قصة الطاهر ولد سيدي يعترف

يا رب، يا إلهي، ماذا حدث لي يا ترى حتى بت أتطير من أشياء لم تكن تخطر لي على بال، ولا كان التطير من شيمتي، ولم أومن به أبدا في حياتي السابقة، بل كان ينتابني شعور بالاحتقار والإشفاق تجاه كل من يتطير، سواء عبر عن ذلك بالتجهم وغمس سبابته في الرمل، أو عبر عنه تشاؤما مضمرا.

لكن مهلا مهلا، فلننتظر قليلا! قليلا! حتى تتسنى لي معرفة حقيقة ما يلم بي، أهو التطير حقا، أم أنه شيء آخر، وإن لم يكن كذلك فماذا تراه؟ أهو الخوف؟ الخوف من الندم، من المواجهة، من الاعتراف؟!

قد يكون تفسيرا معقولا على ضوء ما أحس به من اضطراب داخل أحشائي، وتسارع يصيب ضربات قلبي، وتقلصات تستشعرها عضلات معدتي كلما فكرت في المرور من هناك لاختصار الطريق أو لتجنب مصافحة غير مرغوبة.

ولا زلت حتى اللحظة أتهيب ولوج ذلك الحي، حي ILOT:C بمقاطعة تفرغ زينه ، وأتجنب المرور من الشارع المعنون بـ: TVZ-25 كما أنني أتحاشى النظر إلى أي طفل أتوهم أنه خارج من المكان عينه، كما لو أنني متهم ثبتت إدانته أمام أطفال تلك المنطقة تحت سن ست سنوات، أو مدين مخادع يتهرب من لقاء دائن نافد الصبر.

هذه المشاعر الغريبة انتعلتني منذ مدة تزيد على أربع سنوات، ويكون وقعها علي أشد حينما أجدني قرب الحي المذكور آنفا، ويقرر صاحب التاكسي المرور من هناك ولو عفوا.

ظللت هدفا لهذه الاضطرابات تجتاحني شيئا فشيئا حتى استحوذت على كل تفكيري، دون مقاومة تذكر، بل إن استغراقي في تمليها وإعادة اجترارها أعطاها عندي صيغة الإدمان، أي أنني بكل بساطة صرت مع مرور الزمن مدمن هواجس، مدمن أحزان، مدمن كوابيس، وفي الليلة البارحة بالتحديد دخلت تلك التخيلات طور الأحلام، بعد أن كانت مقتصرة على ساعات اليقظة، ففي حوالي الساعة الخامسة وعشرون دقيقة استيقظت على صرخة مدوية أطلقتها فزعا، وأنا أنتشل قدمي من بين يدي طفل يحاول الإمساك بهما ما وسعه ذلك، يلفظ عبارات واضحة فصيحة لا تتواءم وعمره، بينما عيناه تشعان برغبة في الإصرار على تحقيق شيء ما.

إنه حلم بدا لي غامضا حقا، بما في الكلمة من معنى، ولو كنت ممن تعودوا مثل هذه الأحلام والرؤى لهان علي الأمر، أما والمسألة هكذا مع رجل لا يحلم إلا قليلا، ونادرا جدا…؟ إنه لشيء محير على أن خوفي لم يقتصر على هذا بقدر ما تعدى ذلك إلى قضية أهم عندي، وهي حبي للأطفال الذي أستمده من قسوة الآخرين معهم، فأجل ما أعانيه هو أن يفقد حبي لهم أصالته وبريقه، أو أن يتحولوا في عيني وفي نفسي إلى مصدر للفزع والنفور، وهو ما بدأ يتسلل إلى نفسي بهدوء، يا لسوء حظي، بدأت ظنوني تلك تتحقق بسرعة محيرة، كما بدأت فلسفتي في حبهم تنقلب رأسا على عقب، بكاؤهم في أذني أصبح زعاقا، وابتسامتهم تكشير، وبراءتهم خدعة، بل إنهم سليلوا الشيطان الرجيم.. يا سبحان الله، سبحان مبدل الأحوال..!

في لحظة صفاء من هذا اليوم طرحت على نفسي السؤال التالي: هل أنا أكره الأطفال؟.

وبعد أن استمعت إلى داخلي أجابتني أكثر الهواجس اعتدالا وموضوعية: لا، أنت لا تكرههم ولكن علاقتكما متوترة فقط، وسرعان ما تعود المياه إلى مجاريها عندما تعترف وتترك خداع نفسك وتعود لـ..؟.

ولأن مثل هذا الاقتراح تردد صداه داخلي مرات ومرات، فقد رفضته رفضا باتا، ليس لشيء سوى أنه من وجهة نظري يعكس ضعفي أمام نفسي وأمام صديقي الحميم (الشيخ)، الذي لا يفتأ يقدم لي هذا الاقتراح كحل لأزماتي وهو ما يسميه (المصالحة مع الذات)، بيد أنني كثيرا ما كنت أمانع، مستبعدا هذا الحل، وللتأكيد على ذلك اتفقت و(الشيخ)، على عدم مفاتحتي به نهائيا وهو ما قبله في استسلام كسير قائلا:

– مادامت هذه رغبتك ومصر على تنفيذها فلا بأس… فالمصلحة مصلحتك.

وأردف بسخريته المعتادة:

– اللهم فاشهد، ألا هل بلغت، ورفع بصره ويديه إلى السماء في شكل خشوع وتضرع.

****

– الطاهر، الطاهر، بالله عليك التفت ولو قليلا.. قال لي الشيخ

– أرجوك، دعني من مداعباتك الممجوجة، فالوقت قائظ وأعين المارة تحملق بفضول، أجبته ناهرا

– قلت لك انظر قليلا، ألا تسمع؟ كرر ملحا

– لا وقت لدي، دعك من الترهات، ألا تحتشم، ألا تعاف حتى في مثل هذا الزقاق القذر…؟

بكل هذه البساطة والتلقائية جزرت الشيخ، كما هي حالي معه كلما بدرت منه رغبة بدت لي في غير محلها، متطاولة محرجة أو من شأنها أن تثير ريبة أو شبهة، إذ إن ذلك نابع من غريزة متأصلة في كيانه، في أكثر المرات كان يستجيب لصدي له، دون كبير اعتراض، كشخص غلب على أمره، وبروح ذكية كان يقفز على حاجز الصمت الذي يعقب هذا النقار الخفيف، عامدا إلى تغيير مجرى الحديث، حتى لا ينقطع حبل الصلة بيننا والذي وثقته صحبة عشرين سنة خلت، تخللتها أزمات خانقات، تتجلى على شكل فتور في الاستجابات، عبوس في حالات الضحك، اقتضاب للكلمات، أو صمت في محل إجابة، لكن تلك السحابة سرعان ما تنقشع حين يتدخل طرف ثالث ليتولى سبك ما فتق من حبل تلك الرابطة الوشيجة، ومع تتابع السنون، تعمقت خبرة كل منا بصاحبه، مما حيد خلافاتنا في أكثر الأحيان رغم تباين أمزجتنا وأذواقنا، بل وأشكالنا وتصاميم بنيانينا، الشيء الذي ينتزع السؤال التالي من بين شفتي أي ملاحظ:

– سبحان الرب الذي جمع بين الطاهر والشيخ.

وإذا كان المثل يقول: “دعوا لكل شخص الفرصة ليختار رفيقه” كإشارة دالة على أن القرين بالمقارن يقتدي، فإن ذلك لم تكن له من قوة الإقناع ما يجعل فضول الناس يتوارى بسهولة أو يجعل الشخص يتغاضى عن السر في الصداقة الحميمة لاثنين، لأن تلك الصداقة مهما كانت لا يمكن أن تخرج عن طور المصلحة المادية أو اشتراك الجرم أو التواطؤ على أمر ما…؟

وقد يلعب الانسجام والتساوق الشكلي عادة دورا هاما في إضفاء صفة القبول على تلك العلاقة، لكن المسألة الأخيرة تنتفي في حالتنا نحن الاثنين، فليس اختلاف شكلينا وحده بالأمر النشاز إذا ما قيس بطبيعة الذوق والمزاج، فالتنافر يكاد يكون صارخا لدرجة التضاد أو التكامل، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على قدرته عز وجل في الجمع بين نقيضين، إذ كيف نوفق بين طويل كعمود الكهرباء، ممشوق كقلم الرصاص، مرح لحد التهريج، وآخر قصير ممتلئ لحد البدانة، جاد لحد القسوة، ميال إلى النقار والجفاء، يحمل اسم (الطاهر ولد سيدي) الذي هو أنا؟ ورغم عدم إقراري بالصفة الأخيرة المنسوبة إلى شخصي، فإنني قد أجد لها تفسيرا منطقيا حين ألحظ انكماش صديقي (الشيخ) وتراجعه عند كل كلمة ألفظها بلهجة حاسمة وقاطعة، وكم هي المرات القليلة التي يتحدى فيها رغبتي ويشاطرني المناكفة والتعنت مثل هذه المرة بالذات حيث أصر على أن ألتفت مهما بلغ ذلك من إحراج، وشدني من ذراعي أولا، ثم أطبق يديه بالتوازي على صدغي وأدار وجهي بشكل دائري إلى اتجاه الشمال، هكذا الضبط…؟

عندها رفعت عيني مدفوعا بالإرغام الممزوج بحب الاستطلاع أكثر منه رغبة في الاستجابة وكان مشهدا عاديا لا يدعو للاستغراب، مجموعة من الأطفال في نفس الشارع رقم TVZ 25 يتحلقون حول لعبة (BABY) ويتضاحكون في صخب، وعلى بعد خطوتين منهم طفل في حدود الثماني سنوات يضرب صبيا آخر يصغره سنا، يبدو أنه في الخامسة من عمره، في أطرافه عدة بثور، حافي القدمين، يتخلل بكاءه الذي يشبه العويل كلمات مثل، دعني وسأحضرها لك، والله، سأحضرها لك…؟

حثثت الخطى باتجاه الأطفال، وانتزعت يدي الضارب من تلابيب الصبي، سألت الأطفال مستفسرا عن السبب، أجاب أحدهم ببراءة:

– أنت لا تعرف هذا اللص، !! سوف لن ندعه قبل أن يدفع لنا نصيبه…

حملقت في عيني الصبي بانتباه، كمن يبحث عن شيء ضائع داخلهما، قوة مغناطيسية تجذبني إلى الغوص، مشاهد مثيرة ، ماض مفزع يلتمع ويتحرك داخلهما، صور من الانكسارات والهزات، انتصارات بلا غنائم، آمال ضائعة، أحلام متبددة، خلاصة عشرة دامت خمس سنوات تتحرك مجسدة فعل النزوة.. آه، لماذا يتبدد كل شيء جميل ويلفه النسيان إلا ما يذكر بالخزي؟ لماذا علينا أن ندفع ثمن أخطائنا باستمرار؟ تساءلت في نفسي.

أمسك الصبي بطرف ثوبي كغريق وجد مخلصا، ثم قال باكيا:

– خلصني من هؤلاء، إنهم يريدون أن ينتزعوا مني نقودي.

– ما اسمك؟ سألته بتوجس

– اسمي PAPA، وأسكن هناك مشيرا بيده الصغيرة إلى باب منزل أعرفه أكثر منه..؟

****

إنه الباب الذي شهد على انفصام عرى علاقتنا، شاهد على لحظات التشظي، فهو موصد على نصف تاريخ حافل بالأحداث، أحداث الهيام والعشق، والوعود الكاذبة، والحقائق المزيفة، فسكينة الآن قابعة هناك وراءه، تنتظر قدوم (مهدي) رحل ساعة رحيل شرفها، في تلك الليلة المترعة بالغواية والظلام، تلك الليلة التي دار فيها الحوار المأفون، إذ خاطبتها بصيغة لا تخلو من الإيحاء والشهوة تدفعني إلى الحافة:

– سكينة، لقد آن الأوان؟!

أجابت بوجل تجلى في اتساع عينيها الواسعتين المكحولتي الأشفار، كمن نبه على أمر مفجع ظنه قد انقضى إلى غير رجعة:

– عن أي وقت تتحدث؟، أعتقد أنني شرحت لك فيما سبق

– وماذا قلت أنا لك حينها؟ أجبت بثقة مبعثها إحساسي بالفحولة

ثم مضت لحظة صمت ناطق بالترقب استنفدت فيها كل طاقتها في طرق الأبواب للعثور على مخرج من بين فكي الكماشة، وقالت بلهجة جمعت بين الرجاء والانكسار والاتزان:

– الطاهر ألا يحسن بنا أن نناقش موضوعا يعود على مصير علاقتنا بنتيجة؟

– مثل ماذا؟ سألتها باستخفاف

– تحدث الأهل، تضرب لهم موعدا، تفكر في البناء مثلا، إنه الزواج، أجابت.

– وهل تظنين أنني أمزح، أم أنني في سياحة؟ لكن هذا مرتبط بذاك، أم أنك نسيت؟

رنت إلي بطرف ذليل ولسان حالها يقول: (ألا رحمت ضعفي، ما أقساكم أيها الرجال).

ثم أردفت بعد وقت استغرقته في التدخين والبحث عن سلاح أكثر فتكا:

– سكينة، كثيرا ما كانت تراودني الشكوك بشأنك وأستبعدها معتمدا على ثقتي بك، لكن الإنسان في النهاية يبقى إنسانا، وإذا لم تكن هناك نتيجة ملموسة للكلام فإن إعادة تكراره على نفس النسق قمينة بزرع الشكوك في النفس، ثم إن اتهام الناس قد لا يكون صادقا تماما، لكنه أيضا لا يأتي من فراغ.

قبل أن أنهي كلامي تحركت رموشها بسرعة، ولمعت عيناها ببريق خاطف، تلقفت جملتي كمن تعرض لوخزة حادة في القلب، وقالت بلغة من وقع في شرك أو وجد نفسه فجأة رهين اتهام لا سبيل إلى دحضه:

– ماذا كنت تظن بي؟ ماذا قال الناس عني؟ ومن التي قالت لك..؟

آه، قلت في نفسي، لقد وقعت، ثم أجبتها:

– أنا لست هو الجاني، وأنت أدرى بما فعلت، ولا داعي للنكران أو التحايل…().

لقد سقطت المسكينة في هوة عميقة لا قرار لها وعدوها اللدود يتفرج عليها بتشف وهي تغوص، وتغوص، تستنجد فيجيبها بنوبة هستيرية من الضحك ، إنها أسير وقع بين يدي خصم لا يرحم، قلبه من المرمر، من البرونز، من الفولاذ، بعد لحظات صمت لملمت خلالها ما تبقى من شجاعتها، قالت بيأس المهزوم ومرارة المفجوع:

– اسمع يا طاهر، أنا لا أعرف عن ماذا تتكلم، ولا علم لي بشيء ولم أفعل أي شيء، لكنك فقط تنتحل الأعذار لتبرر ذهابك، فمنذ أسبوع بدأت تغير سلوكك معي، مما يدل على أن أخرى قد دخلت حياتك بدلا مني.

– ولماذا لم أنتحل الأعذار منذ زمن؟ كم مضى على علاقتنا؟ أربع سنوات تقريبا؟ أم أنني كنت معصوب العينين أو أعيش في مدينة بلا نساء؟ أجيبي، تكلمي.

– هذا هو ما يحيرني بالضبط، أجابت بوضوح واتزان.

– اسمعي، لقد أطلنا الحوار كثيرا في أمر لا يستحق كل هذا العناء أو هذه المماحكة، خمس دقائق فقط كانت كفيلة بانتهاء كل شيء.

– نعم خمس دقائق فقط، أفقد فيها شرفي إلى الأبد، ويضيع مستقبلي، قالت بثقة استرجعتها للتو،

أجبتها بمكر قائلا:

– مسألة الشرف هذه ليست واردة ما دام سيجمعنا عش واحد، أما الفتاة المتخلفة والجاهلة هي التي لا تعرف كيف تحافظ على مستقبلها

– ماذا تقصد؟ سألتني بريبة

فأخرجته من جيبي وأنا أرفع يدي اليسرى، ممسكا إياه بين سبابتي وإبهامي وقلت لها بصوت خافت:

– انظري هنا

لكنها أجابتني بنظرة استسلام وقبول.

****

كنت أستعجل العودة بأسرع وقت ممكن، إذ كيف سأتحمل أن ينظر إلي المارة هكذا وأنا أسير في الطريق مباعدا بين فخذي كطفل مختون، ألا لعنة الله عليك، ولتمت مجرجرا على أحجار الصوان أو محقونا بالهواء والوباء أو حتى معذبا بالجلوس على فوهة الزجاجة يا صديق السوء وشيطان الإنس، فطعم الفريسة بدأ يزول تدريجيا، مفسحا المجال للخيبات والندم والإثم، فقد صدق من قال أنه لا توجد سعادة في الحياة، بل توجد ومضات لها فقط، أما أنت يا شيخ الأبالسة، ماذا سيكون ردك عندما أخبرك بما حصل؟ ستتحمل معي مسؤولية تنوء بحملها الجبال؟ ستندب معي حظي العاثر ونضرب بأيدينا معا على الخدود؟ فهل هذا كله يجدي نفعا، هل يسترجع شرفا ضائعا ويعيد غشاء بكارة فضت؟ هل سيعود بنا الندم والحسرة إلى ما قبل بضع دقائق، . .؟ مسكينة أنت يا سكينة، كم ستكونين مثيرة للشفقة واللعنات، بعد أن كنت مصدرا للإعجاب والرغبة… والحسد؟ فعلى بعد مسافة أيام، شهور، ستساهمين في خفض وجوه كانت مرفوعة، تنكسين هامات كانت عالية، ستدنسين المجتمع والبشرية بالعار، ترتكبين جرما في حق الطفولة، فأين منظمة حقوق الطفل؟! أين منظمة حقوق المرأة؟! ألست أنت ضحية أيضا؟! ضحية- مذنبة، أو مذنبة –ضحية، وهل أنا الآخر سوى مجرد ضحية؟ ضحية أوهامي، ضحية قناعاتي، ضحية فحولة أورثت إياها من دون استشارة، والشهوة؟ ماذا بشأنها؟ ألم تصبح هي الأخرى ضحية لنا؟ أنا وأنت، لحظة أعدمناها وهصرناها بين جسدين ملتهبين؟ أخرجناها من عقالها قسرا، يا لنا من ظلمة نتظاهر بالتظلم؟! ولا شيء يقدر على اتهامنا بذلك، لأن أحد الشاهدين على ظلمنا شهيد، أما الآخر فلا يزال يلتحف الأيام، ينتظر بذكاء اللحظة الملائمة الآتية لا محالة، فالمستتر بالأيام عريان، ولا الطرق المبتكرة ستنجح في وأده، وما من عذر يمكن أن يبرر به، (فمريم بنت عمران) هي التي أحصنت فرجها، و(عيسى بن مريم) كلم الله وروح القدس، وعبرانيوا الأمس ليسوا يهود اليوم، وحسبنا ما نحن فيه من معجزات الثورة الجينية، ولا يذنب صديقي (الشيخ) لمجرد أنه شكك في رجولتي مزاحا، أو أقنعني بحديث قد يكون مغلوطا ولو أنه أهداني قطعة مطاط جامدة، كما أنه لا ذنب لصبي لم يسع يوما في مقدمة أحرى أن يعير بخطيئة ارتكبتها امرأة هي أمه بمشاركة رجل كان ينبغي أن يكون أبوه بشروط أخرى.

****

كم يلزمني من الشجاعة كي أعود إليها بوجه ناصع البياض؟ كم ينقصني من الجبن والنذالة حتى أصرح لها برغبتي في التملص؟ وكم أحتاج إليه من الشهامة لأواصل الدرب حتى نهاية الطريق؟ وإن كان التذلل عند الحاجة من شيم الحكماء فإن النكث بالوعود منقصة الرجال، والزواج رباط مقدس وبلسم شاف وتوبة تجب ما قبلها، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ ولا مجال للتعلل بالفرق بين اليوم والأمس، إذ لا يدوم إلا وجهه الكريم…، ولنا في ذكرى البداية أسوة حسنة، تلك البداية التي تعود لخمس سنين مضت كلمح البرق، مساء ذلك اليوم الشتوي الشبقي، وصخب أجواء مناسبة الزفاف، وحدث انفجار حبي الدفين، آه .. كيف أنسى بهجة البداية، (لعن الله العادة التي تزيل الغرابة)، وتلك الكلمات التي ليست كغيرها والتي أمطرتها بها دون حساب قائلا:

– وأخيرا يا هاربة؟ قلت لها بروح مغامرة وخوف من عدم الاستجابة.

– من تقصد؟ أجابت بفتور وجفاء مصطنعين

– وهل يقصد إلا من يستحق القصد؟

سارت بدلال وغنج بين أطراف الحفل وهي ترفل في ثياب تعكس قمة في الذوق ودقة في الاختيار وتحمل سبق إصرار على الإثارة، عجيزتها تتجاوب مع وقع كعب حذائها، بينما كنت أشعر أنني فقدت ثلث وزني، جوابي ما زال معلقا بشفتيها المرسومتين بعناية، (منك لله يا امرأة) فقد صدق الكتاب المقدس عندما قال إنك «مصيدة للإنسان» فهاأنذا فريسة للخيبة والرجاء بسببك، ثم انتهزت فرصة مرورها بقربي تحمل صينية الشاي، همست لها بصوت مسموع:

– ستقتلينني يا ملاك

ردت علي بابتسامة مقتضبة ، تجددت على إثرها آمالي فرددت بداخلي طب نفسا يا (أخيل) يا بطل الأبطال وسيد (الميرميدون) فمدينة طروادة بدأت تتهيأ لفتح أبوابها أمامك للاستسلام، فما عليك إلا أن تستحث جوادك وتشد على قبضة سيفك بإحكام، فأنت لا تعود القهقرى كالريح ولا ترجع إلى نبعك كالماء.

****

هيهات وهيهات، فطروادة لا زالت أعتى من أن تنهزم بكل هذه السهولة، وأنا لا بد لي من أن أقدم نفسي قربانا في سبيل نيلها إن كنت صادقا حقا، وهاأنذا قد أقدمت على ذلك لست هيابا، فتجلدت أربع سنوات متعاقبات، أتقلب على حافة سيف بين الإنفاق والشهوة الجامحة، إنفاق بمناسبة وبغير مناسبة، أعراس وموالد، مرض قريبات، سفر صديقات.. هدايا من كل صنف، ووتر القوس يشتد ويشتد، وأيوب يصابر ويصابر حتى كان الفرج وجاءت الليلة الموعودة التي التقى فيها النصفان ليشربا نخب الحب المجلل بالإثم والعفن.

بقلم جمال محمد عمر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى