أحاديث فى علاقات موريتانيا الخارجية
الحلقة الأولى : العلاقات الموريتانية-الإيرانية
بعد أقل من شهرين على إعلان موريتانيا “تجميد” علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل، خلال القمة العربية التي عقدت في الدوحة، يوم الجمعة 16 يناير 2009،اعتبرت إيران أن استمالة موريتانيا إلى محور الممانعة باتت أسهل، وأن من “الحكمة” احتواءها قبل فوات الفرصة، أي قبل أن تعمد أطراف أخرى إلى إذابة “طبقة التجميد”غير السميكة التي كسا بها النظام الموريتاني الجديد ملف علاقته مع إسرائيل، ضمن مناورة كشفتها لاحقا تسريبات (ويكليكس) ذات الصلة بالموضوع.
و تسارعت وتيرة الأحداث المساعدة و الضاغطة باتجاه عملية الاحتواء الإيرانية.
فبعد شهرين من قمة الدوحة، سيقطع المغرب علاقاته الدبلوماسية مع إيران، فى سياق تضامنه مع مملكة البحرين فى خلافها السيادي مع طهران، وفى خضم حديث عن تقارب بين إيران وجبهة البوليزاريو، وكشف السلطات المغربية وجود “نشاطات ثابتة للبعثة الدبلوماسية الإيرانية فى الرباط، تستهدف الإساءة للمقومات الدينية الجوهرية للمملكة المغربية، والمس بالهوية الراسخة للشعب المغربي ووحدة عقيدته ومذهبه السني المالكي”.
أما فى موريتانيا، فكان المجلس الأعلى للدولة- الخارج قبل 7 أشهر وبعملية قيصرية من رحِم انقلاب عسكري ضد رئيس منتخب- يسعى إلى سند خارجي من أي نوع، و إلى دعم مادي فى أفق انتخابات رئاسية لا تفصله عنها إلا شهور قليلة.
وهكذا وجدت إيران فى موريتانيا ضالتها لتعويض خسارتها الدبلوماسية فى منطقة المغرب العربي.
ولم تكد تمر عشرون يوما على إغلاق السفارة الإيرانية فى الرباط، حتى كان وزير خارجية طهران آنذاك)منوشهر متكي( يجتمع فى انواكشوط، ولمدة ساعتين، مع رئيس المجلس الأعلى للدولة.
و فى نفس اليوم، كشف مصدر إيراني أن طهران منحت موريتانيا مليوني دولار، ثم قال الوزير الإيراني جملته المشهورة، وهو يلوح بيديْه للطاقم الطبي فى مستشفى الأمراض السرطانية بانواكشوط: “نحن قادمون، والتجهيزات أيضا قادمة”، فى إشارة إلى مانــسب إليه، خلال اجتماعه بولد عبد العزيز، من “استعداد إيران للتكفل بكافة المشاريع التي كانت إسرائيل تنفذها أو التي وعدت بتنفيذها فى موريتانيا، وفى مقدمتها تأهيل وتجهيز مستشفى الأمراض السرطانية”. الحقيبة الوزارية تم تنظيم الإنتخابات الرئاسية الموريتانية، فى 18 يوليو 2009 ، و مع مطلع أغسطس الموالي، شكل محمد ولد عبد العزيز حكومة جديدة كان أول نشاط لدبلوماسيتها استقبالَ )منوشهر متكي( من جديد فى انواكشوط. و سجل المتتبعون لهذه الزيارة دخول الوزير الإيراني إلى مكاتب الرئاسة و يده اليسرى تنوء بحقيبة لم يخرج بها وهو يغادر رئاسة الجمهورية. (القصة موثقة…والطرف الإيراني يتحدث عنها بتفاصيل دقيقة،ولكل مقام مقال). وبحلول العام 2010 ، سيكون ولد عبد العزيز أول رئيس موريتاني يزور إيران منذ ثورتها الإسلامية سنة 1979. و عَبَرَ الرئيس الموريتاني أجواء كل من المغرب، وإسبانيا، وفرنسا،وكرواتيا،وصربيا، وبلغاريا، وتركيا، وأذربيجان، ليجد فى استقباله فى طهران وزير التجارة الإيراني. واسترعت انتباه الرئيس الزائر الخصائصُ “الميكانيكية” لسيارات الأجرة وحافلات النقل الإيرانية، فطلب من مضيفيه تزويد موريتانيا بما مجموعه 750 سيارة من الصنفين، والتزم بنك (صادرات إيران) بتمويل الصفقة، وتوفير سيارات الأجرة وحافلات النقل التي سيتم تركيبها فى مصنع سنغالي-إيراني فى داكار. ( بقية قصة الصفقة معروفة لدى وزارة الشؤون الإقتصادية والتنمية الموريتانية، وما تم “استلامه” فى إطارها من سيارات “الأجرة” معلوم). وتوالت الزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين فى البلدين( شارك الوزير الأول الموريتاني في مؤتمر دولي لمحاربة الإرهاب احتضنته طهران أواخر شهر يونيو 2011 ، وزار نائب الرئيس الإيراني انواكشوط فى نفس الأسبوع، حاملا دعوة إلى الرئيس الموريتاني للمشاركة فى قمة عدم الإنحياز التي انعقدت فى طهران نهاية أغسطس الموالي). بعد ذلك بأقل من شهر، أجرى الرئيس الإيراني توقفا فنيا فى انواكشوط، وهو فى طريق العودة من نيويورك إلى بلاده، بعد مشاركته فى الإجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة. وقبل نهاية العام،زار نائب آخر للرئيس الإيراني موريتانيا غداة اجتماع للقائم بالأعمال فى سفارة بلاده فى انواكشوط مع وزير الدفاع ومدير الأمن الموريتانييْن، لبحث “سبل تعزيز التعاون العسكري” بين البلدين. الأسلحة الإيرانية: لماذا وضد مَن؟ فى سياق “تعزيز التعاون العسكري بين انواكشوط وطهران”، كشف موقع إخباري موريتاني أن الجانب الإيراني “عرض تزويد موريتانيا بأسلحة مصنعة فى إيران من بينها منظومات صواريخ أرض-أرض متوسطة المدى، وشبكة دفاعات جوية، وأسلحة فردية ومعدات وناقلات جنود”…وان الجانبين “وجدا إخراجا متقنا للصفقة التي من شأنها أن تثير مخاوف جيران موريتانيا وحلفاءها، فبدل شحن الأسلحة مباشرة إلى موريتانيا، حولت العملية إلى عملية ثلاثية يقوم بموجبها طرف ثالث هو العراق بتزويد موريتانيا مباشرة بالأسلحة الإيرانية المصدَر العراقية المورِد…” (أقلام حرة – الجمعة 28 سبتمبر 2012 ). أسبوعا واحدا قبل نشر هذا الخبر،استقبل رئيس الوزراء العراقي السابق (نوري المالكي) فى بغداد وزير الدفاع الموريتاني ، وأخبره أن” العراق يمتلك تجربة كبيرة في محاربة التطرف والطائفية، واستطاع ان يخرج منها بفضل تلاحم اهله”. !!!!!!!!!!!!!!!!!!! الواقع المؤلم أن العراق الشقيق لا زال يتخبط – للأسف الشديد- فى التطرف والطائفية…والسؤال الأهم هو: ضد أي من فئات شعبه سيستنسخ النظام الموريتاني التجربة العراقية فى محاربة التطرف والطائفية؟. وإذا سلمنا جدلا بأن بغداد ليست إلا جسرا يريد النظام الموريتاني أن يعبر منه إلى طهران، فإن علينا العودة قليلا بالذاكرة إلى انتشار السلاح الإيراني واستخداماته فى منطقتنا، على الرغم من الحظر والعقوبات المفروضة على طهران من طرف الأمم المتحدة. فقد كشف تحقيق لمؤسسة (Conflict Armament Research) البريطانية نشر أواخر العام 2012 أن كميات من الأسلحة الخفيفة والذخيرة الإيرانية وصلت ، منذ العام 2006، إلى عدد من الدول الإفريقية مثل السودان، غينيا،كينيا، والكوت ديفوار، ومنها انتشرت إلى دول أخرى مثل جنوب السودان ،الكونغو الديمقراطي ،النيجر ونيجيريا.(نيويورك تايمز- عدد 12 يناير 2013). وتحدثت الصحيفة يومها عن “العثور على خراطيش كلاشنيكوف إيرانية من طرف فريق بحث تابع لمنظمة العفو الدولية سنة فى 2009 فى ملعب (كوناكري) إثر المواجهات التي أطلقت فيها القوات الغينية النار على متظاهرين فقتلت منهم أكثر من 150. كما عثر المحققون على خراطيش مماثلة لدى المتمردين فى الكوت ديفوار، ولدى القوات النظامية فى الكونغو الديمقراطي، ولدى حرطة (طالبان) الأفغانية، ولدى مجموعات محسوبة على تنظيم القاعدة فى المغرب الإسلامي بالنيجر (جريدة لموند الفرنسية- عدد 15 يناير 2013 ). وكلنا نتذكر أن السلطات النيجيرية صادرت، يوم 21أكتوبر 2010 فى ميناء (لاغوس) 13 حاوية بها قاذفات صواريخ، وأسلحة أوتوماتيكية، وقنابل يدوية، وقذائف مورتر وذخيرة ،تم شحنها من ميناء “بندر عباس” جنوب إيران إلى “بلد إفريقي ما”، حسب الرواية الرسمية الإيرانية، وإلى غامبيا بالذات، حسب رواية مصالح ميناء (لاغوس). و تداعيات الحادثة معروفة: قطعت غامبيا علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، وأخطرت نيجيريا مجلس الأمن الدولي، وعبرت السنغال(الشريك الإقتصادي الأكبر لإيران فى منطقة غرب إفريقيا) عن “انشغالها الكبير إزاء تهريب هذه الكمية من السلاح التي لا يمكن إلا أن تشكل تهديدا للسلم فى شبه المنطقة”. محور الشر و محور الخير؟ من السذاجة إهمال كل هذه المعطيات، والإعتقاد بأن للآخرين لَظى الجحيم وأن لنا سندس النعيم فى كل علاقة نقيمها مع أي بلد ذي أجندة وتخطيط استراتيجي. إن الدبلوماسية الإيرانية تنشط فى موريتانيا على خطين متوازيين:
• الأول خط سياسي حزبي ( نذكر اجتماع السفير الإيراني فى انواكشوط، خلال شهر سبتمبر 2013، مع رئيس الحزب الحاكم، وسط حديث بعض الأوساط عن “دعم” إيراني لحزب السلطة فى أفق الإنتخابات التشريعية والمحلية التي كانت يومها الأبواب).
• أما الخط الثاني فهو خط”مذهبي” يقوده أشخاص معروفون، صرح أحدهم لجريدة موريتانية بأنه “شيعي المذهب، سيستاني المرجعية”، و أن ” موريتانيا تعتبر الدولة الإفريقية الثانية بعد نيجيريا من حيث انتشار المذهب الشيعي”، وأن ” عدد الشيعة الموريتانيين يناهز 45 ألفا…”، قبل أن يطالب – باسم هؤلاء- بإنشاء “مراكز دينية وعلمية خاصة بالشيعة، تمهيدا لإنشاء حوزة علمية تمكن نشطاء المذهب من الإنتظام والمشاركة فى طقوس الشيعة ومناسباتهم فى إيران والعراق…” (بكار ولد بكار فى مقابلة مع يومية “الأمل الجديد” الموريتانية 21 مارس 2010). و حدثني دبلوماسي غربي، فى نيويوك قبل أشهر، عن محاولات إيران، عبر أطراف مقربة من النظام الموريتاني، الإستحواذ على إحدى القنوات التلفزيونية ومحطة إذاعية فى موريتانيا (معلومات الدبلوماسي الغربي دقيقة وبالأسماء ). لا يمكن لأحد أن يعيب على إيران سعيها لتوسيع نفوذها السياسي أو الإقتصادي أو المذهبي، كما لا يمكن التقليل من أهمية إقامة علاقات دبلوماسية مع أي بلد كان، بما فى ذلك بلدان مِجهرية تبسط “سيادتها” بالكاد على مساحة أقل من “أحياء الترحيل”، و يمكن جمع كافة سكانها فى ساحة مسجد ابن عباس بانواكشوط. لكن العيب،كل العيب، يكمن فى تسخير العلاقات مع أية دولة لتحقيق مآرب شخصية. ومن السطحية وهْمُ النظام الموريتاني أن الدعم الخليجي لموريتانيا عشية الإنتخايات الأخيرة ( 4مليارات أوقية من السعودية و 800 مليون أوقية من صندوق أبو ظبي للتنمية ) مجرد رد فعل من الدولتين على التحرك الإيراني، أي أن سياسة “ابتزاز” دول الخليج العربية بالتقرب من إيران قد بدأت تؤتي أكلها. هذه السطحية السياسية تكريس مكشوف لمذهب “النفعية الشخصية”،وعرض لمصالح موريتانيا فى مزاد علني قواعد الإستجداء الرسمي والمزايدة اللامسؤولة.
باباه سيد عبد الله، دبلوماسي سابق