الإمام الحضرمي : السياسة والفكر، بين مفارقات التاريخ ومكر العقل/ عبد الودود ولد عبد الله (ددود)
في سنة 1981 ظهرت من كتاب السياسة لأبي بكر المرادي الحضرمي المتوفى سنة 489هـ/6-1095م ببلدة أزوكي قرب مدينة أطار الحالية، طبعتان متزامنتان بعناية المحققين سامي النشار، ورضوان السيد، فكان ذلك بمثابة إيذان باستئناف القول حول واحد من أبرز أساطين الفكر في الغرب الإسلامي المرابطي.
ومن الطبيعي أن يجد عمل هذين الباحثين المشرقيين صدى أكبر في موريتانيا، هذا البلد الذي اختار الحضرمي المرادي أرضه وطنا نهائيا له بعد طول تجوال، فعرفته صحراء الملثمين في القرن الخامس الهجري قاضيا مطاعا، ثم اكتشفته في القرن الحادي عشر وليا ملهِما.
ويبدو أن نشر كتاب السياسة سنة 1981، كان مناسبة لاكتشاف ثالث تجلى فيه المرادي معقوليا متكلما وفيلسوفا سياسيا براجماتيا. المرادي في الدراسات الموريتانية المعاصرة كان المؤرخ والسوسيولوجي عبد الودود ولد الشيخ في طليعة مستثمري طبعتي 1981 من كتاب السياسة ضمن سياق التاريخ الموريتاني، حيث قدم بمعية المؤرخ “برنار سيزون” دراسة شمولية تزاوج بين مناهج البحث التاريخي والمسح السوسيولوجي المعتمد على التقاليد المروية والتنقيب الأثري.
وباستثناء الدراسة التاريخية التي قدمها الناني ولد الحسين حول “حياة قاضي المرابطين الإمام الحضرمي”، والبحث الببليوغرافي الذي نشره أحمد ولد محمد يحيى حول كتاب السياسة أو الإشارة إلى أدب الإمارة باعتباره “أول مؤلف معروف في غرب الصحراء” ، تمتاز البحوث المنشورة بعد ذلك حول نفس الموضوع بتركيزها الواضح على المنحى الفلسفي في فكر المرادي الحضرمي انطلاقا من منظور علم السياسة.
فقد أفرد إسماعيل ولد شعيب موضوع الخطاب السياسي لدى الحضرمي بدراسة مستقلة اعتبر في خاتمتها أن “للخطاب السياسي لدى الحضرمي طبيعة خاصة” تتمثل في “قدرته على الربط العضوي بين النظرية والممارسة التطبيقية في واقع الحياة السياسية” .
وكذلك فعل محمد يحيى ولد باباه بدراسته حول الفكر السياسي في موريتانيا قبل تسعمائة عام، حيث قدم رؤية نسقية لفكر المرادي مبينا أهمية مفهوم ” العادة ” باعتباره المحور الناظم لفكر مؤلف كتاب السياسة. وقدم المرحوم سيدي ولد مناه دراسة حول الكتابة السياسية الحضرمية مع قراءة مغايرة لمصادر كتاب السياسة.
وقام السيد محمد سالم إديدبي، من جهة أخرى، بترجمة كتاب السياسة إلى الفرنسية. وقد نشرت هذه الترجمة مع تقديم من “فيديريكو مايور” المدير العام السابق لليونسكو. ناقش جل هذه الدراسات مكانة المرادي الحضرمي وتأثيره باعتباره متكلما أشعريا مرموقا ومنظرا سياسيا رائدا.
مع أهمية الآثار العقدية والأدبية التي تركها المرادي، إلا أن أثره الأكبر يظل بلا شك كتاب السياسة. وينتمي هذا الكتاب إلى جنس الآداب السلطانية حيث الإشكالية هي : كيفية استمرار السلطة واستقرارها، تمييزا لها عن إشكالية الفقهاء، وهي: كيفية تحقق الشرعية، و عن إشكالية المتكلمين و هي: تحقق السلامة العقدية للسلطة حسب مذهب المتكلم، وكذلك عن إشكالية الفلاسفة وهي: كيف يكون التدبير حكيما أي عقلانيا.
ومع أن المرادي يمت بسبب واضح إلى تقاليد الآداب السلطانية سواء من حيث الشكل ( التبويب إلى أجزاء تعتبر دروسا ) أو من حيث الوظيفة ( تعليم السلطان أو الأمير الصغير فن السياسة من أجل مساعدته في استمرار ملكه و استقراره )، فإن كتاب السياسة من حيث المضمون غير بعيد عن إشكالية الفلاسفة ( أي: كيف يكون التدبير السياسي حكيما ).
كما يظهر من تأسيسه للمبادئ الأشعرية على المفاهيم الأرسطية ( مثل اعتبار العقل الطبيعي أصلا للعقل الكسبي أو إعادة تأصيل مفهوم العادة في منبته الأرسطي ليصبح مرتكزا نظريا للفعل السياسي ) . وبذلك أرسى المرادي قواعد علم السياسة العقلانية في الغرب الإسلامي و تابعه كثير من المفكرين السياسيين مثل ابن رضوان وابن الأزرق ، حيث نقل هذان المؤلفان على الأقل عن المرادي تصريحا لا تلميحا. ويذهب الجابري إلى أن ابن خلدون، رغم إغفاله الإشارة إلى كتاب ابن رضوان “مثل إغفاله لجميع الكتب التي ألفت في عصره، فإننا لا نشك مطلقا في أنه قد اطلع عليه أو على الأقل سمع به، فلقد كان ابن رضوان هذا صديقا لابن خلدون كما يذكر ذلك في ” التعريف ” كما كانا معا موظفين ساميين في حاشية السلطان”.
إن تصريح ابن رضوان بالأخذ عن أبي بكر المرادي في أكثر من موضع من كتابه يقتضي أن ابن خلدون باطلاعه على كتاب الشهب اللامعة لابن رضوان سيكون قد اطلع على كتاب السياسة للمرادي.
ويقرر سامي النشار، محقق كتاب السياسة للمرادي، نفس الفكرة مؤكدا “أنه كان لدى ابن رضوان نسخة كاملة من الكتاب، ومن المؤكد أيضا أنه كان في مكتبة القصر المريني نسخة من الكتاب، وابن خلدون كان هناك، صديقا لابن رضوان، ومن كُتّاب السلطان المريني أبي سالم، ألم يسترع نظره كثير من تعبيرات المرادي ـــ عن الدولة المستجدّة مثلا؟” حقا إنه لمن الصعب أن نفترض أن ابن خلدون لم يطّلع على تأليف مثل كتاب السياسة للمرادي، متوافر في خزائن أصدقائه من العلماء ومخدوميه من السلاطين، لاسيما وهو يتناول موضوعا أثيرا عنده مثل موضوع السياسة وتدبير الإمارة.
و بذلك ينفتح أفق رحب لدراسة مدى تأثير المرادي في أفكار لاحقيه، ومن ذلك ما يذكره رضوان السيد، أحد محققي كتاب المرادي، متعجبا: “احترت طويلا في هذه المسألة عند قراءتي الثانية لكتاب الأمير لمكيافيللي في الثمانينات، فهو لا يخرج عما عرفته من سر الأسرار ( المنحول المنسوب لأرسطو )، و من كتاب الإشارة إلى أدب الإمارة للمرادي” فهل أثر المرادي في ميكيافللي رائد العقلنة السياسية في العصر الحديث ؟
ليس هذا مكان الحسم في هذا السؤال الذي يحيل في بعض جوانبه إلى قضية التشابه اللافت بين أفكار مكيافيللي و ابن خلدون، وهو أمر خصص له عبد الله العروي دراسة مستفيضة أوضح في خاتمها “كيف التقى ابن خلدون ومكيافيللي، رغم تباعد مثلهما العليا،في كونهما نبذا الطوباوية، وفصلا الأخلاق عن التاريخ، ثم اعملا العقل في ترتيب تحليل الأعمال المتولدة عن إرادة الإنسان الحيوانية”.
و لاشك أن المرادي يلتقي مع هذين المفكرين السياسيين في نفس الموقف المعرفي بغض النظر عن مدى تأثر مكيافيلي بصاحب المقدمة أو تأثر ابن خلدون بقاضي المرابطين.
المرادي بين التاريخ والذاكرة الشفوية
ومهما يكن فقد ساهمت الدراسات التي ظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة في نفض الغبار عن جوانب من تاريخ المرادي، بعد قرون من إهمال المؤرخين من موريتانيا ومن خارجها، مع استثناءات قليلة.
ويندرج هذا الإهمال ضمن موقف عام درج عليه أغلب مؤرخي المرابطين، حيث اهتموا بنشأة هذه الحركة في مهدها الموريتاني ومراحل توسعها نحو الشمال المغربي والأندلسي، لكنهم التزموا صمتا مريبا حيال الطور الموريتاني الأخير لهذه الحركة بعد عودة الأمير أبي بكر بن عمر إلى الصحراء الموريتانية صحبة الفقيه المتكلم أبي بكر الحضرمي المرادي، إثر تخلي الأمير أبي بكر بن عمر عن مملكته في مراكش لابن عمه يوسف بن تاشفين، وتخلي المرادي الحضرمي عن سلطانه المعرفي في أغمات لتلميذه أبي الحجاج يوسف بن موسى الكلبي الذي تذكر كتب الطبقات أنه “كان آخر أئمة المغرب فيما أخذ عن أبي بكر محمد بن الحسن الحضرمي، المعروف بالمرادي، من علوم الاعتقادات و كان مختصا به، و كان المرادي أول من أدخل علوم الاعتقادات إلى المغرب الأقصى، فنزل بأغمات وريكة، فلما توجه أبوبكر بن عمر إلى الصحراء حمله و ولاه القضاء (…..) فخلفه أبو الحجاج في علوم الاعتقادات”.
كيف نفسر هذه العودة إلى الصحراء ؟ هل تعبر عن اليأس و الإحباط ؟ أم هي محاولة لاستئناف المشروع المرابطي بوضعه على أسس فكرية-سياسية جديدة ؟ من الصعب أن نجيب بشكل قاطع على هذا السؤال في ظل شح المصادر وتباين طبيعتها و مراميها.
فقد أهمل المؤرخون الرسميون ذكر الرجلين في هذا الطور من حياتهما إلا ما ندر، أما الذاكرة الشعبية فقد اختزلت تاريخ المرابطين في هذا الطور الأخير الذي بدأ ” بالتوجه إلى الصحراء” .
فالمرويات التقليدية في بلاد شنقيط لا تهتم بنشأة الحركة المرابطية و لا بمراحل توسعها نحو الشمال. ولا تهتم بيحي بن إبراهيم ولا بخليفته يحي بن عمر، بل و لا حتى بالإمام عبد الله بن ياسين. لا تحتفي الرواية الشفهية من أمراء المرابطين إلا بأبي بكر بن عمر، ولاتهمها ظروف تولية هذا الأخير ولا جهاده مع عبد الله بن ياسين وفتحه كثيرا من المدن، بل لا تهمها عودته الأولى للصحراء عندما كان رئيس الدولة المرابطية، فتلك أحداث متروك تسجيلها للمؤرخين.
تاريخ المرابطين في الصحراء يبدأ ـ طبقا للرواية الشفهية ـ من النهاية، من عودة أبي بكر الأخيرة وموته شهيدا، فأبو بكر بن عمر ـ في الطور الأخير من حياته ـ هو الأمير الأسطوري بامتياز لأنه استقال من الإمارة الفعلية و انسحب من التاريخ. أما إمام الحركة ـ حسب هذه الروايات ـ فليس عبد الله بن ياسين، بل هو ” الإمام الحضرمي ” دفين بلدة “أزوكي”.
كتاب المنة: من صدر الإمام الحضرمي إلى اليد التي ورمت:
ويبدو أن قبر الحضرمي في “أزوكي” لم يكن معروفا ولا معلّما، قبل أن يُعلن محمد المجذوب المتوفى في حدود سنة 1098/1687 أنه قد كوشف بمكان القبر حيث شيد عليه ضريحا واتّخذ من زيارته نُسكًا التزمه وألزم به أتباعه، وبذلك ظهر في مدينة أطار ما يمكن اعتباره حركة مجذوبية حضرمية.
ويرد في الحكايات المحفوظة حول نشأة هذه الحركة، أنها بدأت بعد أن توجه رجال من “قصر أطار”، “للحج عام (شفه) من أجلاّئهم وحجوا بيت الله الحرام وأخذوا منه حجرا وجعلوه في أساس المسجد قاصدين بذلك أن لا يقصدهم عدوّ يريد هدم قصرهم إلا قصمه الله تعالى كما فعل بأصحاب الفيل لمّا أرادوا هدم البيت الذي حملوا منه الحجر.
فلما جاءوا من الحج شرعوا يبنون المسجد، وكان منهم ولي اسمه محمد المجذوب (…) التقى مع الشيخ الحضرمي الشهيد في الغيب فقال له إنه مات ومعه بعض من العلوم لم تؤخذ عنه، وكان من قضاء الله أن ورمت يد المجذوب وخرق الله لهما العادة بأن تحول ما في صدر الإمام الحضرمي إلى اليد التي ورمت، فشرع المجذوب يكتب في الصكوك واليد ينزل ورمها إلى أن نفد ما فيها من العلوم فصارت كأن لم يكن بها ورم قط”.
ويضيف مصدر آخر أن المجذوب كان أمّيا، فهو “الشيخ الصالح الأمّي” محمد بن أحمد بن حسين الشمسدي الأطاري.
تمخضت التجربة الروحية التي مرّ بها “مجذوب أطار” عن تدوين ستة أسفار من الأدعية والابتهالات والأوراد. واعتبر هذا الكتاب من تأليف الحضرمي وإملائه.
أما محمد المجذوب فقد اعتبر نفسه مجرد ناقل لأنه إنما كان “تنتفخ يده الجاهلة وتكتب من محمد بن الحسن الحضرمي”. وسمي هذا الكتاب المشتمل على “أوراد الحضرمي”: كتاب المنة وقد تنامى عدد أنصار المجذوب، حتى أصبحت لهم الغلبة في بلدة “أطار”.
فيوضح عبد الله بانمو، مهذب كتاب المنة لقرائه:
“اعلم أيها الناظر لهذا الكتاب أنّا قد صدقنا صاحبه وجعلناه حجةً وشيخا واسطةً بيننا وبين الله لأنه لم يظهر لنا فيه خللٌ بل موافق للكتاب والسنة كما أجمع على ذلك الأشياخ”.
وكان المجذوب يأمر هؤلاء الأنصار أن يدعوا بأدعية خاصة لا يخلو بعضها من نبرة شيعية وَنَفَس مهدوي، ومما كان يأمرهم به “اجمعوا الصالحين في الصلاة والسلام والدعاء وعينوا أعيانهم بها.
وخصوا جدّكم بها وأضيفوا له صهره عليا وزوجته فاطمة وابنها الحسين، وقولوا: اللهم صل وسلم على نبينا وجدنا محمد وابن عمه علي وابنته فاطمة وابنها الحسين وسخر لهم ما طلبوك اليوم إنك وهاب كريم”.
هكذا يظهر المرادي في القرن 11هـ/17م وحتى 13هـ /19م بوصفه “ولي الأولياء و سيد الأتقياء المدفون بأزوكي، قدم إليه مجاهدا في سبيل الله من بلاد اليمن، من حضرموت، و أظهره الله على يد الشيخ الصالح الأمي قبله محمد المجذوب ( …) و كان من أمره أنه يأتيه بكيفية لا تدرك فيفيض عليه من العلوم أسرارا ربانية و عجائب لدنية ” وهنا أيضا تختزل الرواية المناقبية مراحل الحياة المتقلبة لهذا الفقيه المتكلم إلى طورين:
يتمثل أولهما في قدومه المتخيل من اليمن، إشارة إلى أصوله الحضرمية البعيدة ( = طور ما قبل التاريخ )، أما ثانيهما فيبدأ من النهاية، من “استشهاد” الحضرمي مجاهدا في بلدة “أزوكي” في القرن الخامس الهجري (11 م)، ثم اتصال المجذوب به و استملاؤه إياه كتاب المنة خلال القرن الهجري الحادي عشر (17م ) أي بعد “استشهاده” بستة قرون ( = طور ما بعد التاريخ ).
وقد واجه المجذوب معارضة قوية من القضاة وكبار الفقهاء في مدن آدرار الرئيسية (“ودان” و”شنقيط” و “أوجفت” و “أطار” نفسها) مما نجد له صدى في كتاب المنة.
ومن مظاهر المواجهة الفكرية بين الفقهاء وأتباع المجذوب توجيه الألغاز الفقهية على سبيل التحدي العلمي، كما فعل محمد بن المختار بن الأعمش (ت, 1107 هـ.) متحديا المجذوب وأتباعه بلغز من مسائل التركة.
كما استنكر الفقيه المتكلم ابن الهاشم الغلاوي (ت. 1098 هـ.)، تلميذ ابن الأعمش، تعيين المجذوب مكان قبر الحضرمي، ذاكرا أن ابن عبد السلام فقيه تونس المعروف، أُبلِغ “أن بعض الفقراء يزعم أنه يعرف موضع قبور الصحابة بتونس، فقال:
لو عرفناهم لسجناهم، لأنهم أخبروا بأمر غير معلوم يوقع تشويشا” ويضيف ابن الهاشم:
“وما أخلقه، أعني صاحب أهل أطار، بما همّ به ابن عبد السلام، فلقد أوقع فيما خاف منه ابن عبد السلام”.
وفي مواجهة هذا الضغط الفكري، أرسل أنصار المجذوب كتاب المنة مع بعض الحجاج لعرضه على علماء المشرق.
ويذكر أنه كان محل استحسان لدى جماعة من كبار العلماء هناك منهم أبو إسحاق الشهراني، وعبد الباقي الزرقاني وعلى الأجهوري ومحمد الخرشي. وقرظ الشيخ برهان الدين كتاب المنّة بقوله “وقد اطّلع الفقير على مواضع من ذلك الكتاب فوجدها موافقة لكلام أهل السنة والجماعة، ولا يتوقف العلم على تعليم حيٍّ بل يكون من ميّتٍ كما وقع لذلك الرجل الصالح، وقد يكون بالإلهام كما وقع للإمام البخاري وكما في بعض الأحاديث:
“ما اتخذ الله من ولي جاهل وإذا اتخذه علمه” إلى غيره من الأدلة، فلا ينبغي لمعترض أن يتعرض لشيء من ذلك الكتاب فإن لم يفهم المعترض فغيره يفهم” .
وتذكر كتب التراجم أن ابن الأعمش ألف رسالة في رد تقريظات العلماء المصريين وبعثها إليهم.
ولم نعثر حتى الآن على هذه الرسالة. وتذكر بعض المصادر أن العلماء المصريين المذكورين استحسنوا ردّ ابن الأعمش وتراجعوا عن تقريظهم وبعثوا إلى ابن الأعمش بعمائمهم اعترافا بمكانته. ويشير عبد الله بن محمد الصغير بن انبوجه التشيتي إلى ذلك في كتابه تحفة المسترشد :
ويذكر محمد بن أحمد الصغير التشيتي أن عبد الله بن محمد البوحسني المعروف بالحاج عبد الله، زعيم تيار الفقهاء المعارض لحركة ناصر الدين في منطقة “القبلة”، شارك ابن الأعمش في كتابة الرسالة الموجهة إلى مصر لرد تقريظات علمائها لكتاب المنّة.
والملاحظ أن الفقهاء في ردهم على المجذوب كانوا يتجاهلون، ولعلهم يجهلون، أمر الحضرمي المرادي نفسه، مكتفين بالحديث عن “صاحب قبر هناك”، أما المتعلقون بأوراد المجذوب المنسوبة للحضرمي فقد كانوا يسمونهم “ذوي القبر”.
أين هذه التطورات المشوشة مما كان الحضرمي المرادي يصبو إليه؟
وكيف كان مصير المشروع الفكري المفترض أنه كان الباعث لتوجه الحضرمي إلى الصحراء؟
ربما كان الكثير من علماء الأندلس ومتأدبيها أقرب إلى رأي ابن بسام في اعتباره الحضرمي المرادي مجرد مغامر طموح، ” أراد أن يسلك في حمل دول المرابطين مسلك عبد الله بن ياسين، و لم يدر أنها أقدار محتومة، و حظوظ مقسومة، فلم يحصل إلا على بعد السفر، و انقطاع العين و الأثر، و توفي (….في) الصحراء، حيث لا يروق وجه النهار، و لا يحمد صوب القطار”
هل تلخص هذه الصورة السالبة أهم ملامح شخصية أبي بكر الحضرمي ؟
و هل يستحق هذا الظلم المضاعف من تهكم أصحاب الطبقات الأندلسيين إلى مبالغات أدبيات المناقب مقابل استنكار الفقهاء والمتكلمين وصمت المؤرخين ؟
فمن المفارقة حقا أن الرجل الذي أراد أن يكتب التاريخ، قد تجاهله التاريخ المكتوب كليا، كما أن السياسي الذي حاول إقامة مدينة فاضلة قد لفظته كل المدن، والتهمته الصحراء، أما المتكلم والفيلسوف الذي وصل بمغامرة الفعل السياسي إلى مداها على هدي مبادئ العقل الأرسطي، فقد انتهى به الأمر إلى أن صار ملهما لطائفة غامضة يتصارع حول مبادئها الفقهاء و المجاذيب.
هل يصح اعتبار كتاب المنة جزءا من تراث الحضرمي بمعنى من المعاني؟
يعكر على ذلك التناقض الصارخ بين “عقلانية” المرادي البراجماتية كما تظهر في كتاب السياسة وما ينسبه المجذوب إلى نفس المرادي من أفكار إلهامية تراءى للمجذوب أنها كانت ترد إليه إملاء من المرادي، رغم القرون الخمسة الفاصلة بين المملي والمملى عليه.
ومع ذلك يجدر التنبيه إلى وجود نوع من “التناص” بين كتاب السياسة وكتاب المنّة، مما قد يدل على بقاء آثار من تعاليم المرادي بمنطقة “أزوكي” ولو في شكل مأثورات شفوية أو تقييدات مكتوبة يجري تداولها في نطاق محدود، فما ذا بقي في هذه المأثورات من تعاليم المرادي “الأصلية”؟.
من المعروف عن الرجل أنه كان أول من أدخل علم الكلام الأشعري إلى المغرب الأقصى.
فهل عرفت العقيدة الأشعرية بعض الانتشار على يده في صحراء الملثمين؟
لا نعلم كبير شيء عن انتشار الأشعرية في هذه المنطقة قبل نهاية القرن الهجري التاسع وبداية العاشر (15 ــ 16 م)، عندما انتشرت مؤلفات المنطق وعلم الكلام في صيغته السنوسية على يد المغيلي وتلاميذه، لاسيما في تنبكتو.
أما الازدهار الحقيقي لمباحث العقائد فلا يبدو أنه سبق القرن الحادي عشر (17 م)، حيث شهد هذا القرن ورود كتاب إضاءة الدجنة للمقري. والملاحظ أن هذا الكتاب قد وظف فور وروده ضمن مشروع فكري يتوخى مواجهة تأثير الحركة المجذوبية المنتسبة إلى الحضرمي.
فبعد حجة عبد الله البوحسني، وهو الذي سبق أن رأينا دوره في الرد على تقريظات العلماء المصريين لكتاب المنة، رجع مصطحبا كتاب إضاءة الدجنّة للمقري مع إجازة عالية في رواية هذا الكتاب عن أبي مهدي عيسى الثعالبي عن علي بن عبد الواحد السجلماسي عن المؤلف.
وقد كتب البوحسني بالإجازة إلى ابن الأعمش، أكبر معارضي المجذوب، في كتب منها إضاءة الدجنة وكان يرغبه في وضع شرح عليها وقد وجه إليه بنسخة منها، حيث يذكر ابن الأعمش سبب تأليفه لكتاب في شرح منظومة إضاءة الدجنّة للمقري: “وإنما ألجأني إلى هذا الشرح كتاب صاحبنا الفقيه الحاج أبي محمد عبد الله بن محمد بن أحمد بن عيسى البوحسني (..) بعد قدومه من الحرم الشريف يرغب في وضع شرح عليها وقد وجه إلي بنسخة منها بعد أن أجازنيها (..) فرأيت حين استدعاني (..)
أن امتثاله واجب (..) إذ هو من جملة ما أمر الله تعالى به من المعاونة على البر والتقوى” هكذا يبدو هذا الكتاب الذي يعتبر باكورة مؤلفات بلاد شنقيط في علم العقائد الأشعرية، نتاج جهد تعاوني منسق ساهم فيه أشهر فقيهين معارضين للتوجهات الإمامية الإلهامية ببلاد شنقيط خلال القرن الهجري الحادي عشر(17 م.) عموما، ولحركة الإمام المجذوب خصوصا.
كما وضع ابن الهاشم الغلاوي، وهو من أكبر الآخذين عن ابن الأعمش، ومن أشهر المعارضين لحركة المجذوب كما رأينا، موجزا في علم العقائد اشتهر بين الطلاب بعنوان:العقيدة الغلاوية.
ووضع محمد بن أبي بكر بن علي المحجوبي الولاتي شرحا على رسالة ابن الهاشم المذكورة بعنوان: المنن الالهية على العقيدة الغلاوية وألف هو نفسه منظومة من ثلاثمائة بيت عرفت بعقيدة محمد بن علي، ووضع اند عبد الله بن أحمد المحجوبي الولاتي (ت. 1172هـ.) شرحا عليها سماه إمداد الضياء في أفق عقائد الاصفياء.
وبذلك يظهر أن نشأة المدرسة الكلامية في بلاد شنقيط كانت ترتبط إلى حد كبير بالصراع الفكري بين تيار الفقهاء المتسلحين بعلم الكلام، وتيار الصلحاء الإلهاميين، لاسيما الحركة المجذوبية المنتسبة إلى الحضرمي.
وقد أسفر هذا الصراع عن نجاح كل طرف من الطرفين المتصارعين في تحقيق إنجاز فكري مغاير لما اعتقد أنه كان يريد.
اعتبر المجذوب نفسه معنيا بنشر علوم الحضرمي التي دفنت معه في الصحراء، فكتبت يده الجاهلة، حسب تعبيره، كتاب المنة “إملاء” من الإمام الحضرمي في عالم الغيب.
غير أن المنحى العام لكتاب المنة الذي تمخضت عنه هذه التجربة الروحية كان عرفانيا غنوصيا في توجهه العقدي، وإماميا مهدويا في رؤيته السياسية.
أي أنه جاء على النقيض مما عرف عن الحضرمي المرادي من رؤية أشعرية في العقيدة وتوجه عقلاني براجماتي في مجال السياسة.
أما ابن الأعمش و تلميذه ابن الهاشم فقد قاما تحت تأثير معارضتهما القوية لكتاب المنة المنسوب إلى الإمام الحضرمي، وهجومهما على المجذوب وطائفته من أتباع “صاحب القبر”، بتأليف وشرح مجموعة من الكتب والرسائل الهادفة إلى تبسيط العقائد الأشعرية ونشرها على أوسع نطاق.
وبذلك صار هذان المؤلفان وتلاميذهما أهم المساهمين في إحياء جانب هام من ” علوم الحضرمي التي دفنت معه في الصحراء”، وهو الهدف الذي اعتقد غريمهما المجذوب أنه كان رسالته الحصرية.
في هذه المسافة بين ما يحققه كل طرف في النهاية، وما يعتقد أنه كان يسعى إليه، مفارقة يمكن اعتبارها، طبقا للاصطلاح الهيجلي، ضربا من مكر العقل في التاريخ.