ليلة القدر
هنالك ليلتان للقدر. وفي واقع الأمر فإن التباين بينهما هو تباين السامي والواطي، والمقدس والدني، والني والمطبوخ. ليلة القدر الأولى هي الشيء في ذاته. ولا يعرفه أي أحد.
هي روح وريحان. والقليل الذي نعرفه عنها (مثلها مثل الجنة) هو أنها فتحٌ روحاني. وقد حاول المتصوفة عبر التاريخ إدراكها في إطار تقريب الذات الأبدية لفُرص إدراكها من قبل الفانين. وبهذا المعنى فهي لحظة عناق الموت للخلود.
وهنالك ليلة القدر الشعبية. وهذه ليلة تجارية وفرصة للتشمر والمغامرة. فالعابد الشعبوي يبحثُ عن مكافأة.
وقد عثر في الرموز على مرامه. وكان ذلك عصر الخيمياء، فأراد عقلنة الليلة السحرية، وترجمها إلى مصباح علاء الدين. واعتقد الشعبوي أن هذه الليلة ليلة المكافأة على الجهد. فالعبادة ليست للاعتراف أو المتعة، بل هي عمل مأجور. وفي بوادينا كان العابد، المصطك الركبتين تهجداً، ينتظر إطلال حمار ملائكي عليه يسأله: “ماذا تُريد؟”. وعند الإجابة تُحَلُّ المشاكل الكثيرة: تكثر الإبل ويسهل ورود الماء ويكُّف الأعاريب عن السطو، ويُشَمُّ المشوي والشاي في “لفريكَ”. وكان الأعرابي يُفسّر ثراء بعض أهل الحومة في إطار فتوحات علاء الدين القدري. باختصار كانت ليلة القدر هي “الحلم الأميركي” لأهل البادية.
على أنه لا يمكن تسخيف أحلام البادية. فليلة القدر على خيميائيتها لم تكن عبوراً آمناً فقد كانت ليلة العفاريت والجن. وكانت الشهب في السماء تُنذِرُ بحرب عالمية بين الجن والأبالسة ضد الملائكة والأولياء لا يعرفُ نتيجتها إلا المراسلون الميتافيزيقيون من الدجالين المحليين، ذوي التيجان والصولجان. وكان لا يمكن قضاء ليلة القدر إلا في التحصينات الأمنية الميتافيزيقية: الحذر من الجانب الجنوبي من الخيمة ومن الأكواب والأقداح المفتوحة ومن شعاب الجبال ومن الموسيقى ومن نسيم البحر ومن الحديد، فكلّ هذه الأشياء قد يستخدمها الجن في طيشهم في تلك الليلة. ويجب تنويم الصبية بسرعة وقبل المساء.
وهذا دليل على أن الذهن البدوي ليس بنيوياً، بل هو معقّد؛ وضدياته هي عينها تعميماته؛ فليلة القدرة هي ليلة المنال، ولكنها ليلة استحالة المنال. إنها ليلة العبادة الصافية ولكنها ليلة الانشغال بالتحصين والحصن الحصين. وعلى الأقل فإن هذا يتطابق مع ليلة القدر الأولى: التي هي ليلة الفناء وليلة الخلود، ليلة المتعالي والمتفاني.
وبدوره فإن هذا يُحيلُ إلى تطابق ليلة القدر الأولى والثانية فهي ليلة السماء وليلة الأرض.
————————
من صفحة الأستاذ عباس ابرهام على الفيس بوك