورة القدر، القدر إشارة إلى ارتفاع المنزلة والمكانة العظيمة عند الله، للذين أقبلوا على الله توبة تعبدا بالصيام والقيام، والإنفاق بالنسبة لأصحاب الدثور، أي أغنياء المسلمين، في الشهر العظيم وفي ليلة القدر هذه بوجه خاص، وقد قدمت ذكرها قبل اقترابها وحلولها، رغبة في تهييج الرغبة، للوصول إليها وإلى أجرها ونورها، اللهم أعد علينا رمضان عام بعد، بعمر طويل مبارك في طاعتك: “إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدريك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر”.
وعودا على بدء، أقول إن رمضان فرصة، كذلك ضمن مسار وهدف التقوى، للتأمل ومراجعة النفس، بوجه خاص، ففيه يقل الشبع ويرتفع منسوب التركيز والفهم، حتى قبل الإفطار، ووقت السحر خصوصا، فلاتفتكم صلاة الصبح في وقتها، وسائر الصلوات، حيث ينادى بهن، وقرآن الفجر: “إن قرآن الفجر كان مشهودا”، وكذلك التأمل في خلق الله وهذا الكون الفسيح المفتوح وماضي أيامك وتجاربك.
هذا التأمل جربته، خصوصا وقت الفجر والسحر، وسائر أوقات الصيام، من غير أوقات التي ترتفع فيها المشاغل، وبعض متاعب الصوم البيولوجية البدنية، قيلولة وزوالا على وجه الخصوص، وحين يشتد الحر، وأما من يحوله إلى نوم، وليله إلى عبث وتلاعب بحرمة رمضان، كما يشاهد في بعض المدن الكبرى، خصوصا في نواذيبو، الذي نلاحظ فيه الناس، زرافات وفرادى، يسيرون في الشوارع، ولا بأس بالرياضة، ولكن بشرط أن تسلم مما يكدر صفوها ومقصدها البريئ.
ففي الليل هناك تمتلئ متاجر النساء بعد التراويح مباشرة، وإلى ما دون الصبح بقليل، وما أدراك ما متاجر النساء، حيث اختلاط النساء بالرجال، والكؤوس المنعنعة، وكثير مما يسيئ إلى وقار رمضان وغير رمضان، بل قد يكون لأشباه الرجال نصيبا موفورا، من الحضور والزحام والكلام.
فلا تفسدوا صومكم يا أهل نواذيبو، ويا أهل موريتانيا جميعا، بكسل النهار وسهر الليل في غير الاستغفار وأعمال البر والتأمل المفيد ومراجعة النفس.
يا سبحان الله، حين تضيع هذه الفرصة الثمينة، نكون قد خسرنا خسارة مدوية، قال صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ”.
صوموا تصحوا، فرمضان إلى جانب صحة النفس والقلب، فيه للبدن مصلحة عجيبة وشفاء عميق، وقد جرب ذلك في غير مرة، وعلى يد أصحاب الفحوص، أمراض وأدران بدن تزول بمجرد الصوم، صوم يوم واحد، فأحرى صوم رمضان العظيم، رمضان الخير والنور والبركات المتعددة، التي لا تكاد تعد ولا تحصى.
وقد جرب ذلك مرارا وتكرارا، لا تيأسوا من الشفاء بالصيام، وخصوصا الصيام الرمضاني فله حالة خاصة جدا.
هذا بالنسبة لبعض الأمراض، دون البعض منها، التي لا تسمح بالصوم، وبعد استشارة طبيب عارف مستقيم مهنيا، وفقيه مستقيم كذلك دينيا وشرعيا، وأما تتبع الأعذار الوهمية، فتلك ظاهرة لا تدل إلا على ضعف الإيمان ربما، وخور العزيمة، والاستهزاء بحرمات الله، وذلك مدخل خطير، أعاذنا الله وإياكم منه، وسائر المسلمين ولعله في تناقص إن شاء الله، بعد أن شاع –أي التعلل بالأعذار الكاذبة المفبركة-.
ففي سنوات مضت، كان صوم رمضان فيها ناقصا نسبيا، لولا الصحوة الإسلامية المباركة، التي عمت العالم الإسلامي في القرن العشرين، إثر تجديد الإيمان والإسلام عملا لا مبدء، مع ظهور مجددين كبار في تاريخنا من أمثال مؤسس الوهابية، حتى قبل القرن العشرين، محمد بن عبد الوهاب بالجزيرة العربية، وأبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية بالهند، وحسن البنا بمصر1928 مؤسس جماعة “الإخوان المسلمين”، وقبل ذلك مؤسس جماعة الدعوة والتبليغ التي انتشرت انتشارا واسعا وإلى اليوم، بعد أن أطلقها الداعية الهندي الشيخ محمد الياس سنة 1910، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهر هذا الدين غريبا وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء، قالوا وما الغرباء يا رسول الله، قال: الذين يحيون ما أفسد الناس”.
إن ما يجري في إعلامنا الرسمي وغير الرسمي أحيانا مثلج للصدور، وجهودنا الإعلامية والدعائية مقبولة إن شاء الله ومهمة لإحياء الشارع الرمضاني الحقيقي وتحصينه، تمهيدا لتحقيق التقوى.
فقد شرع هذه الصيام وفتحت هذه المدرسة الأكاديمية الرمضانية لتحصيل هدف التقوى، المترجم برضوان الله والعتق من النار، وعندها يدخل الصائمون وحدهم من باب الريان، وعندما يكتمل ولوجهم إلى الجنة، يغلق الريان فلا يدخل منه إلا الصائمون.
بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن